الحرب النفسية والدعاية السوداء كيف تستهدف تركيا استقرار غربي كوردستان؟

د. محمود عباس
على الحراك الكوردي، بجميع أطيافه، أن يكون على درجة عالية من الوعي تجاه الحملات الإعلامية والدعائية التي تنشرها تركيا وأدواتها، إلى جانب القوى المتربصة بالقضية الكوردية عمومًا، والتي تهدف إلى خلق بلبلة داخل مناطق الإدارة الذاتية، وبين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في غربي كوردستان على وجه الخصوص. هذه الدعايات ليست عشوائية، بل تندرج ضمن إطار حرب نفسية ممنهجة تهدف إلى توسيع شرخ الخلافات بين أطراف الحرك الكوردي ومن ثم إضعاف ثقة المجتمع الكوردي بذاته، وزعزعة استقراره، وإثارة الشكوك بين مكوناته.
كما وأن هذه الدعاية، رغم ضعفها، تحمل في طياتها محاولة واضحة لتقوية مركز الحكومة السورية الانتقالية، بحيث تتمكن من الضغط على الحراك الكوردي، وخاصة الإدارة الذاتية، لدفعها إلى تقديم تنازلات والقبول بشروط تمليها قوى معادية لحقوق الشعب الكوردي.
إحدى هذه الدعايات هي الترويج، بشكل غير مباشر، لفكرة:
أولا، أن إدارة ترامب تسعى إلى تهجير سكان غزة وتوطين جزء منهم في عفرين وكري سبي ومناطق الجزيرة.
ثانيا، يجري تسريب أخبار مفادها أن الولايات المتحدة ستساعد وتدعم الحكومة السورية الانتقالية، وهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) بالسلاح، للتدخل في لبنان ومحاربة حزب الله، مقابل تخليها عن قوات سوريا الديمقراطية، والسماح للحكومة السورية بالسيطرة على غربي كوردستان.
إلى جانب دعايات شريحة تم تجنيدها لنشر مثل هذه الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي، وبينهم شخصيات معروفة، بعضها كان جزءًا مما كان يُسمى بالمعارضة السورية.
هذه الروايات لا تستند إلى أي مصادر موثوقة، وهي جزء من دعاية سياسية تهدف إلى بث الرعب وإضعاف الثقة بالتحالفات الحالية. من الناحية السياسية والاستراتيجية، لا يمكن تصديق مثل هذه الادعاءات للأسباب التالية:
- الولايات المتحدة لن تتخلى عن سوريا بسهولة.
المصالح الأمريكية في سوريا أعمق وأوسع من مجرد صفقات سياسية عابرة. فالوجود الأمريكي في المنطقة ليس فقط لدعم طرف معين، بل هو جزء من استراتيجيتها الجيوسياسية لموازنة النفوذ الإيراني، والحد من التمدد الروسي، وتأمين تدفق موارد الطاقة العالمية.
- هيئة تحرير الشام والحكومة السورية الانتقالية ما زالتا ضمن قوائم الإرهاب.
قبل أيام فقط، أكد أحد مستشاري ترامب أن الإدارة الأمريكية لا تثق بالحكومة السورية الانتقالية، وأنها لن ترفع هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب. وبالتالي، لا يمكن أن تكون هذه القوى شريكة للولايات المتحدة في أي مخطط إقليمي كبير، خاصة أن واشنطن تدرك تمامًا أن هذه التنظيمات تشكل تهديدًا مباشرًا على الأمن الأوروبي والأمريكي والإسرائيلي.
- ملف السجون والمخيمات يشكل تهديدًا استراتيجيًا.
لا يمكن للولايات المتحدة أن تسمح بأن تقع السجون والمخيمات التي تضم آلاف الدواعش وعائلاتهم في أيدي تنظيمات إسلامية متطرفة، لما يشكله ذلك من خطر أمني يمتد إلى أوروبا والولايات المتحدة نفسها. الحفاظ على السيطرة على هذه المنشآت مسألة أمن قومي بالنسبة لواشنطن، ما يعني أن دعمها لقسد سيستمر ضمن هذا الإطار على الأقل.
- المصالح الاقتصادية لأمريكا تتعارض مع الدعاية التركية.
الولايات المتحدة تعمل على تعزيز مشاريعها الاقتصادية في المنطقة، ومن بينها مشروع تصدير غاز الخليج إلى أوروبا، ليكون منافسًا للغاز الروسي. البنية التحتية المتوقعة لهذا المشروع تمر عبر مناطق الجغرافيا السورية والعراقية، حيث للقوات الأمريكية نفوذ مباشر أو غير مباشر. وهذا يوضح أن واشنطن لا يمكنها الانسحاب من هذه المناطق لصالح لاعبين آخرين.
- عدم ثقة البيت الأبيض بأردوغان.
رغم التصريحات الإيجابية التي يطلقها ترامب أحيانًا عن أردوغان، فإن الدوائر السياسية في واشنطن تدرك تمامًا علاقته الوثيقة مع التنظيمات التكفيرية، واستخدامه لها كورقة ضغط على أوروبا وإسرائيل وحتى أمريكا نفسها. لقد استخدم أردوغان المهاجرين السوريين والأفغان، وملف داعش، وعلاقاته مع روسيا وإيران، للضغط على الغرب لسنوات، مما يجعل أي تحالف استراتيجي أمريكي معه محفوفًا بالمخاطر.
كيف نواجه هذه الحرب النفسية؟
بناءً على ما سبق، يجب على الحراك الكوردي التحلي بالوعي والتريث في تصديق أو نشر مثل هذه الأخبار السطحية التي تهدف إلى خلق الفوضى والتوتر. هذه الدعاية ليست موجهة إلى الإدارة الأمريكية التي تمتلك معلوماتها الاستخباراتية وتدرك الواقع على الأرض، بل تستهدف الشارع الكوردي وشعوب المنطقة، لإضعاف موقفهم وإحداث شرخ داخلي بينهم.
إن مواجهة هذه الحرب النفسية تتطلب توحيد الصف الكوردي، وتعزيز الحضور السياسي والدبلوماسي، والارتقاء بأسلوب التعامل مع الأزمات. كما يجب عدم الانجرار وراء الأكاذيب الإعلامية التي تهدف إلى شلّ الإرادة السياسية، والتأكيد على ضرورة التحليل العميق لأي معلومة قبل نشرها أو التفاعل معها.
القضية الكوردية ليست قضية يمكن إضعافها بمجرد إشاعات أو دعايات مضللة، بل هي قضية شعب له جذوره العميقة، ويملك مقومات البقاء والاستمرار. ولكن، لتحقيق ذلك، لا بد من الوعي، واليقظة، وعدم الانجرار وراء الحرب الإعلامية التي تشنها القوى الإقليمية لضرب استقرار المنطقة وتحقيق أجنداتها الخاصة.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية