تقنيةفي الواجهة

ما بعد العقل البشري

جنون العظمة وتواضعها مجتمعان
تعتبر نظريّة المافوق إنسانيّة Le transhumanisme الإنسان كائنا غير مكتمل ومحدودا، يمكن تجويده ويجب الارتقاء بقدراته. وهي نظرة تعدّ الإنسان متواضعا وهو ليس على صورة إله كلّي القدرة. بل هو عكس ذلك، ضعيف ومحدود. بالتّالي، يمكن إتمام نقصه بفضل العلوم والتّقنيات. وهي رغبة تحقيق الخلود التي تحدوه، من خلال العثور على تشكيل جديد. إذ بفضل الانصهار مع “البيومعلوماتيّة Bioinformatique” يمكن للإنسان أن يخطو نحو الخلود ويماثل الآلهة.
بالنّسبة لجيلبار هوتواس Gilbert Hottois أحد منظّري الترنسهيمنيزم :<<تعدّ التّرونسهيمنيزم شكل من فلسفة التّقنية التي ظهرت مع بداية القرن 21. وهو يدافع عن فكرة أنّ الإنسان “سيبورغ Cyborg”، أي بشر آلي طبيعي، يعني كائنا تقنيا، وهو ما يمكّن من إخراج الإنسانيّة من الشّرط الحيواني>>..
يضيف هوتواس أنّ التّقنية تسمح بتغيير الإنسان، وهو أمر ممكن، لأنّ نوعه ليس جامدا طبيعيّا، والتّحسين بالنّسبة إليه، هو حقّ فردي وكذلك واجب جماعي. إذ تأمرنا الأخلاق الإنسانيّة بمقاومة المعاناة والموت. واعتماد الوسائل التّقنيّة التي تسمح لنا ببلوغ هذه الغاية، هو أمر مشروع. فالرّغبة في بلوغ الخلود ليست ثمرة أنانيّة مفرطة، بل هي تجلّ لرغبتنا الطّبيعيّة بالاستمرار والحفاظ على بقائنا.

المافوق إنسانيّة والأيديولوجيا مابعد الحداثة
Transhumanisme et idéologie post-moderne
يتمّ تعريف التّرونسهيمنيزم كوريثة لفكر النّزعة الإنسانيّة في الفلسفة. وهي تعتزم تجاوز الشّرط الإنساني. فهل هي متلائمة من النّزعة الإنسانيّة؟.. للتّذكير، “يُقصد بالنّزعة الإنسانيّة احترام كرامة الإنسان وتقديمها على كلّ الاعتبارات الأخرى لتكون دوما، في المقام الأوّل”. وعلى أساس هذا المبدأ، تعدّ الترونسهيمنيزم اشتقاقا من النّزعة الإنسانيّة، لأنّها ليست فقط، تريد المحافظة على الكائن البشري، بل الرّفع من كفاءاته وتغييره، بإدماج التّقنية في جوهر الثّقافة . وهكذا تكون النّزعة الإنسانيّة الكلاسكيّة قد أطيح بها من دون التّنصّل منها.
تعني نظريّة مابعد الحداثة إلغاء المعايير القاعديّة للإنسان. في حين ترغب الحداثة في تطوّر علمي وتقني في إطار إنساني. ومن هنا نلحظ أنّ المافوق إنسانيّة تزعم التحرّر من المكوّن الإنساني بحدوده الطّبيعيّة.
تقودنا فكرة “مابعد الحداثة Post-modernité” إلى نظريّة “المابعد إنسانيّةPost-humanisme “. إذا الفرق بين التّصوّرات الـنّظريّة لـ”المافوق إنسانيّة Transhumanisme” بما تختزله من تحقيق للإنسان المتفوّق، ومعتقدات “المابعد إنسانيّةPost-humanisme ” واضح جدّا. فالاثنان يثمّنان تأثير التّكنولوجيات الجديدة على الإنسان ومحيطه. إلاّ أنّ المافوق إنسانيّة Transhumanisme واضحة التّفاؤل، أمّا المابعد إنسانيّة Post-humanisme فهي متشائمة. فعبارة المابعد إنسانيّة تحيلنا إلى البعد الإنساني الذي تخلّص من وضعه وحالته كإنسان، أي الذي اندثرت إنسانيته. وهي مرتبطة بمفهوم ما بعد الحداثة الذي ظهر عقب المآسي الكبرى للقرن 20، التي أثارت شكوكا حول الأطروحات الإنسانيّة والكونيّة لفلسفة الأنوار وفكرها.

الترونسهيمنيزم والأيديولوجيا النيوليبراليّة
من خلال الأيديولوجيا اللّيبراليّة تعدّ الترنسهيمنيزم هي أيضا، خرقا للحدود الأخلاقيّة التّقليديّة. فمثلما تهدف النيوليبراليّة إلى الرّفع من الحقوق الفرديّة والتّحرير الدّائم للعادات والأعراف وممّا هو تقليد محافظ. لتكون نتائجه، تلاشي القيم التّقليديّة وإحداث تحوّل في العلاقات الاجتماعيّة والسّلوك عميقين. وتقوّض هذه الأيديولوجيا النّيوليبراليّة مجموعة واسعة من الأسس الثّقافية للمجتمعات التّقليديّة، فإنّها لا تقدّر تأثيرات ذلك ولا تداعياته الكونيّة، كما لا تدقّق الهدف المرجو منه. وهو شأن الترنسهيمنيزم أيضا، التي تسير على خطى هذه المغامرة غير الحذرة ولا محسوبة العواقب. ففي تقدير العديدين، تعدّ الخيارات السياسيّة ذات الإرادة التحرّريّة لأصحاب “التحوّل الإنسانوي”، متجاهلة للتّأثيرات الاجتماعيّة المضرّة التي سوف تحدث عند الأفراد والمجموعات، خاصّة حينما يبلغ الحدّ إلى الحديث عن تحقيق الإمكانات التقنيّة لتغيير النّوع البشري للأجناس، إعادة “تشكيل الإنسان Morphologie”، التّحوير الجيني الوراثي وكذلك الاستنساخ. وأنّ كلّ فرد له خيار استخدام ذلك متى أراد. وهو ما يدفع نحو الفردانيّة المطلقة غير المبالية بالمجموعة. وهي خاصيّة النّيوليبراليّة المتطرّفة. كما أنّ غاية هذه النّيوليبراليّة هي الاستفادة اقتصاديّا وتجاريّا من نتائج الترنسهيمنيزم، إذ هي لا تكترث كثيرا لما هو إنساني، بل بما تجنيه من أرباح من تجارتها وأنشطة السّوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى