الحبّ الأوّل، وَهْم؟!
سليمان جبران
سليمان جبران: الحبّ الأوّل، وَهْم؟!
ما زلتُ أذكر: كبرنا في قريتنا، ونحن نسمع من هو أكبر منّا يردّد:
نقّلْ فؤادك حيثُ شئْتَ من الهوى / ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّلِ
كمْ منزلٍ في الأرض يألفُهُ الفتى / وحنينُهُ أبدًا لأوّلِ منزلِ
لا أعرف إذا كان مقتبس هذين البيتين كان يعرف حتّى أنّ قائلهما هو الشاعر المعروف أبو تمّام! على كلّ حال، حِكم كثيرة وأقوال كثيرة، محكيّة ومعياريّة، تردّد المعنى ذاته، ونحفظها غيبا، وإنْ بكلمات أخرى طبعًا.
لكنْ هل صحيح أنّ الوطن الأوّل، والحبّ الأوّل أيضا، يلازمانُ المرء في حلّه وترحاله، فلا يفارقانه حياته كلّها، أينما ذهب، وحيثما هرب؟! هل يرضى المرء بالعودة إلى ماضيه، وإنْ يكنْ شائكًا، وطلاق يومه مهما كان ناعمًا؟! لا أعرف أحدا يرضى بذلك. لكنّ العودة هذه مقبولة مرغوبة إذا كانتْ بالحكي لا غير!
نحبّ أيّام الطفولة، وتأخذنا النوستالجيا إلى أيّام الطفولة لأنها حياة عدم المسؤوليّة، حياة اللهو، واللهو لا غير: “خليّونَ من تبعات الحياةِ / على الأمّ يُلقونَها والأبِ” !
ما أكثر ما نسمع ونقرأ في تمجيد أيّام الطفولة والحنين إليها! هذا أمر مفهوم طبعا. لكن الحنين لتلك الربوع التي شهدتْ الطفولة، أهو حقيقي فعلا أم نكرّره تمشّيا مع سنّة الأوّلين؟ ما أصدق ابن الرومي في قوله:
وحبّبَ أوطانَ الرجالِ إليْهمُ / مآرِبُ قضّاها الشبابُ هنالكا
إذا ذكروا أيّامَهمْ ذكَّرتْهُمُ /عهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا
لأبي ماضي أيضا قصيدة رائعة شائعة في مدح لبنان : وطنَ النجومِ أنا هنا / حدّقْ أتذكرُ مَنْ أنا؟ وقد عاش الشاعر معظم أيّامه بعيدا عن لبنان: في مصر سنوات، ثمّ في أميركا بقيّىة حياته، بعيدا عن الحبيب لبنان!
ويقول في آخر للقصيدة: فالمرء قد ينسى المسيءَ(م)المفتري، والمحسنا / لكنّه مهما سلا / هيهات يسلو الموطنا! فهل يحنّ أبو ماضي إلى لبنان أم إلى الطفولة في لبنان؟ إذا كان الوطن غاليا فعلا كما وصفه المهجريّون جميعهم، فلماذا رحلوا عنه بجموعهم إلى مصر، وفي الأساس إلى الأميركتين؟!
سألوا أبو زيد الهلالي عن أحلى أيّام حياته، فأجاب: يوم كنت أكيل التراب بطاقيّتي! الحنين هو لأيّام الطفولة، حيث لا همّ ولا غمّ، والطفولة نقضيها في الوطن، فنحنّ إليه أيضا، لأنّه أرض الطفولة وزمانها!
الحنين إلى الحبّ الأوّل أيضا هو حنين لتلك الأيام البكر، أيّام الطفولة الغذبة البعيدة عن هموم الحياة. فالحبيب الأوّل قد نلقى في أحيان كثيرة، في شوط الحياة القصير، من يفوقه جمالا وخلقا، لكنّنا نبقى على حبّه، ونحنّ إليه، لأنّ حبه يذكّر ويقترن بذلك العهد الجميل، تلك الجنّة الضائعة؛ الطفولة التي ولّتْ ولن تعود!
الحنين أو النوستالجيا للطفولة صادق، لا تشوبه شائبة. أمّا الحنين إلى أرض الطفولة فلا أظنه صادقا إذا كان الحاضر خيرا منه. إنّه تقليد ألفناه ومارسناه، جريا على العادة، في الأدب، وفي الحياة أيضا!