الجنوح الإسرائيلي المتواصل نحو اليمين والتطرف

 
نهاد ابو غوش
امتنعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن ممارسة أي ضغط على الحكومة الإسرائيلية الحالية، بحجة الحفاظ على هذه الحكومة الهشة والضعيفة، وخشية من عودة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو، المزعج للإدارة ولبعض الأوساط الأوروبية الغربية. هذه الرسالة نقلت بوضوح عبر وسطاء ومبعوثين أوفدتهم الإدارة الأميركية تباعا والتقوا المسؤولين الفلسطينيين والعرب وأبلغوهم بهذا الموقف طالبين تفهم دقة الظرف.
نتيجة هذا الموقف المحابي لإسرائيل، امتنعت الإدارة الأميركية عن الوفاء بأي من تعهداتها بشأن استئناف عمل القنصلية في القدس، وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن. حتى المساعدات التي كانت تقدمها الولايات المتحدة للسلطة وأوقفتها في عهد إدارة ترامب، وعدت إدارة بايدن بتجديدها مع ربط معظمها بمشاريع دعم السلام واشتراط الشراكة الإسرائيلية – الفلسطينية، ما يشكل ابتزازا فظا للفلسطينيين بدعوتهم للتطبيع مع الاحتلال مقابل هذا الدعم.
الإدارة الحالية لم تتعهد أصلا بالتراجع عن قرارات ترامب الأكثر خطورة في تاريخ الصراع، كنقل السفارة الأميركية للقدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، وبالتالي إخراجها من ميدان البحث كما تبجّح ترامب. أما الاستيطان الذي شهد انفلاتا وتوسعا غير مسبوق في عهد هذه الحكومة، فإن إدارة بايدن واصلت التغاضي عما يجري مع إطلاق تصريحات خجولة لا تؤثر على الواقع شيئا، مثلما تواصل ادعاءها بأنها تدعم حل الدولتين من دون اية خطوة عملية.
بقايا اليسار الصهيوني المشارك في الحكم، ومعهم بعض من يدّعي تمثيل المجتمع العربي في الداخل، يستخدمون نفس الذريعة، بالصمت على سياسات القمع وجرائم القتل اليومي وتهويد القدس ومحاولات فرض أمر واقع جديد في المسجد الأقصى، بحجة الحفاظ على حكومة “التغيير” وقطع الطريق على عودة نتنياهو الذي يتحول إلى “فزاعة”، بينما تقليد سياساته والسير على خطاه هو الذي يُطَبّق على أرض الواقع، ما يعني أن نتنياهو يتحكم بمجريات السياسة الإسرائيلية سواء أقام في شارع بلفور أو في قيسارية، لا بل إن وضع الحكومة الحالية القلق يجعلها رهينة للأصوات الأكثر تطرفا في صفوفها مثل وزيرة الداخلية أييلت شاكيد، أو من خارج صفوفها مثل الكاهاني غفير، داعية التهجير والاقتلاع والعنف المباشر ضد الفلسطينيين، الذي تثبت الوقائع أنه أحد صناع السياسة الإسرائيلية المؤثرين، وليس مجرد شخص مشاكس على هامش الحياة السياسية.
مع الوقت تحول اليسار الإسرائيلي إلى شريك فعلي للسياسات اليمينية الأكثر تطرفا، وهذا ليس ناشئا عن مقتضيات الوضع الحرج الذي تمر به حكومة بينيت – لابيد حاليا، بل يعود جذر هذا السلوك الذيلي إلى الاتفاقيات الائتلافية التي سبقت تشكيل هذه الحكومة، فالتفاهمات مع أحزاب اليسار ركزت على الجوانب المدنية والحقوقية الداخلية، بينما الاتفاقات بين القوى اليمينية ركزت على الاستيطان وتهويد القدس، وقد انعكس كل ذلك في الخطوط العريضة لبرنامج والذي كان يمينيا صرفاً، كما انعكس في السلوك الفعلي لهذه الحكومة التي هي الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، ويثبت خلال أقل من سنة من عمرها أن شعار “التغيير” الذي طرحته مُرَكِّبات الحكومة عند تشكيلها، ليس سوى تبديل الشخص، وليس تغيير السياسات.
الآن ومع الانسحابات المتتالية من هذا الائتلاف الحكومي الهجين، بعد استقالة النائبتين عيديت سيلمان من يمينا، وغادة ريناوي من ميريتس، يظل خطر هذه الحكومة ماثلا، حتى لو انفرط عقدها فحجبت الكنيست الثقة عنها، أو صوّتت على حل نفسها، فتحوّلت إلى حكومة تصريف أعمال. في هذه الحالة سوف يتصرف الجميع وكأنهم في بازار انتخابي، وعيونهم شاخصة نحو صناديق الاقتراع واستطلاعات الرأي العام، وعدد المقاعد التي يمكن أن تجنيها هذه الخطوة أو تلك، فيزاودون على بعضهم بعضهم، وكما نعرف فإن البضاعة المثلى للمزاودة وكسب الأصوات هي إظهار مزيد من التشدد والبطش تجاهنا، وكلنا يذكر أن نتنياهو كان مستعدا لأن يورط إسرائيل والمنطقة في حرب جديدة بغية كسب مقعد أو مقعدين إضافيين في الانتخابات، كما فعل من قبله مناحيم بيغين حين قصف مفاعل تموز العراقي قبل ثلاثة اسابيع من انتخابات العام 1981 التي فاز فيها حزب الليكود.
استقرار حكم اليمين في إسرائيل، والجنوح المتزايد نحو اليمين واليمين الأكثر تطرفا، ينبغي أن يدفعنا إلى الحذر والانتباه من بعض الأصوات التي ما زالت على هامش الحياة الإسرائيلية، فكثير من هؤلاء الذين صنفوا في الماضي كمتطرفين جدا وغريبي الأطوار، ولا يعبرون عن الاتجاهات المؤثرة في المجتمع الإسرائيلي، انتقلوا بالتدريج إلى مركز القرار كما جرى سابقا مع رحبعام زئيفي ورفائيل إيتان وغؤولا كوهين، الكهانية حظرت في الماضي ولكنها عادت للكنيست بشخص بن عفير. المثال الأكثر وضوحا هو وجود نفتالي بينيت، المدير العام السابق لمجلس “ييشع” في رئاسة الوزراء، والآن علينا ألا نستهين بما دعت إليه حركة “لهافا” لهدم مسجد قبة الصخرة وبناء الهيكل مكانها، فدعوة كهذه ما كان لها أن تنطلق بوصفها مجرد رأي سياسي ووجهة نظر، وليست دعوة للقتل والدمار، لولا المناخ العام المسيطر والذي يستبيح دماء كل الفلسطينيين وأرضهم ومقدساتهمن كما تفعل معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية التي ما زالت منهمكة بتبرير جريمة إعدام الشهيدة شيرين أبو عاقلة وسائر الشهداء الفلسطينيين. وطالما أن إسرائيل تحظى بالحماية المطلقة من الولايات المتحدة، وأن التطرف اليميني وسياسات الاحتلال والاستيطان وإرساء نظام الفصل العنصري تتواصل من دون كلفة حقيقية لا على اقتصاد إسرائيل ولا على أمنها ومكانتها وسمعتها وعلاقاتها الدولية، علينا أن نتوقع مزيدا من السياسات اليمينية المتطرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى