الثقل الاقتصادي لـ الدولة
الدكتور احمد ابريهي علي
يمكن الأطلاع على الحجم الأقتصادي للحكومة العامة، حكومة المركز وحكومات الولايات وما دونها، في تقرير الراصد المالي Fiscal Monitor لصندوق النقد الدولي. ويتبين من إصدارية نيسان، ابريل، عام 2018 ان ايرادات الحكومة العامة في البلدان المتقدمة بالمتوسط 36.3 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي عام 2017 . و يفهم من هذا المؤشر ان السلطة الأقتصادية لدولة هذا الزمن طاغية، إذ تفوق ايراداتها مجموع الأقيام المضافة في الزراعة والصناعة التحويلية بل وجميع القطاعات السلعية في الأقتصاد المتقدم. أي ان ايراداتها اكبر من تعويضات المشتغلين والفوائض، من ارباح وسواها، في تلك القطاعات، ولذا يمكن تصور ماذا تفعل تلك الايرادات عندما تقتطع وعندما تنفق . ولأن مجموعة البلدان المتقدمة بمعايير الاحصاء الاقتصادي متفاوتة، في الأنتاجية ومستويات الرفاه والسياسات، من المناسب الأشارة الى دول منطقة اليورو حيث بلغت ايرادات الحكومات العامة 46.2 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي عام 2017. وفي المانيا والسويد 45.2 بالمائة و 49.3 بالمائة على التوالي، وفي فرنسا والدانيمارك وبلجيكا و فنلندا والنرويج زادت الأيرادات الحكومية على 50 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي. وبصفة مستمرة يزيد انفاق الحكومات على ايراداتها بمقدار العجز والذي يتراكم لتعبرعنه ارقام الدين العام الذي كان احد مصادر الأضطراب في اوروبا على اثر ازمة المديونية في اليونان ودول اخرى.
هذه ليست دولة القرن التاسع عشر وحتى نهايته عام 1900 يدور انفاق الحكومة البريطانية حول 10 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي. علما ان بريطانيا كانت حكوماتها مُنفقة لأتساع نطاقها الدولي وانشغالاتها الأمبراطورية، انظر Clark & Dilnot في دراسة Briefing Note No.25 الصادرة من معهد IFS. واصدر معهد FRASAR دراسة حول المالية العامة في كندا بين 1867 و 2017 ، ومنها يتضح ان انفاق الحكومة الفدرالية، هناك، لا يتجاوز 5 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي عام 1900 وعليه نستنتج ان انفاق الحكومة العامة لكندا يبقى ضمن النطاق البريطاني المشار اليه آنفا إذا افترضنا ان انفاق حكومات الولايات وما دونها لا يتجاوز الانفاق الفدرالي وهو فرض معقول في القرن التاسع عشر. اما في الولايات المتحدة الامريكية فإن ايرادات الحكومة الفدرالية لا تتعدى 2 بالمائة عام 1860 وحوالي 3 بالمائة عام 1900 ،ولذا يمكن استنتاج الدور المحدود لايرادات ونفقات الحكومة في حركة الأقتصاد آنذاك، وبتعبير آخر ان الأقتصاد شأن خاص، عمال واصحاب اعمال وملاك عقاريين وراسماليين … .
وطالما ان المشتغلين بالعلوم الاجتماعية يتفقون على صلة التنظير بالواقع فلابد من التسليم بارتباط وثيق بين الفرضيات الأنطولوجية وابستمولوجيا الأقتصاد الكلاسيكي مع حجم اقتصادي للدولة في النطاق الذي رسمته البيانات التاريخية آنفا. ولكن عندما يصل انفاق الحكومة العامة الى ما يعادل نصف الناتج، أي الدخل بجميع مكوناته من اجور وفوائض، فإن الأقتصاد قد اختلف جذريا. فلماذا نرتضي فهم العالم بنماذج نظرية لا تفرّق بين القرن التاسع عشر وبداية القرن الواحد والعشرين. ونذكر ان حجم القطاع العام اكبر من الحكومة العامة، إذ يندرج ضمن هذا المصنف الشركات التابعة للحكومات، بصورة او اخرى، والمصارف الحكومية والبنوك المركزية اضافة على الحكومة العامة. ولهذا من المتعذر ادعاء المعرفة بكيفية عمل النظام الأقتصادي دون التوصل الى قناعات مستقرة حول السلوك الاقتصادي للقطاع العام او الحكومات وعقلانياتها الأداتية: وهذه تستند الى فرضيات مقنعة حول اداء الحكومة هل هو تعبير عن ارادة شاغلي مواقعها، في مؤسسات التشريع والتنفيذ ومراكز الأدارة البيروقراطية، اما ان الأداء تحكمه بنية تتجاوز هؤلاء وتُملي عليهم، وما هي تلك البنية، بشرط عدم المصادرة على المطلوب اثباته باستدعاء احكام مسبقة تعارف المشاهير على احترامها.
ان الثقل الأقتصادي لدولة هذا الزمن لا يقتصر على الجزء المتقدم من العالم بل ان الدول الناهضة ومتوسطة الدخل تصل ايراداتها بالمتوسط 26.6 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي عام 2017 أما نفقاتها فتقدر بنسبة 31.1 بالمائة من الناتج المحلي الأجمالي. والمثير للأنتباه والذي يستدعي المزيد من البحث ان الدول الفقيرة والتي تصنف واطئة الدخل بلغ الأنفاق الحكومي فيها 19.6 بالمائة من الناتج عام 2017 . أي ان الحجم الاقتصادي النسبي للحكومة، دون بقية القطاع العام، في الدول الفقيرة يفوق ما كانت عليه البلدان المتقدمة نهاية القرن التاسع عشر او مطلع القرن العشرين، بل يتجاوز بعض الحكومات المتقدمة قبيل الحرب العالمية الثانية.
التنظير الشائع يفترض ان الأقتصاد شأن خاص: منتج يستقصي الارباح في قرارات التشغيل ومعدل العائد المتوقع على راس المال في قرارات الاستثمار، وشغيل يقارن بين اجر السوق ومشقة العمل، او قيمة وقت الفراغ، ومستهلك يعظم منافعة بالأذعان لقيد الموارد… وهكذا ، هذه ” العقلانية” تنبثق عنها او تتشكل منها بنية كلية ترسم الأنماط الظاهرة للأنتاج وتوليد وتوزيع الدخل والأدخار والأستهلاك والأستثمار والنمو الأقتصادي. او ان البنية التي تحكم السلوك الأقتصادي الكلي او التجميعي هي نظام حقوق الملكية. وسواء كانت البنية بالمفهوم الأول او الثاني دائما التكنولوجيا او العلاقة التقنية بين العمل وادواته والبيئة الطبيعية تحدد الانتاج الاقصى الممكن في لحظة تاريخية.
ومنذ نهاية الثلاثينات وتبلور علم الأقتصاد الكلي تضاف عادة ايرادات ونفقات الحكومة الى المتطابقات بين الموارد والاستخدامات، ويدرس تأثير الضريبة والأنفاق الحكومي على مستوى الدخل الكلي. لكن القوام الرئيسي للتنظير الأقتصادي بقي كما هو بان الأقتصاد يتألف من وحدات خاصة تتصرف بعقلانية او بكفية اخرى.
ان الأيرادات الحكومية ضرائب تقتطع من ارباح انشطة الأعمال ومن الأجور، وايضا تفرض على التصرف بالدخل المكتسب عندما يُنفق ومنها ضرائب الأستهلاك. وعندما تصل ايرادات الحكومة الى هذه المقادير الهائلة لم يعد اجر الشغيل هو العامل الحاسم في تعيين صافي الربح، ولا يقرر لوحده رفاه مكتسب الأجر لأن الضرائب لا يستهان بها. ولا ينبغي التقليل من الدور الكبير لأيرادات ونفقات الحكومة في اعادة توزيع الدخل. فمن المعلوم، في الدول المتقدمة، ان العاطلين عن العمل تدفع لهم اعانات بطالة والمتقاعدون يستلمون مدفوعات ضمان اجتماعي، وتخصص مبالغ منتظمة للأسر التي تعجز عن كسب الدخل، او التي ينخفض دخلها دون الحد الأدنى، وهذه فضائل كبرى للدولة المعاصرة. لكن القصد من هذه الملاحظة لفت الانتباه الى الأهمية الحاسمة لمعرفة محددات سلوك الدولة في الاقتصاد. خاصة وان الشكوى من عدم الكفاءة عامة ولو بدرجات متفاوتة، وحتى في البلدان المتقدمة تُتهم الحكومات بهدر الموارد، ما دفع بعض الخبراء الى التوصية بخفض قيمة الخدمات العامة في التقديرات الاحصائية، للتوصل الى قياس اكثر واقعية لمتوسط الناتج المحلي للفرد وسواه من المؤشرات الدالة على مقدار الرفاه الممكن اقتصاديا على المستوى الوطني. اما في الدول النامية ومنها العراق فالأمل في تحسين التصرف بالموارد العامة ضئيل. واصبحت الشعوب في حيرة بين ما كان يسمى فشل السوق والملكية الخاصة وفشل الحكومات في ادارة الموارد التي بحوزتها.
و من المفيد الأشارة الى دور آخر للدولة في الأقتصاد المعاصر، يتصل بثقلها الأقتصادي آنف الذكر ويتجاوزه، يتمثل في تنظيم الأقتصاد بالقوانين والضوابط والتعليمات، اضافة على حماية حقوق الملكية والعاملين وحماية البيئة وتشجيع الأنشطة ذات الأولوية وغيرها.