مجتمع

الثروة لم تعد حلماً!

لا بد أن الشباب الأمريكي يحسد الطفلة (تشارلى) صاحبة أعلى أجر تتلقاه طفلة من اليوتيوب . فهى تحصل على راتب شهرى قدره (27) ألف دولار نظير استمرارها فى بث قناتها الطفولية المرحة: “مطبخ تشارلى كرافتى”، وعمرها لا يتجاوز العاشرة!

فإذا كان الطريق إلى المال سهلاً هكذا فلماذا تعانى أمريكا من البطالة والفقر؟ كيف تشكو أغنى دولة فى العالم من فقراء ومشردين وعاطلين تجاوزوا (40) مليون أمريكي؟! بل كيف يصنع الأثرياء ثرواتهم فى أمريكا ومثيلاتها من الدول الرأسمالية؟ هل هو الحظ، أم القوة، أم الذكاء، أم العلم؟

هناك عالِم بريطانى فى الفيزياء النظرية هو (مارك بوكانان) وضع كتاباً أسماه (الذَرَّة الاجتماعية، لماذا يزداد الأثرياء ثراءً والفقراء فقراً) . إنه ينظر إلى تفاعل الناس بعضهم مع البعض نظرته إلى تفاعل الإليكترونات فى قلب الذرّة، وأن هذه التفاعلات قياسية يمكن حسابها وتتبعها إذا فهمنا متواليات تكرارها، وأن العلاقات الاجتماعية تخضع لأنماط محددة تتكرر وكأنها معادلة رياضية ثابتة . وهذا معناه أن من يفهم تلك المعادلة الرياضية يستطيع بتكرارها وفك شفرتها أن يلج إلى عالم الثراء من أقصر طريق ! هذا معناه أن العِلم بإمكانه جعلك ثرياً، لكن أى علم؟

أمريكا لم يكن عليها أن تخترع وتتذاكى لكى تصير أغنى دولة، وإنما فقط أن تقتل وتحارب وتبيد شعب الهنود الحمر عن آخره حتى يخلو لها الطريق للاستيلاء على موارد قارتين كاملتين. وهذا النهج فى الحصول على الثروة بالقوة أو بالتلويح بها ما زال سائداً إلى اليوم . إنها القوة إذن .

(سويسرا) بلد آخر غنى، لكن غِناها فى قوانينها المتساهلة التى جعلت من بنوكها ملاذاً آمنا لكل طواغيت وجبابرة ولصوص العالَم . لقد انتشرت مقولة ساخرة لسياسى سويسرى يدعى (جان زيغلر) هى أن “سويسرا تغسل أكثر بياضاً”، وأن أموال المخدرات والسلاح والاختلاس والسرقة كلها تجتمع تحت سقف واحد فى بنوك غسيل الأموال السويسرية، أى أن بلداً كبيراً قائماً فى اقتصاده على تحويل الاقتصاد السرِّى الأسود إلى اقتصاد ناصع البياض لا غبار عليه ! لهذا اتفق العالم أن (سويسرا) ينبغى لها أن تصبح بلداً حيادياً لا شأن له بالحروب والمعارك والقتال، لأنه بلد تحميه كل جيوش ووحوش العالَم !

لكن الثراء يحدث أحياناً وليد الصدفة والحظ الصراح، كالإمبراطور اليابانى “أوجين تيتو” (201-310) الذى حكم اليابان مدة (109) عاماً هى سنوات عمره، حيث تم تنصيبه إمبراطوراً منذ اللحظة التى ولد فيها، إنه نوع من الثراء القدَرى حيث يولد المرء وفى فمه ملعقة من الذهب الخالص . وهناك قصة معاصرة عن المزارع البرازيلى الذى اشترى أرضاً، واكتشف أثناء حرثها عدداً من براميل بلاستيكية بها ملايين الدولارات، ثم اكتشف أنها أموال تخص أحد مليارديرات المخدرات، وأنه كان قد أخفى الأموال ونسيها، فهى لا تساوى شيئاً أمام ثروته الهائلة ! فهل قيراط الحظ حقاً أفضل من فدّان من النباهَة والاجتهاد، أو كما قال “ابن الرومى”: (إن للحظ كيمياءُ إذا ما مَسَّ كلباً أحالَهُ إنسانا) !

لدينا هنا فى بلادنا العربية مشعوذون ودجالون تخصصوا فى مجال واحد هو البحث عن الثروات المدفونة، وما يبدو أنها وسيلة فعالة أحياناً، فهناك عشرات من الأثرياء ظهر عليهم الثراء فجأة، وثروات تدفقت على أناس لم يعرف لهم أحد سبباً لهذا الثراء المفاجئ . وإذا تساءلت فلا إجابة . فهذا نوع غامض من الاقتصاد الخفى لا يعلم أحد عنه شيئاً سوى أصحابه أنفسهم، وهم متكتمون بطبيعة الحال .

فى كتاب (آدم سميث) الشهير (ثروة الأمم) الذى بشّر فيه بمولد الرأسمالية، عرّفَ علم الاقتصاد بأنه “علم الثروة” واتخذ منهجاً عملياً لتكوين الثروة هو : “دعه يعمل، دعه يمر” وعُرف هذا المنهج العملى بالمنهج الطبيعي لكونه قانون طبيعي ومطلق يحكم كافة الظواهر الاقتصادية، ولكونه مبدأ عام يصلح لكل زمان ومكان، ولكونه مبدأ دائم لا يلحقه تغيير حيث يعلو على القوانين الوضعية للدولة . إنه المبدأ حيث الحرية المطلقة لكل صاحب فكرة أن يطبقها على أرض الواقع بلا قيود . لكن الرأسمالية لم تظل على براءتها الأولى بل نالها تعديل طفيف كان هو السبب فى الغزوات الاستعمارية التى هيمنت بها أوروبا على أطراف الكون، فبعد المبدأ الطبيعى القائل بأن الثروة هى “مقدار إنتاج البشر “، ظهر من ينادون بالمبدأ التجارى القائل بأن الثروة هى “الأرض وما تنتجه “، وطبقاً لهذا المبدأ كان على الدول الكبرى إذا شاءت أن تظل على غناها ونفوذها أن تستولى على أراضى جديدة لتمتص كنوزها المخفاة فى أعماقها وفى كهوفها ومناجمها . وهذا ما حدث .

اليوم إذا سألت أحداً فى أى مكان عن النظم الاقتصادية السائدة فى العالَم سوف يجيبك بإجابة تقليدية قديمة ساذجة قائلاً : “الاشتراكية والرأسمالية” . وهى إجابة غير صحيحة تماماً . أولاً: لأن هناك نماذج جديدة ظهرت لنظم دولية اقتصادية لا تنتمى لأى من هذين النظامين . ثانياً : لأن هذين النظامين لم يعودا سائدَين أصلاً . فالبروسترويكا قضت على الماركسية، والرأسمالية الإمبريالية والطبيعية والتجارية انكشفت عورتها فى عام (2008) بعد الأزمة المالية العالمية، واكتشفنا أن اقتصاد أمريكا هو اقتصاد ورقى وأن ديونها الخارجية والداخلية التى تزيد عن خمسة تريليونات دولار قد تدمر اقتصادها يوماً إذا لم تنتبه . وأرادت أمريكا إخفاء عورتها فاخترعت إسعافاً عاجلاً للنظام الرأسمالى، كان فى البداية له اسم هو (الكينزية) نسبةً إلى اللورد (مينارد كينزى) . وهى فكرة كارثية شبيهة بإدخال تعديلات ماركسية على النظم الرأسمالية، عن طريق تدخل الدولة بالقوانين التنفيذية لضبط السوق، وأن يتم إطلاق يد الحكومة لصياغة قيود حاكمة تسيطر بها على نفوذ أصحاب المال والأعمال فى سوق الأوراق المالية، وفى البنوك، وفى نشاطات الشركات العابرة للقارات . لكن جاء (ميلتون فريدمان) ليقول أن كينزى هذا مخرِّف، وأن مثل هذه السياسة بإمكانها هدم الرأسمالية من أساسها والتسبب فى هرب رؤوس الأموال الكبري إلى بلاد أكثر أمناً، وأن القيود الحوكمية ليست هى الحل . وهكذا ظهر مصطلح جديد هو (النيوكلاسيك، أو الليبرالية الجديدة، أو المدرسة الرأسمالية المؤسسية)، وهو اقتصاد التكتلات أو ما يدعى “الكربوقراط”، إنها روشتة علاجية تعتمد لا على تفريق رؤوس الأموال الكبرى أو إنشاء شركات ومؤسسات جديدة، وإنما على تجميع رؤوس الأموال كبري الموجودة بالفعل فى كيانات جامعة، وأن هذه الكيانات الكبرى بإمكانها تسيير جيوش وتغيير سياسات دول، وإبرام صفقات أسلحة، إنها الرأسمالية السرطانية فى أبشع وآخر صورها، حيث ينسحق الفقر انسحاقاً أمام المد العاتى للثروة . هكذا ظهر سر جديد من أسرار الثروة وتناميها، فلا العلم ولا القوة ولا الحظ ولا الذكاء، وإنما التحالفات والتكتلات الاقتصادية .

والتحالفات الاقتصادية ليست بالطبع فكرة جديدة ولا مبتكرة، إنها قديمة قدم التاريخ، لكن الجديد هو الشكل الذى انتهت إليه هذه التحالفات .

فى بداية السبعينات قام مشروع مشترك بين شركتين هما (جنرال موتورز) وشركة (سنيكما) الفرنسية المختصة بصناعة محركات طائرات الميراج المقاتلة . وكان المشروع المشترك المزمع إنشاؤه هو صناعة “محركات الطائرات التجارية”، وكان الهدف لدى “جنرال موتورز” هو غزو الأسواق الأوروبية من خلال شراكة فرنسية أمريكية تضمن الحصول على الخبرات الأوروبية فى التسويق، وحدثت الشراكة رغم اعتراض بعض الأوروبيين عليها، واستطاع التحالف الجديد الذى صار اسمه : (CFM) أن ينتج أفضل محركات للطائرات التجارية . إنه صنف ناجح وبرئ من أصناف التحالف الاقتصادى . لكن أشكال التحالفات الاقتصادية تعددت وتباينت، فهناك التعاون غير الرسمى، والتحالف الرسمى الجزئى، وتحالف الانتفاع المشترك، وتحالفات المشاركة بالأسهم، وشبكات التحالف الاستراتيجى، وتحالف الأنشطة الداخلية، وتحالف امتلاك أصول الغير … إلخ .

واحد من أهم الإصدارات التى ظهرت مؤخراً كتاب مهم للملياردير الأمريكي (ميريل لينش)، هو كتاب : (الثروة، كيف ينمى أغنياء العالم ثرواتهم ويحافظون عليها ويديرونها ) يتحدث فيه عن اقتصاديات العائلات الثرية فى أمريكا والعالم . وجاء على ذكر سلسلة من المؤتمرات أقيمت لفئة منتقاة من مليارديرات العالَم، وكان الموضوع الأهم لمناقشته إلى جانب موضوع التحالفات المالية والاقتصادية، هو موضوع “توريث الثروة “، بمعنى ضرورة إيجاد آلية ليس للحفاظ على الثروات الكبرى لمليارديرات العالم بعد وفاتهم، وإنما لضمان تناميها بفاعلية واستثمارها بالشكل الأمثل . إنه نوع من التحالف المستقبلى يضمن استمرارية الثروة فى يد الأثرياء مع ضمان تناميها لعدة أجيال تالية .

الثروة لم تعد حلماً، كما لم تعد علماً ولا تخرصاً ودَجلاً . وإنما هى اليوم تجربة واقعية تتحقق بأشكال وطرق لا نهاية لها .. وبرغم هذا فإن دائرة الفقر تتسع بلا نهاية . إنه لغز . وبرغم أننا ندعى أننا نعرف الإجابة، لكننا نسينا السؤال !

د. عبد السلام فاروق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى