التفسير الاجتماعي والنفسي للحرب والعنف
محمد عبد الشفيع عيسى
كنا تناولنا في مقالنا السابق ملامح بارزة من الأزمة الروسية الأوكرانية، وارتأينا في الخلاصة أن هناك ما يمكن تسميته بالدروس (غير المستفادة) من الأزمة بما يستحق معالجة منفصلة. واليوم ندلف إلى ذلك، بالقول إن أول “الدروس غير المستفادة” والتي لم تلق اهتماما بحثيا لائقا، يتعلق بطبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي، أو قلْ بتعبير أقدم نسبيًا: التكوين الاقتصادي– الاجتماعي. فإن أردت أن تحكم على حزمة سياسات ما، بما فى ذلك السياسات المتعلقة بالنظام السياسي بشكل محدد، فلتعمل على التعرف على طبيعة النظام أو التكوين المذكور .
وما لجماعة الباحثين فى حقل العلاقات الدولية فى زماننا، يتجاهلون أو يتغافلون عن دور العامل الاقتصادى- الاجتماعى فى تطور النظام العالمى، بما فيه النظام العالمى المعاصر ..؟
و مالهم لا يتكلمون عن الجذور الاقتصادية- الاجتماعية لممارسة العنف، ليس فقط على الصُّعُد المحلية، ولكن على الصعيد العالمى بالذات ..؟ هذا ما نريد التطرق إليه راهنًا، فى حديث جد موجز عن الصلة بين العنف الجارى على الصعيد الدولى، وبين جذوره الاقتصادية – الاجتماعية. و إن العنف الذى نقصده على سبيل التخصيص، يحيط بنا من كل جانب، ليس فقط الآن، وإنما قبل ذلك خلال قرون. إنها قرون تمثل كامل عمر النظام الرأسمالى العالمى السائد. وليت المفكر الفذ الراحل سمير أمين كان بيننا الآن، وإذنفلقد كان حَرِيًّا أن يحدثنا ما شاء الله الحديث، عن الرأسمالية العالمية المعاصرة وصلتها بالاستعمار؛ و أن الرأسمالية كنظام طبقى داخليًا، وميال للتوسع والهيمنة خارجيًا، أى كنظام استغلالى- استعمارى فى آن واحد، هى أصل الشرور التى عايشها عالمنا، ويعايشها الآن من كل حدب وصوب.
أما عن الحرب، ومن قبلها “التدخل العسكرى” فحدث ولا حرج، ولا نتكلم فقط عن حرب وحروب جرت طوال العصر الحديث، أو العصور الحديثة، فى داخل أوروبا وخارجها، بل بالذات خارجه-عبر البحار، فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وغير اللاتينية .. لا نتكلم عن ذلك فقط، بل نتكلم عن حرب ضروس، وقعت مرتين خلال أربعين عامًا فقط، مجرد أربعة عقود زمنية (1914-1945) أسميناهما بالحرب العالمية (الأولى) والحرب العالمية (الثانية). ثم نتكلم عن فترة هدوء أعقبت عاصفة الحرب الثانية، أسميناها، أو أسموها “الحرب الباردة” .. بين عملاقين قطبين متعادلين تعادلاً تقريبًا، لأربعة عقود أخرى (1945-1990) هي الفترة الفاصلة بين نهاية الحرب (الثانية) وانهيار (القطب الآخر) – الاتحاد السوفيتى.
بانهيار “القطب الآخر” أبَى “القطب الأوّل” -أمريكا- إلا أن يعمل على تثبيت وضعيته المتفردة باعتباره
” القوة العظمى الوحيدة” عبر منظومة كاملة للهيمنة العالمية خلال ثلاثة عقود تلت ويزيد (1990- 2022). و تلك هيمنة قائمة على سلسلة متتالية من التدخلات العسكرية، بل الحروب (العراق- أفغانستان مثالاً خاصّا : 2001-2003) و “الحبل على الجرار” كما يقولون. وما هي إلا برهة من الزمان، حتى حانت الفرصة التى لا تحين، من أجل تحديد عدوّ مزدوج للقوة العظمى الوحيدة، عدوّ من طرفين: فى آسيا وأوراسيا، هما الصين وروسيا. وما هى إلا سنوات قليلة ، أو شهور، بل و ربما أيام، حتى اندلعت حرب أو (أزمة) تسمى بالأزمة الروسية-الأوكرانية. حرب سهر على النفخ فى أوارها، القطب الواحد أو الوحيد وأذياله الطويلة هنا وهنالك، فى أوروبا وشمال شرق آسيا (اليابان) بالذات. وتدور رحى الأزمة-الحرب راهنا دون أن يلتفت العديد من الباحثين التفاتًا جادًا إلى جذور تلك (الحرب-الأزمة) و خاصة الجذر الاقتصادى-الاجتماعى المتمثل فى (التكوين) و (النظام)، وما ذلك الجذر إلا الرأسمالية العالمية وقرينها الميل المتأصل إلى الهيمنة الاستعمارية.. وما كانت الحربان العالميتان (الأولى والثانية) وتدخلات وحروب (القوة العظمى الوحيدة) إلا مظاهر رافقتها وأعقبتها مظاهر أخرى، جوهرها (الاستغلال) والتفارق الطبقى الداخلى، والعدوان الخارجى، انطلاقًا من النزعة العنصرية، و “الشوفينية” (العدوانية القومية) لدى النظم الرأسمالية القائدة، فى أوروبا وأمريكا الشمالية بالذات. و تلك ترجع فى بعض صورها إلى ما بين الحربين العالميتين 1914-1945) أى إلى عصر ظهور وتمدد النازية والفاشية، اللتين فى حقيقتهما تمثلان ( تمظهرًا جوهريًأ) للرأسمالية فى (أنقى) صورها، أى فى أكثرها عنصرية وشوفينية .
و ها نحن اليوم نعيش حربًا، حربًا تلد أخرى، وتهدد بأخريات خلال مدى نراه قريبًا، وإن رآه البعض بعيدًا. حرب وحروب تبدأ من (شحذ السكاكين) و تعبر إلى حرائق الاحترار المناخى، ولهيب الغابات، وسيادة (الكربون)، لتنتهي إلى اختناق البشر، وتجدد أشباح “الكارثة المحْدِقة”.
ذلكم هو الدرس الأكبر “غير المستفاد” من الأزمة المسماة بالروسية-الأوكرانية، راهنًا، وما هى بذلك، وإنما بأوسع وأعمق بكثير. وهو “غير مستفاد”، لأنه لم يستفد منه أحد، بل نجرؤ لنجأر بالقول إنه لن تســــــــــــــــــــــتفيد منه أحد..!! فما دامت (رأسمالية الكوارث) قائمة على حالها، فلن تستفيد من دروس (أيام القيامة) التى تنصبها لنا كل يوم على امتداد الكوكب.
و هذه الرأسمالية (الكوارثية) تناسلت عبر قرون وعقود، من رأسمالية زراعية وتجارية، فى القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى رأسمالية صناعية فى القرن التاسع عشر، ثم رأسمالية مالية من آخر ذلك القرن حتى نهاية الحرب (الثانية) التى من بعدها انبثقت (رأسمالية تكنولوجية)؛ و هي في كل الأحوال رأسمالية احتكارية، أو “رأسمالية الاحتكارات” ممثلة “رأس المال الاحتكاري” Monopoly Capitalكما عبّر (بول باران) و (بول سويزي) في سِفْرهما النفيس الموسوم بذلك العنوان الرمزي الدالّ.
و إنه من خلال الزرعة والتجارة ثم الصناعة، فالمال وأخيرًا التكنولوجيا، مضت الرأسمالية فى عقر دارها الغربى المتمركز حول أوروبا ثم أمريكا، لتلهب ظهور القارتين العريقتين- آسيا وإفريقيا- وامتدادهما فى العالم الجديد (اللاتينى) بالهيمنة والعدوان المتجدد على الدوام.
وقد حاول بعض مفكري وساسة الرأسمالية فى أعقاب ماسمّى بأزمة الكساد الكبير (1929-33) تقديم رؤية فكرية وعملية لبديل رأسمالى (معتدل) تحت ظلال مذهب (تدخل الدولة) و (دولة الرفاهة) و (السياسات الاجتماعية) –فيما يُطلَق عليه الكينزية، نسبة للمفكر الاقتصادي (جون ماينارد كينز) مؤلف (النظرية العامة في التوظف و الفائدة و النقود) الصادر في 1936. و قد تم تطبيق سياسات رأسمالية (ليبرالية-معتدلة) على هذا النحو لأربعة عقود (1933- 1973) ثم تلا ذلك صعود موجة من (الليبرالية الجديدة) ودعاها البعض بالمتوحشة، وما تزال تتوحش كل حين .
أما (الاشتراكية) وأشباهها، وإن لم تكن اشتراكية فى جوهرها كما ينبغي لها أن تكون، و التي صعدت أثناء الفترة السوفيتية (1917-1991) وأثناء(الصينية-الماوية) 1949-1976، فإنها لم تعمّر، لتسود العالم رأسمالية (محضة) أو (بحتة) خالية حتى من المنافسة، التى كانت تمثلها (أشباه الاشتراكية)، و خالية –طبعا- من “الكينزية” وسمْتها الاجتماعي الأكيد.
و كذلك عشنا، و نعيش، بعد 1973 بالذات، حقبة هيمنة شِبه مطلقة للرأسمالية (المتوحشة) – “الرأسمالية المحاربة”، إن شئت؛ و اكتملت الحلقة بهيمنة (قوة عظمى وحيدة) تكفلت بنشر المذهب “المتوحش” ولو (تحت ظلال أشجار زيزفون) المنظمات المالية الدولية، المُهْيمَن عليها غربيًا؛ على رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، المعروفان.
ذلك ما نحياه اليوم، و ربما سوف نحياه لأمد غير معروف، ما دمنا (ننعم) بشقاوة الرأسمالية الكوارثية المحاربة، والتي آخر موجات كوارثها الحربية، إشعال فتيل الحرب أو الأزمة لروسية-الأوكرانية الراهنة. فهل آن أن يعقل و يعْلم البعض منّا..؟ و قديما قال الشاعر العربي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ
و أخو الجهالة في الشقاوة ينْعَمُ.
فهل نتّعظ ..؟ وللحديث بقية.