التعددية القطبية لعالم مستقر أقتصادياً و عسكرياً
ماجد احمد الزاملي
باحث حر -الدنمارك
صعود الصين السياسي إمتاز بزيادة تحديها للمعسكر الاخر المتمثل باميركا وحلف الناتو وثقتها في الدفاع عن سيادتها وسلامة أراضيها ومصالحها المركزية في قضايا مثل تايوان وهونغ كونغ وشينجيانغ والتبت وبحر الصين الجنوبي. إلى ذلك، تعمل الصين على تعزيز قوتها سياسيا في مناطق مختلفة من العالم، مثل الشرق الأوسط، أفريقيا، أمريكا اللاتينية؛ لتعزيز نفوذها السياسي، ولضمان عدم اعتراف دول الجنوب العالمي بتايوان. والصين تسعى إلى إرساء قواعد دولية في إطار هيئة الأمم المتحدة على أساس السلم والأمن الدوليين وحماية مصالح الدول النامية، وأن السلوك الخارجي الصيني لا يتنافى ومعايير الشرعية الدولية وبنود القانون الدولي، كما أنّ الصين تبنّت برنامج تحديث اقتصادي بالاعتماد على الذات و تعزيز العلاقات مع دول الجوار دون إثارة النزاعات أو المساس بالسلم والأمن الدوليين، ومن المعلوم أنّ الصين دخلت هيئة الأمم المتحدة عام 1971 لتحل محل تايوان في نفس السنة، وقد سعت في المراحل الأولى لمساندة حركات التحرر والتصويت لصالحها، غير أنّ تأثير ذلك كان محصوراً في الأمم المتحدة. وعلى صعيد الأمم المتحدة يبدو أن الصين عازمة على أن تحقق دورا أكثر فاعلية في المجتمع الدولي وخاصة من خلال تفعيل دورها في مجلس الأمن والحد من الهيمنة الدولية، هذا فضلاً عن أن الصين لديها قوة سياسية تتمثل في كونها أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، فهذه العضوية تمكنها من استخدام حق النقض “الفيتو” ضد القرارات التي لا تلائم مصلحتها، والتي تعرقل صعودها إلى قيادة النظام العالمي. وبالنظر للوزن الاقتصادي للصين انعكس مباشرة على خريطة التحالفات والشرا كات في المنطقة والتي افضت في الاخير الى دور امريكي متزايد و تعاون اسيوي-اسيوي اقترن بالجانب الاقتصادي لا غير وهو الامر الذي يجعل المنطقة الآسيوية بعيدة عن واقع التجربة الاوربية وتدور في حلبة شراكات بدون تحالفات. لكن رغم ذلك يبدو ان المرحلة القادمة لن تبقى في نمط الاحادية القطبية بالرغم من الامكانيات الامريكية ومن المرجح ان تتجه نحو نظام الكتل او حالة اللاقطبية كانعكاس لحالة التقارب في القوة بين القو ى الصاعدة والقوى الكبرى. والمرحلة الراهنة تشمل حضوراً صينياً قوياً بالإضافة إلى باقي الدول الصاعدة، وتحاول الصين احتواء كل عناصر القوة الشاملة بالرغم من أوجه القصور التي تشوب العامل التكنولوجي والعسكر ي، إلا أنّ الصين لها من مقومات القطبية ما يجعلها قوة فاعلة في مجريات العلاقات الدولية وموازين القوى وحتى هرمية النظام الدولي، ويكفي أن نرى أنّ الخطابات السياسية الأمريكية لا تخلو من الحديث عن حجم التحدي الصيني على المكانة الدولية والامتداد الجيوإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية فضلا عن المصالح الأمريكية المنتشرة في كل مكان: آسيا، المحيط الهادي، إفريقيا والشرق الأوسط والتي حديقتها الخلفية أمريكا الجنوبية، والتي باتت الصين من أشدّ المنافسين لها في هذه المناطق. ومن ناحية أخرى عمدت الصين إلى تطوير قدراتها العسكر ية، ففي المرحلة الراهنة قامت الصين بتطوير صواريخها الباليستسة ونوعية وتقنية غواصاتها البحرية، كما نجحت في احتلال نظم تسلّحية وتكنولوجيا متقدمة في مجال الدفاع الجوي فضلاً عن قوتها النووية وتعاونها المطِّرد مع روسيا في المجال العسكري. وفي الوقت الذي يحاول فيه معظم القادة وصانعي السياسات الغربيين الحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد، وربما تحديث الميزات الرئيسة وإدماج جهات فاعلة إضافية، فإن الاستراتيجيين الصينيين يوضحون بصورة متزايدة أن هدفهم هو الصمود في عالم بلا نظام، وفي الواقع تعتقد القيادة الصينية، بدءاً من الرئيس شي جين بينغ وصولاً إلى القيادات والمناصب الأدنى مستوى، أن بنية النظام العالمي التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الثانية أصبحت غير ملائمة، وأن محاولات الحفاظ عليها لا تجدي نفعاً، وبدلاً من السعي إلى إنقاذ النظام تستعد بكين لإفشاله.
والتجربة الاقتصادية في الصين قطعت أشواطاً مهمة من النجاح والتحدي عن طريق نموذج تنموي صنع الاستثناء عن طريق الفصل بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي، والاعتماد على الذات واستثمار رأس المال البشري، وتحوّلت الصين في ظروف أقل من أربعة عقود إلى أهم مركز للجاذبية الاقتصادية في العالم، ومن أهم الأقطاب في شرق آسيا والعالم كلّه، فتاريخ الصين العريض يلقي بضلاله الطويلة على حاضرها، والازدهار الاقتصادي والعلمي الذي تشهده الصين إنما هو عميق في التقاليد والقيم للفرد الصيني. إن أكثر التكتلات الاقتصادية التي تُصنَّف ضمن موجة الإقليمية الجديدة سارت على نهج واحد لتحقيق التكامل الاقتصادي، حيث بدأت من تحرير التجارة ثم توحيد التعريفات الجمركية، وحرية انتقال الأشخاص ورؤوس الأموال، وتنسيق السياسات الاقتصادية الكلية، وصولًا إلى توحيد هذه السياسات وايجاد سلطة إقليمية عليا وعملة موحدة، لكن بريكس على الرغم من اعتمادها المدخل الاقتصادي لتعاونها، إلا أنها لم تتبع هذا الطريق المتسلسل، بل عززت التجارة البَينية والاستثمار فيما بينها، وأقامت مشاريع مشتركة في حقول عدة ودعمت تعاونها على مختلف الأصعدة بآلياتها الخاصة. إن ظهور بريكس يعبِّر عن عملية تحول سلمي عميق وتدريجي من نظام “بريتون وودز”، الذي اتسم بدرجة كبيرة من المركزية والتحيز لمصالح الدول الصناعية الغربية التي ظهرت عقب الحرب العالمية الثانية، إلى نظام يتسم بدرجة أكبر من التعقيد والتعددية، ونشر عملية صنع القرار، ودرجة أكبر من التعبير والتمثيل لمصالح القوى الصاعدة والناشئة. كل ذلك بدون أية مواجهات عنيفة داخل النظام العالمي. لذلك نلاحظ أ َّن أُولى الخصائص لأي نظام دولي تتمثل في أن رابطة قوى (أي مجموعة قوى دولية) كل واحدة منها على درجة كافية من القوة تمّكن (رابطة قوى) بحكم عامل إنتظام به ، على الأقل، من الاستمرار في الوجود، وهو أيضاً الانتظام فيه, انتظامه بتحقيق توازن قواها القطبية التي تقود الرابطة. إن الطبيعة الدولية والقانونية لمجموعة البريكس أنها رابطة تكاملية جديدة تجعل من الممكن من نواحٍ كثيرة التنبؤ بتطورها في المستقبل. ولأن الترابط الاقتصادي بين الدول هو مدخل من مداخل تحقيق التعاون السياسي ، فمن هنا بدأت دول “بريكس” بتشكيل مجموعة من المؤسسات والأنظمة ، فأنشأت بنكاً جديداً موقعه شنغهاي الصّينيّة سمّي ” بنك التّنمية الجديد ” وصندوقاً أُطلِق عليه ” صندوق بريكس”، ليكونا بديلين للبنك الدّوليّ وصندوق النقد الدّولي ، وتم إنشاؤهما لدعم النّموّ والتّنمية على المستوى الدولي ، ما يُمثّل الخطوة الأولى في مخطّطها لخلق نّظام عالمي جديد، ولعل الهدف غير المعلَن يتمثّل في إنشاء مؤسّسات دوليّة رديفة للمؤسّسات الاقتصاديّة الدّوليّة الحالية ،البنك الدّولي وصندوق النّقد الدّولي ، لتحرير العالم من قيودهما وتأثيراتهما ، ومن المعلوم أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة تتحكم في رسم سياستهما العامة بما يخدم مصالحها .الصين تسعى إلى التغيير في النظام الدولي القائم على الهيمنة والانفراد الأمريكي بالشؤون الدولية، فالصين مازالت تتمسّك بمباديء نظام وستفاليا بالرغم من أنها لم تساهم في تأسيسه أو أحد أقطابه في تلك المرحلة. وعليه الصين تؤكد على محورية الدولة الوطنية في العلاقات الدولية ,ولا تتوانى الصين في استعمال القوة العسكرية بأمنها القومي خاصة إن تعلّق الأمر بقضية تايوان، كما أنّ نظراتها إلى حقوق الإنسان تقوم على أسبقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على السياسية والمدنية. والصين تعتّزُ بنفسها كقوة كبرى غير استعمارية تدافع عن حقوق المحرومين، أو من يطلق عليهم الذين لا يملكون سنداً في النظام الدولي، والملاحظ أنّ اقتراب بكين الخاص بآليات لتحقيق الامن الإقليمي تم تحديده من خلال ثلاثة أهداف رئيسية تبتغي الصين الوصول إليها من خلال دبلوماسيتها المتعلقة بالأمن الإقليمي ،أولها القضاء على التوترات الناشئة في المناخ الإقليمي الخارجي من أجل التركيز بصورة أفضل على التغيرات الداخلية، وثانيها طمأنة دول الجوار بشأن الصعود الصيني ونتائجه، وثالثا: محاولة إحداث نوع من توازن القوى الحذر مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تحقيق مصالح الصين الأمنية ، ما يعني أنّ العقيدة هي توازن القوى من أجل تحقيق مصالح الصين الأمنية تقوم على أبعاد إقليمية لضمان استقرار البيئة المحاذية وليست عقيدة ذات أبعاد عالمية وعلى العكس من العقيدة الامنية الأمريكية.
أنَّ ما تعنيه عبارة “التعايش السلمي” للولايات المتحدة هو بقاء وضمان الهيمنة الأمريكية، والاستمرار في تعزيز الانفصال عن الصين وعزلها، وقطع الإمدادات، ورفع الضرائب، وزيادة الاحتواء العسكري ضد الصين، وإغراء دول ومناطق أخرى لمواجهة الصين. وفي محاولة لاحتواء الصين أو على الأقل تقييد حركتها، عززت الولايات المتحدة تحالفاتها مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين، وشكلت تحالفا من الدول المجاورة للصين، وزادت التعاون الدفاعي مع الهند وأستراليا واليابان. أن الأمور الاقتصادية والسياسية الأساسية في آسيا لم يَعد يتم تداولها خلال لقاءات القمم السياسية فقط الصين واليابان وكوريا الجنوبية وبلدان جنوب شرق آسيا.
روسيا ورثت جزءًا كبيرًا من ترسانة الاتحاد السوفيتي العسكرية، مما جعلها واحدة من أقوى الدول من الناحية العسكرية في العالم. وقد خضع الجيش الروسي لجهود التحديث والإصلاح، خاصة تحت قيادة بوتين. ولا تزال روسيا تحتفظ بترسانة نووية هائلة تتفوق على الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، وقد طورت أنظمة أسلحة متقدمة، بما في ذلك الصواريخ الأسرع من الصوت، وأنظمة الصواريخ والطائرات المنافسة للأسلحة الأمريكية والغربية. والرئيس بوتين وجَدَ أن نظام الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة قد انتهى. وتسعى روسيا والصين وحلفاؤهما للعب دور رئيس فيه. أي أن العالم أمام نظام عالمي جديد يتشكل بتحالفات اقتصادية ومالية، ومنها دول “بريكس”. في المقابل تسعى الولايات المتحدة لتعزيز هيمنتها عبر تشكيل تحالفات عسكرية واقتصادية مثل “اوكواس” وأيضا محاولة إدماج إسرائيل ضمن دول المنطقة العربية من خلال تعزيز مشروع التطبيع وانشاء “حلف شرق أوسطي” رحبت به بعض دول المنطقة لتأسيسه، فضلا عن توظيف أوراق القوة، واستمرار خرق المواثيق والمعاهدات الدولية بلا رادع أوعقاب، وتدخلاتها في شؤون الدول، وشن الحروب كما فعلت في حروبها ضد أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن وإيران وغيرها، وهو ما تعتبره الإدارة الأمريكية بالحروب الاستباقية حسب وصف إدارة بوش الابن.
ومن السهل نسيان الهيئات الدولية الكبرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أسستها مجموعة صغيرة من الدول بقيادة الولايات المتحدة. هذه المنظمات الاقتصادية تتمتع بنفوذ عالمي، لكن ذاك العالم كان يخضع لهيمنة القوة العظمى الأمريكية وسياساتها كانت مشبَّعة بالقيم الأمريكية. عندما كانت بكين لاعباً صغيراً، لم يكن قادتها راضين دائما عن الهيكلية، لكنهم تعايشوا معها، لدرجة أنهم واجهوا حتى معارضة شعبية شديدة لانضمامهم إلى منظمة التجارة الدولية. وتشکل التعددية القطبية أساسًا هامًا لتحقيق سلام دائم في العالم حيث أنها ستؤدي إلى بناء نظام سياسي واقتصادي عادل وستضع إطار عمل سياسي دولي مستقر نسبيًا وتعزيز التبادلات والتعاون، إذ يجب أن تکون الدول جميعًا أعضاء متساوون في المجتمع الدولي دون الهيمنة مع اتباع نموذج للتنمية المشترکة في إطار من الثقة المتبادلة والمساواة والجوار ومحاولة تسوية المنازعات من خلال السبل السلمية والحوار، وهو النهج الذي تمسکت به الصين. وبذلك، رفضت السياسة الخارجية الصينية فکرة الأحادية القطبية، داعية إلى بناء نسق دولي جديد يحقق مصالح جميع الدول ولا يسمح بانفراد دولة بقيادة العالم حيث ترى الصين أن التعددية القطبية تمثل قاعدة مهمة للسلام العالمي، وأن إضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية ضمان أساسي لهذا السلام، ولابد أن تستفيد کافة الأمم على قدم المساواة من الآثار الجانبية للعولمة بأبعادها المختلفة خاصة الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين.وعلى مدى عقود عرّفت الولايات المتحدة وحلفاؤها السياسة بتحديد من هو العدو، فمع صعود الولايات المتحدة التي ورثت الإمبراطوريات الأوروبية السابقة عُرّف الاتحاد السوفييتي كعدو، وبعد انهياره حلّت مكانه مجموعة متنوعة من التهديدات الصغيرة تحت مسمى “الإرهاب الإسلامي”، حيث شنت الولايات المتحدة حملات وحروباً طالت أكثر من خمسين دولة، وغزت أفغانستان والعراق، وفي هذه الأثناء كانت الصين تتقدم بثبات وترسِّخ من مكانتها الإقليمية والدولية.