أحوال عربية

زيارة أردوغان لإقليم كوردستان الفيدرالي

د. محمود عباس

زيارة أردوغان لإقليم كوردستان الفيدرالي

بناء الدولة، يحتاج إلى رجالها، ولتسيير أمورها تلزمهم الحنكة السياسية، والسياسة هي المصالح، والمصالح تأتي من خلال الاستفادة من مقاربة موازين القوى، وإدراك مدى تأثير الدول المعنية بالمنطقة أو بالقضية الوطنية، وثقلهم عالميا. بغض النظر عن الدوافع التي جلبت أردوغان إلى جنوب كوردستان، قبل زيارة بغداد (وبغداد هي الآولى من حيث المكانة السياسية وحجم المصالح) والجلوس تحت العلم الكوردستاني، وتقبله استقبال السيد الرئيس مسعود برزاني له باللباس الكوردي، تم إدراجه من أطراف كوردية:

انتصار للإقليم وحكومته، وللسيد مسعود برزاني المطعون أثناء الاستفتاء من قبله، الموقف الذي كان له تأثير مباشر على مواقف جميع الدول الضالعة في القضية، ويدرجون الزيارة تنازل غير مباشر له، حتى ولو أن التوقعات تتجه نحو احتمالية وجود خدعة سياسية؛ للحصول على مكاسب ربما أعمق وأوسع من عملية إفشال الاستفتاء.

وأطراف أخرى، اعتبروه استقبال لعدو تاريخي، وانتقاص لمكانة الحراك الكوردستاني، ويقصدون هنا بشكل عام، قوى منظومة المجتمع الكوردستاني وعلى رأسهم العمال الكوردستاني، والبعض وقف على بعض التفاصيل، كرفع العلم التركي في شوارع هولير وخاصة تسليطه على جدران قلعتها التاريخية، واعتبروه عملية شائنة بحق الأمة الكوردية، علما كان بجانبه العلمين الكوردستاني والعراقي.

لا شك، الإقليم الكوردستاني، فيدرالية في الدولة العراقية، معترفة بها في الهيئات العالمية، تستقبل وتزار وتبرم العقود على مستوى دول العالم، وبالتالي فالزيارات تصرف حسب البنود والعلاقات الدبلوماسية الدولية، وقوانين هيئة الأمم المتحدة، وهذه جدلية مفروغة منها، بغض النظر عن خسارتها للعديد من مكتسباتها. نتذكر أن أردوغان ذكر قبل أكثر من سنة أن أي طلب من الحكومة المركزية سيكون عن طريق حكومة الإقليم، والتصريح خلقت حينها إشكالية بين الحكومة المركزية وتركيا.

في الحالة الأولى تضخيم وتفخيم لمكانة الإقليم، علماً أن التوقعات عديدة حول خلفيات الزيارة التي خصصت لهولير قبل بغداد، وبنودها سرية تقع خارج نص الاتفاقية الرسمية بين حكومتي تركيا وبغداد، تخص قادم القضية الكوردستانية، والاحتمالات تتأرجح ما بين الإيجابي والسلبي، خاصة بعد الصراعات الجارية في الشرق الأوسط، والتي تتضمن عرض بعض الحلول للصراع المستمر في تركيا منذ قرابة نصف قرن.

وفي الحالة الثانية، الطرف المتناسي أن تركيا تحتل أكبر أجزاء كوردستان، يزورها أردوغان بين فينة وأخرى، ولا يدرسون الزيارة المعنية هنا، سياسيا من حيث ثقلها الدبلوماسي الواسع والتي اشترك فيها ثمانية وزراء، وبشكل خاص وزير الخارجية حاقان فيدان الكوردي الأصل، والذي له أبن عم بين الكريلا في قنديل، ضاربين عرض الحائط البروتوكولات الدبلوماسية، ونظام العلاقات الدولية الموثقة في قوانين هيئة الأمم.

بل والبعض، وندرجهم الطرف الثالث (شعبنا الكوردي عادة في نقاشاتهم ينقسمون إلى عدة محاور متناقضة) تجاوز هؤلاء ونقدوا عملية الاستقبال بكليته، متناسين ثقل تركيا الدولة الأولى في الشرق الأوسط والعشرون عالميا، تزور إقليما لا يزال تابع إداريا وسياسيا لسلطة بغداد، ومن الصعب رفضها، والرفض سيخلق العديد من السلبيات لقادم الإقليم الكوردستاني، فلا أظن أن أية دولة ضعيفة في العالم بإمكانها أن ترفض طلب زيارة وفد على مستوى رئيس الجمهورية لدولة على مستوى روسيا أو الصين أو أمريكا، فما بالنا بإقليم تابع لسلطة بغداد مقابل تركيا ورفض زيارة رئيسها وثمانية من وزرائه، وما سينتج عنه من النتائج، مثل هذه الانتقادات تعيدنا إلى المنطق العشائري المتضارب مع السياسي وتنسى أنظمة العلاقات الدولية والمصالح، والتي لا حدود لها حتى بين الأعداء عند الضرورة.

ولا شك هنا يجب أن نقف عند الشريحة التي تناولت الحالات السيكولوجية وما أكثرهم، تحدث فيها كل طرف حسب مزاجية معينة، بعضهم قدم آرائه كخبير مختص بالحركات أثناء السير أو الجلوس، وآخرون قدموا نظرات، أو حركة يد، أو وقفة لهذا، أو ذاك، ويدرجونها كانتصار أو طعنة في الوطنية أو تسخير أو تصغير للأخر، علما إنه علم خاص وله أهميته، كثيرا ما يدرسها مختصو العلاقات الدبلوماسية والتشريفات، خاصة في اللقاءات الحساسة، كما ولا يخفى أن كثيرا ما تكون واضحة، لكن تظل أحاديث ساذجة ضمن جغرافية وسائل التواصل الاجتماعي.

لا يخفى أن لحزب العمال الكوردستاني، وتقدم حزب الشعوب الديمقراطي في الانتخابات الأخيرة دور مباشر في هذا التوجه، وعلى الأرجح ستكون هناك إما إملاءات على شكل طلب، أو اتفاقات على الأغلب ستكون لصالح القوي، والقوي هنا هي الدولة التركية، لكن لا يستبعد، وحيث مجريات الأحداث في الشرق الأوسط، وتراجع العلاقات الروسية التركية والإيرانية في السنوات الأخيرة، وحيث بروز تضارب مصالحهم في عدة مناطق، ومن بينها سوريا والعراق، أن تكون الحوارات في صالح السلام، ووضع حدا للصراع الجاري بين الحراك الكوردي في شمال كوردستان والنظام التركي، وتكون حكومة الإقليم حلقة الوصل لبلوغ اتفاق ما كما حدث في الماضي.

خسارة حزب العدالة والتنمية، في انتخابات البلدية، بينت دور حزب الشعوب الديمقراطي، ومدى قدرتها على ترجيح ميزان الانتخابات، تبين ذلك في نجاح منافسي العدالة والتنمية في إستانبول، وأنقرة. وبالتالي قد يقوم أردوغان، وهو الميكيافلي المحنك، بإدراج الإقليم في عملية، إما مصالحة، أو اتفاق، والبعض يرجح بأنه ربما يعرضون البارتي الديمقراطي كبديل عن العمال الكوردستاني والطعن في القوى الكوردستانية الأخرى، وهي جدلية مرفوضه، لن تقبل حكومة الإقليم الكوردستاني لعب مثل هذا الدور اللا وطني.

مع ذلك فأية دراسة يجب أن يتم تناولها من كل الأبعاد السياسية المحتملة، وهنا يتطلب من حراكنا الكوردستاني تبيان قدراته في التعامل مع كل الاحتمالات المتوقعة، ولا شك القوى المعنية ستكون على علم بما يجري، وقد يفعلها أردوغان في البعد الإيجابي خاصة وقد تمكن من القضاء على الدولة الخفية أرغنكون التي كانت السبب الرئيس في تقويض التقارب بين العمال الكوردستاني وحكومة العدالة والتنمية قبل قرابة عشر سنوات.

ولا يستبعد تأثر أردوغان بمجريات الأحداث الجارية في غزة والدمار الكارثي المستمر، وهو من تلقى رد فعل قوي من قبل نتنياهو على خلفية هجومه عليه، وكعادة القوى الإقليمية يستخدمون الحراك الكوردي أداة للطعن في الأخر، وبالتالي وجد أردوغان أن السلام أفضل من حرب دامت أكثر من نصف قرن تقريبا مع العمال الكوردستاني، ومهما حاول لن يتمكن من القضاء على الحركة، خاصة هناك مصالح دولية إقليمية وكبرى تفرض وجود اطراف من الحراك الكوردي قوية على مستويات الرد على الأخر، والعمال الكوردستاني أحد أهم أطرافها، وهي بجناحها السياسي تمكنت من الطعن في العدالة والتنمية، وتوقعات صعوده أكثر مستقبلا قوية، وأردوغان يرى التقارب منه خير من ديمومة الصراع.

فمن الأولى وعلى خلفية الرغبة في رؤية كوردستان دولة بحكومة لديها وفود دبلوماسية وعلاقات سياسية مع العالم الصديق والأعداء معا، يجب عدم تفويض المصالح الحزبية على مصالح القضية الكوردستانية، ورغبات شرائح لها مصالح ذاتية على مصلحة الشعب الكوردي.

يجب دراسة هذه الزيارة وما سيأتي بعدها، ومن أية جهة، صديقة أو عدوة، من حيث المصالح قبل الرغبات، فمعظم ما يجري على مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الكوردي المتضارب، لم تتجاوز منطق الخلافات الحزبية.

علينا أن نتوقع احتمالية حوار بين الإدارة الذاتية وحكومة أردوغان رغم كل جرائمه بحق شعبنا الكوردي عامة، لا شك أحيانا القيم الإنسانية تفرض ذاتها، لكن تناول العلاقات الدولية من أبعاد سياسية على أمل أن نرى كوردستان جمهورية حرة موحدة، يتمتع شعبنا بوجود سلطة ومعارضة، وقوى ذات أراء مختلفة حول العلاقات الدولية، والتطور الاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي هو ما يتطلب منا الارتكاز عليه، علينا أن نفكر ونحاور على مستويات الدولة ونتجاوز العلاقات الحزبية.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى