جواسيسفي الواجهة

الأطباق الطائرة والإطباق على الموازنة الأميركية

مشعل يسار
كاتب وباحث ومترجم وشاعر

عندما انغمس العالم في هستيريا الكوفيد حتى أذنيه، بدا الأمر وكأن كل ساكن على كوكب الأرض أصبح خبيراً في الفيروسات وفي شتى ضروب العدوى وبات يردد كالببغاء ما يتفوه به خداعاً واستهتاراً قادة الحرب الهجينة الممتزجة فيها البيولوجيا والجراثيم الحقيقية، مصنّعة كانت أم طبيعية، بجراثيم إعلامية تُري بالعين المجردة لعِظمها ورشاوى غزيرة على مستوى العالم كله. وبمرور الوقت، خيِّل للحريصين على مبادئ الحرية والديمقراطية وإنسانية الإنسان أن جيش هؤلاء الخبراء لا يُقهر بما أمده به قادة الدولة العميقة، الذين يشكلون مزيجاً من رأس مال مالي طفيلي وفكر شيطاني المذهب والطقوس، من أسلحة غير تقليدية كالاعتزال والتباعد والهلع والتطهير المبالغ فيه والإغلاقات المجنونة لكل مرافق الاقتصاد ومنافذ الحياة المعتادة للبشر، وكلها مفروض على قطيع بشري وكأنها واجب طوعي للحفاظ على الحياة على كوكب الأرض من جائحة لم يعتدها ولم ير مثلها في كل تاريخ وجوده، فصار عدد الكمامات في خزائن المواطنين أكثر من عدد الملابس الداخلية والجوارب. وفي القاطع المقابل راحت شركات الأدوية المرتهنة لرأس المال هذا الذي لم يعد يرى مبررا لإنتاج شيء مفيدٍ للناس تفرك أيديها ابتهاجا نظرا لالأرباح المحققة وللخطط الضخمة للمستقبل. فأصبح ممول الصحة العالمية بيل غيتس مثلا من كبار لاتيفونديي أميركا الشمالية. والآتي من الأيام أخذ يغري بغزارة المبالغ الموعودة من حرب مسنودة بالكذب والمبالغات وسلاح التدجيل الإعلامي المعزز بالسيطرة على كل وسائل الإعلام العالمية كبيرها وصغيرها، وكذلك المحلية المقنانة من فتات موائدها.
وإذ بروسيا التي سايرت كالباقين هذا المسار التدميري كيلا تبدو كالغراب الأبيض بين غربان سوداء نظرا لهيمنة الليبراليين المتغربنين على قرارها السياسي والاقتصادي والثقافي والطبي والإعلامي والنفسي إلخ قد بدأت فجأة في 24 شباط (فبراير) 2022 عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا ضد حكامها دمى حلف الناتو المتنطحين لنيل لقب أبرز ممثلي الرايخ الرابع في الوقت الراهن، فنسيت هي ومعها العالم الغربي الموبوء بالكذب والفاشية كله أمر الكوفيد على جناح السرعة، واضطر “نطس الخبراء” في علم الفيروسات إلى الالتحاق بدورة إعادة تأهيل على الفور كمحللين استراتيجيين عسكريين هذه المرة على رأسهم طبيبات نساء وتوليد وربات بيوت ومجرد رؤوس ناطقة تشكل النخبة الحاكمة الجديدة، لكن التخلص من الكمامات لم يحصل والحال هذه إلا بصعوبة بالغة تحسبا لأي طارئ جديد.
لقد حان الآن دور مجمعات الصناعة العسكرية في العالم في كسب المليارات الوفيرة. في البداية، “درّفت” الولايات المتحدة وبعض دول الناتو الأخرى بيعاً وإهداءً نفاياتها العسكرية المتقادمة من مستودعاتها إلى أوكرانيا المنتقل إليها وباء الرايخ الثالث الألماني، فبات يجب تعويضها بأسلحة جديدة من أجل مواجهة الجيش “الأحمر” الجديد. أي أن ميزانية الولايات إياها يجب أن تدفع الأن للشركات الأمريكية العملاقة ومجمع صناعة الحرب ثمن إنتاج أسلحة وذخيرة جديدة بدلا من تلك المرسلة إلى أوكرانيا هذه. فوصلت اعتمادات البرنامج المخصص لهذا الغرض إلى 40 مليار دولار، منها 16 ملياراً فقط تصرف على إنتاج الأسلحة في حد ذاتها. أما الباقي فينضح برائحة تناهب الميزانية الأميركية في شكل تمويل لأنشطة الصناديق والجمعيات المختلفة وما إلى ذلك. وستحصل أوكرانيا المحاربة نفسها على الفتات من هذه الميزانية، لأن هذا البرنامج تم اعتماده ليس من أجل أوكرانيا، ولكن من أجل جني الأموال وتفريغ الموازنة في جيوب قادة إنتاج الحروب. ومهما حُكي عن فساد و”تناتش” للمال العام هنا وهناك، وبالأخص في لبنان “الملشلش” اقتصاديا ومعنويا في حرب يقودها التنين المالي نفسه بالتعون مع المحليين من بنوك وساسة وتجار، فإن العالم بأسره لم يسمع من قبل بمثل هذه الأحجام من سرقة المال العام، وهذا مجرد مشهد واحد من بين مشاهد سرقة وتناهب لأكبر ميزانية في العالم. إنها أمريكا حيث المال فوق كل مقال، والدولار فوق كل اعتبار!
ومع ذلك، لم تدم طويلاً سعادة مجمع الصناعة العسكرية هذه: فقد ابتدعت شركات الأدوية، إلى جانب السياسيين الذين يكمن واجبهم المقدس في تحويل انتباه مواطني أمريكا وأوروبا عن ارتفاع نسب التضخم وأسعار البنزين وبدلات السكن والخدمات المجتمعية، وهو ما اتهموا به الرئيس الروسي بوتين بدلا من أن يتذكروا فعلتهم في إغلاق اقتصادات العالم مدى السنتين البائدتين وتغطية عواقبها المدمرة بطبع مليارات الدولارات التي لا غطاء لها مادياً، وباء جديداً الآن هو جدري القرود. وتم في كندا، حتى مقدماً، كما اتضح، الإعلان عن مناقصة لإنتاج لقاح ضد هذا المرض قبل أكثر شهر من الآن، وفي الولايات المتحدة فرّت قرود الاختبار هذه في 21 كانون الثاني (يناير) المنصرم في أثناء نقلها من مختبر إلى مختبر. فهرعت منظمة الصحة العالمية الأمينة لوظيفتها المستجدة في إعلان الجوائح العالمية لتعلن بسعادة لا توصف عن خطر جديد، ما دام قد تم العثور على عدد من المرضى بجدري القرود في أوروبا وأمريكا الشمالية. ولئن تنطح هنا عالم فيروسات ما ليزعم أن هذا الجدري ينتقل بين المثليين جنسياً بسرعة أكبر مما بين الناس الأصحاء فزعمه سيكون مخالفاً لسياسة التسامح المعروفة والغالية على قلب الليبراليين الجدد في شتى بلدان العالم وخاصة أميركا الشمالية وأوروبا. حتى في قضية جدري القرود هناك بصمة أمريكا القوية كما في قضية الكوفيد. وهذا الأمر الجلل قد يستثير مطالبات بتريليونات الدولارات من قبل الصين وأوروبا كتعويضات. لذلك، نرى إرجاء مؤقتاً لإعلان انتشار هذا الوباء الجديد وضرورة الاعتزال “الطوعي” عن باقي الناس او ما يسمى “العزلة الذاتية”، ونرى المواطنين وقد باتوا منذ الآن يدرسون في الكتب عن الفيروسات الجديدة ويقومون بتخزين الأطعمة، وهنا لا بأس أن تكون الكمامات المخزنة هي أيضاً لحين الطلب في متناول اليد.
وحتى لا يقلق دافعو الضرائب الأمريكيون كثيرًا بشأن تناهب الـ 40 مليار دولار، خطب ممثلو البنتاغون أمام المشرعين وأخبروهم كيف أن الأجسام الغريبة (الأطباق الطائرة) تضر بموجبات الدفاع الأمريكي، وكيف أن هذه “الأطباق” أطبقت، على وجه الخصوص، على 10 صواريخ عابرة للقارات وعطلتها!!! ويعني هذا، إذ يترجم إلى لغة العيش اليومي، أن الأموال والمواد والبطاريات والمكونات الأخرى المخصصة لصيانة الصواريخ وإبقائها في حالة جيدة لم تصل إلى الصواريخ، بل تم وضعها في جيوب العسكريين، أو انتهى بها المطاف إلى مرائب سياراتهم الخاصة. يا لها من أطباق طائرة سراقة! تشبه في تخفيها “راجح” في مسرحية الرحابنة!
كم من الحرائق والفيضانات والتفجيرات تم نشر الأخبار عنها وهي لم تحصل في الواقع ولكن نشر أخبارها لزم لإخفاء فقدان أشياء أو محفوظات ثمينة. فهناك العديد من الطرائق لسرقة المال العام تم اختراعها في هذا العالم العجيب الغريب، كتصوير عملية سطو على أحد المستودعات، على سبيل المثال، بوسائل التكنولوجيا الحديثة. لكن أن تذكر الصحون الطائرة والأجسام الغامضة كحجة لاقتناص عشرات المليارات من الخزينة، فمثل هذا لم يحدث من قبل! البنتاغون هنا متقدم على الجميع طرّاً!
والشيء الأكثر إثارة للاهتمام هو أن نغمة تغطية التقدم العسكري الروسي في أوكرانيا بدأت تتغير في الصحافة الأمريكية بمجرد توقيع اعتماد الـ 40 مليارًا. فالمال أضحى في الجيب، ولم يعد من الضروري تخويف المواطنين بالتهديد الروسي، لا سيما أن الروس قد ينتصرون غداً رغم كل هذه الاعتمادات السخية. ووفقًا للتقاليد الأمريكية القديمة الجديدة، يجب المراهنة فقط على الفائز أو المنتصر، حيث يبقى بإمكانك كسب المال لدى تقاسم جلد الدب الخاسر، وحتى كسب النفوذ من خلال إدانة الجانب الخاسر في محكمة دولية، مثلاً على نسق محكمة نورنبرغ في أربعينيات القرن الماضي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى