تعاليق حرةتقاريرتقارير وأخباررأي

الأشتية والأصياف في مدينتنا.. وروّاد المقاهي.

*
رشيد مصباح(فوزي)
الجزائر
*
الأجواء في الخارج هذا اليوم، جدّ باردة، وهناك حديث عن تهاطل الثلوج من حولنا، لكن عندنا تأبى الثّلوج النّزول على مدينتنا، ومنذ سنين. ما جعل كثيرون يؤوّلون ذلك بمنع الزّكاة. بينما هناك من لا يهتم أصلا بالموضوع، فليس لديه ما يخسره، وكل ما يهمّه هو كيف يحجز مقعدا و طاولة في المقهى وسط الأجواء الباردة، والانخراط في مجموعة من المجموعات هنا أو هناك. وبين من يفضّل الجلوس وحيدا، والانعزال بعيدا، بإحدى الزوايا ليراقب ويشاهد الجموع من حوله، ويتابع في ذات الوقت نشرات الأخبار عبر شاشة المقهى في الأعلى.
فصل من فصول الحياة المملّة والرّتيبة، التي يعيشها النّاس في مدينتنا شبه الميّتة أو المعدومة، خاصّة في فصل الشّتاء الذي يمنحك الشعور البائس بالكآبة، فأنت لا تجد أين تذهب في مثل هذه الظروف القاسية، والبرد يحاصرك من كل جهة، وليس هناك سوى المقاهي المكتظة عن آخرها قد لا تقوى على الجلوس فيها إذا أردت الحفاظ على سلامة رئتيك من التلوّث الذي تتسبّب فيه أنواع الأدخنة والروائح الكريهة المنبعثة التي تعكّر الأجواء المشحونة.
منذ سنوات لم ينزل فيها الثلج على مدينتنا، والتي لم تتعوّد على الظروف ذاتها حين كانت قرية صغيرة قبل عقود، وكانت الأمطار تهطل بغزارة كبيرة وتتسبّب الثلوج في غلق الطرق والممرّات، وعلى الرغم من ذلك لم نشعر بالكآبة مثل الآن.
لكن الظروف اليوم تغيّرت ولم تعد كتلك التي كانت قبل أعوام، والانزواء أصبح سيّد الموقف، ”البرة الدنيا مجنونة خليك بالبيت مليح ما في خرجة يا عيوني“ كأن ما قاله المعنّي اللّبناني يكاد ينطبق عليها. الانزواء في البيت والتقوقع على الذّات هما الأنسب في ظروف كهذه تحيط بمدينتنا شبه المعزولة عن العالم.
على ذكر مدينتنا، فهي تناهز المئة ألف ساكن، وتوجد بها مرافق عديدة؛ بمعنى أن الدولة لم تقصّر في منح المشاريع، لكن بصفة غير مدروسة، لأن الذي يخطّط لم يكن في المستوى المطلوب. لذلك وجود الهياكل من عدمها لم يكن يخدم المدينة ولا مواطنيها الذين اختاروا الجلوس في المقاهي و الانزواء في البيوت والمحلاّت في القر والحر.
وبصرف النظر عن الشتاء وظروفه القاسية، فالربيع في مدينتنا هو الآخر يعاني من الجفاء والجفاف بسبب غياب وسائل الترفيه، وثقافة النزهة والاستجمام: [les pique niques] كالتي فرضت نفسها في مطلع السبعينيّات من القرن الماضي، لأن النّاس في مدينتي تعوّدوا على الانزواء فصارت النزهة العائلية ”طابو“ كغيرها من الطّابوهات التي تُقابل بالاستهجان. سيّما من طرف بعض الأشخاص التّافهين الذين لم يجدوا بُدّا من الجلوس في المقاهي والتكلّم في أعراض النّاس.
وتمر الفصول، ثم يأتي الصيف بحرّه، ليختار أصحاب ذات الوجوه التي كانت تجلس بالداخل أيّام الشتاء تجتر الكلام والهواء الملوّث، الجلوس خارج المقهى ومواجهة المارّة ومراقبتهم هذه المرّة ،ولأنّهم وجدوا في ”التبرچيچ“ و”الهدرة فالنّاس“ هوايتهم المفضّلة.
كل هذا هو نتيجة حتميّة منطقية، لأن مدينتنا لم تُبنى حسب الشروط التكنوقراطية المتّفق عليها، وعلى قواعد وأسس صحيحة. ولأن الذين كان بيدهم الحل والربط لم تكن تتوفّر فيهم الكفاءة اللاّزمة. فنحن في مدن عبارة عن مراقد وأماكن عبور، لا تليق سوى للنّوم و الانزواء داخل المساجد والمقاهي، ولأن الناس لم يجدوا بديلا عنها وأماكن تلهيهم.
لقد ارتكبنا جريمة في حق قُرانا التي ظلّ أهاليها ولفترة طويلة ينعمون بالأمن فيها، ويستمتعون بجمالها الأخّاذ؛ بحقولها المترامية الأطراف.. وغاباتها الخضراء واشجارها المتنوّعة… التي تحوّلت اليوم كلّها إلى مكعّبات من الأسمنت المسلّح، وإلى أماكن أشبه ما تكون ”بالچيتو“ و زريبة أغنام وحيوانات… وكل ذلك بسبب غياب الخطّة والكفاءات اللاّزمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى