اغتصاب النساء في الحروب
الاغتصاب سلاح في الحروب
محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
تتعامل غالبية المجتمعات مع الاغتصاب على أنه عار يلتصق بالضحية أكثر من الجاني لذا تتجاهله وتغض الطرف عنه وهو ما يجعل توثيق حالات الاغتصاب أثناء الحروب أمرا بالغ الصعوبة إذ تأبى معظم الضحايا ذكر الواقعة. ونحن ننسى حقيقة أن ” الاغتصاب سلاح أقوى من قنبلة أو رصاصة ، فبالرصاصة على الأقل تموت ولكن إذا تعرضت للاغتصاب فإنك تظهر للمجتمع مثل شخص ملعون لا يتحدث إليك أحد ولا يراك أحد. إنه موت حي “.
تعريف الاغتصاب
اغتصاب النساء في الحروب نوع من العنف الجنسي يستخدم كسلاح حرب وظاهرة متفشية في الصراعات الداخلية والخارجية منذ زمن طويل وهو من الأسلحة الصامتة صمتا جعل ضحاياها غير مرئيين ولا يهتم بهم أحد .
وعادة ما يشار إلى العنف الجنسي باسم “اغتصاب الحرب “. العنف الجنسي هو إستراتيجية عسكرية أو سياسية في حد ذاتها ، وهو يُقرّر من أعلى السلطات بنفس الطريقة التي يقرّر بها قصف قرية أو إبادة شعب أو إطلاق الغاز على جماعة أو استخدام أي نوع من الأسلحة . وقد تحول الاغتصاب للأسف إلى أداة حربية وصار استخدامه مزمنا ومنتظما في الصراعات والحروب المعاصرة كما تحول إلى طريقة للإذلال و الهدم و اتخاذ السلطة و هي أداة مستعملة ليس ضد النساء فقط كما حدث في جمهورية الكونغو الديمقراطية و كينيا و البوسنة ورواندا والعراق وسورية بل أيضا ضد الرجال في ليبيا و أوغندا و الأطفال مثلما حدث في العراق وسورية و جمهورية الكونغو الديمقراطية وأفغانستان .
الاغتصاب والقيم العسكرية للجنود:
وحيث أن الجندي في المعركة يدافع عن قيم بلاده في الحرية ورفع الظلم عن المقهورين لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يتخلى عن هذه القيم ويتبع النزوات ويمارس أفعالا لا يرضى عنها الضمير والواجب والقيم العسكرية التي يتربى عليها من ولاء وشهامة وإغاثة ملهوف . إن ممارسة الاغتصاب من قبل الجنود ينافي الأخلاق العسكرية التي يتربى عليها المقاتلون وهى الخصال التي تميزهم وتفصلهم عن الميليشيات والتنظيمات المسلحة التي تمارس أعمالا غير مشروعة ولا تخضع لقانون أو قيم محددة . ويمكن أن نلخص القيم العسكرية للجنود المشتركة بين معظم جيوش العالم الرسمية بما يلي:
أنا الجندي ، أمثل بلادي ، وأعطي أجمل صورة عنها.
أنا محارب محترف وعضو في فريق.
أخدم شعبي وحكومتي وأعيش وفق قيمي العسكرية .
تأتي المهمة الموكلة لي أولا.
لا أقبل الهزيمة.
أو الفرار من المعركة .
ولا يمكن أن أترك زميلا لي في ساحات الوغى.
أعيش بنظام وانضباط شديدين وأتدرب يوميا على تنفيذ مهامي العسكرية .
اعتني بلياقتي البدنية والعقلية.
أصون سلاحي ونفسي والمعدات التي استخدمها .
احترف مهنتي إلى حد العشق المقدس.
وأنا على أهبة الاستعداد للدخول في المعارك التي تحددها بلادي.
أدافع عن الحرية والحياة والعرض .
فأنا جندي.
الجندي الحقيقي مصدر آمان لا مصدر خوف وإرهاب . لكن تاريخ الحروب كان دائما بعيدا عن هذه القيم ومارس الجنود أشياء تتنافى وعقيدتهم العسكرية . أما القيم العسكرية للجيوش فيمكن أن نوجزها بما يلي :
• الولاء للدولة وسمعة الوطن .
• الواجب بكل معانيه .
• الاحترام .
• التفاني في العمل.
• الشرف وتطبيق القيم.
• الأخلاق والالتزام بالقانون .
• الشجاعة .
• عدم إهانة الآخرين.
• الثقة بالسلوك.
• تقديم حاجات الآخرين على الحاجات الشخصية.
• إغاثة الملهوف .
• المساعدة الإنسانية.
• احترام العادات الاجتماعية للشعوب.
• عدم التحرش الجنسي.
• احترام الصغار.
• المحافظة على الممتلكات العامة والخاصة.
ومتى فقدت الجيوش هذه القيم العسكرية تحولت إلى ميليشيات وتنظيمات مسلحة .
الاغتصاب جرم أخلاقي ودولي :
كان الاغتصاب على مدى قرون مسألة جدلية داخل المحافل القانونية الحكومية والدينية والدولية رغم أنه مسألة محسومة من الناحية الأخلاقية . وكما تتناقض القوانين مع الأخلاق أحيانا كثيرة يتناقض الدين مع الأخلاق في كثير من الأحيان خاصة وأن بعض الأديان يعتبر الاغتصاب من غنائم الحرب وتبيح الجواري والسبايا .
المشكلة في الاغتصاب هي أن ضحاياه يلوذون بالصمت خوفا من العقاب الاجتماعي الذي يلوم الضحية ولا يلوم الجاني . وحتى عام 1998 سجلت الجهات المختصة في الأمم المتحدة نتائج مخزية تشير إلى اعتبار الجيوش الاغتصاب جزءا مشروعا من غنائم الحرب ولم تُعتبر النساء والفتيات والقصّر أمانة بعنق الجنود يجب المحافظة عليها في فترات الحروب . وفي عام 2000 م صدر القراران رقم 1325 و1820 عن مجلس الأمن يعتبران أن ممارسة التحرش الجنسي والعنف والجنس والاغتصاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وركنا أساسيا من أركان الإبادة الجماعية .
خلال الحرب العالمية الثانية، اتهمت جميع أطراف النزاع بالاغتصاب الجماعي إلا أن المحكمتين اللتين أنشأتهما دول التحالف المنتصرة لمقاضاة مرتكبي جرائم الحرب في طوكيو ونورمبرغ لم تعترف بالطابع الإجرامي للعنف الجنسي ضد النساء .
وفي عام 1992 أعلن مجلس الأمن أن الاحتجاز و اغتصاب النساء الجماعي والمنظم والمنهجي و في الخصوص النساء المسلمات في البوسنة والهرسك يشكلان “جريمة دولية لا يمكن تجاهلها”.
كما شمل النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في وقت لاحق والخاص بيوغوسلافيا السابقة الاغتصاب كجريمة من الجرائم ضد الإنسانية إلى جانب جرائم أخرى مثل التعذيب والإبادة و ذلك عندما ترتكب في نزاع مسلح موجه ضد السكان المدنيين . وسعت المحكمة إلى اعتبار الرق جريمة ضد الإنسانية و اعتبرت أنه يشمل الرق الجنسي أيضا .
كما أخذت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في اعتبارها حالات الاغتصاب في الصراع البوسني ومنذ عام 2000م بدأت محاكمة “معسكرات الاغتصاب” في فوكا في البوسنة و قامت المحكمة بتكييف الاغتصاب كجريمة ضد الإنسانية وحكمت على مرتكبيها بالسجن مدة 40 و 45 و 39 عاما. لقد أدين أكثر من ثلث المتهمين من قبل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بجرائم تتعلق بالعنف الجنسي.
ثم شملت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أيضا الاغتصاب في نظامها الأساسي. وفي سنة 2001 أصبحت المحكمة الدولية الأولى والوحيدة التي تعتبر أن أفعال الشخص المتهم بارتكاب جريمة الاغتصاب تمثل جريمة إبادة جماعية . و قد اعتبر الحكم الصادر ضد العمدة السابق جان بول أكايسو أن الاغتصاب والاعتداء الجنسي يمثلان أعمال إبادة جماعية من حيث أنها ارتكبت بقصد تدمير جماعة التوتسي الإثنية كليا أو جزئيا.
ويعتبر نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي دخل حيز التنفيذ منذ عام 2002 أن الاغتصاب والرق الجنسي والبغاء القسري والحمل القسري والتعقيم القسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي ذات الخطورة المماثلة بين الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية عندما ترتكب بصفة واسعة ومنهجية . وتتضمن مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية عدة تهم بالاغتصاب معتبرة إياها كجرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية.
وفي عام 2016 ، حكمت المحكمة الجنائية الدولية على الكونغولي جان بيير بيمبا بالسجن لمدة 18 عاما بسبب سماحه وتغاضيه عن ممارسة الاغتصاب في جمهورية أفريقيا الوسطى معتبرة أنها جريمة ضد الإنسانية. و هذه هي المرة الأولى التي لا تتناول فيها المحكمة الجنائية الدولية مسألة الاغتصاب في الحرب فحسب بل أيضاً التي تدين جان بيير بيمبا كقائد وليس المرتكب المباشر للجريمة. وهذا يبرهن على أن اغتصاب الحرب ليس مسألة تتعلق فقط بمن يرتكبون الاغتصاب مباشرة ، بل تمس القادة الذين يأمرون باستخدام هذا السلاح ضد المدنيين .
يمهد قرار المحكمة الجنائية الدولية الطريق نحو المزيد من التشدد في معاقبة ممارسي وداعمي الاغتصاب في الحرب على اعتبار أن :
• اغتصاب النساء وفي الحروب قرار سلطة وقيادة وليس مسألة نزوة جنسية .
• اغتصاب النساء في الحروب هجوم على الجماعات ويندرج تحت مسمى الإبادة الجماعية له أهداف محددة ومتعددة .
• اغتصاب الحرب ليس مسألة جنسية بل جريمة دولية يعاقب عليها القانون وإهانة للضمير الإنساني .
الأهداف الحقيقية لممارسة الاغتصاب في الحروب :
يهدف الاغتصاب في كثير من الأحيان إلى إرهاب السكان وتفكيك الأسر وتدمير المجتمعات المحلية وفي بعض الحالات تغيير التكوين العرقي للسكان. كما يمكن أيضا أن يستغل لنقل فيروس نقص المناعة المكتسب الإيدز عمدا إلى النساء أو جعل النساء المستهدفات غير قادرات على الحمل. وقد تبين للمراقبين أن ممارسة الاغتصاب يتم التحضير لها مثل أي عمل عدواني أو هجوم مسلح . هناك من يفكر فيه ومن يخطط له بهدف تحقيق أهداف كثيرة منها:
- التطهير العرقي في البوسنة والهرسك ورواندا أو اليوم ضد العرق الأيزيدي في العراق أو ضد أقليات الروهينجا في بورما أو بعض الطوائف في سورية.
- تحقيق الإستراتيجية السياسية و الاقتصادية في جمهورية الكونغو الديمقراطية أو في جمهورية إفريقيا الوسطى حيث تتركز مناطق الاغتصاب في مناطق انتشار مناجم الألماس والذهب والمعادن الثمينة وهدفها تخويف السكان والسماح للميليشيات والعصابات المسلحة باستغلال المعادن وسرقتها لصالح أناس نافذين .
- الاغتصاب وسيلة للإرهاب والتعذيب كما في العراق أو ليبيا أو سورية أو في جنوب السودان على يد مجموعات مسلحة وتنظيمات إرهابية وخاصة ضد الأقليات.
- الاغتصاب وسيلة للقمع السياسي في غينيا أو سريلانكا أو زمبابوي أو كينيا.
- الاغتصاب رسالة خالدة لبعض المنظمات الإرهابية كما حدث حين دعا أبو بكر البغدادي رئيس تنظيم الدولة الإسلامية في رسالة إلى رجاله إلى حمل الناس لاعتناق دين الإسلام عن طريق الاغتصاب. وقد جعل داعش اغتصاب النساء في الحرب أهم سلاح في إستراتيجيته العسكرية . وهذا السلاح هو أيضاً السلاح المفضل لتنظيم بوكو حرام في نيجيريا الذي يستهدف الفتيات و خاصة اللواتي يذهبن إلى المدرسة حيث يقومون باختطافهن وتكرار اغتصابهن و تزويجهن بالقوة إلى أعضاء بوكو حرام. وكانت أكبر عملية اختطاف حدثت عام 2014 إذ تم اختطاف حوالي 200 فتاة لصالح جماعة بوكو حرام .
- يستخدم الاغتصاب كإغراء للتجنيد من قبل داعش وبوكو حرام حيث يكون ضمان ممارسة الجنس أداة هامة للتجنيد بالنسبة لمعظم المنظمات الجهادية المتطرفة. في الآونة الأخيرة تم تجنيد العديد من الأفراد في السودان بمقتضى واجب ضمان وجود “النساء” و في كثير من الأحيان تقل أعمارهم عن 10 سنة . ( جهاد النكاح)
- الاغتصاب مصدر جديد للمال عن طريق الاتجار بالبشر و “أسواق الجنس” وطلبات الفدية وهذه الممارسات هي شكل جديد للحصول على الموارد المالية على غرار النفط.
- الاغتصاب سياسة للتحريض الطائفي ضد الأقليات كما حدث في حمص وبعض القرى التي تسكنها الأقليات في سورية ووسيلة للتأجيج الطائفي .
وقد مارس كل من بوكو حرام في نيجيريا والساحل الأفريقي وتنظيم داعش في العراق وسورية جعل الاغتصاب ناموسا مقدسا وأصدرا الفتاوى التي تحلل هذه الممارسات وأقاموا أسواقا تباع فيها النساء استنادا إلى جدول أسعار حسب السن والجمال والعذرية والمجتمع الذي تنتمي له الضحية . كما دمجت هذه المجموعات الاغتصاب في إستراتيجيتها الإرهابية لأنها فهمت مقدار التأثير الذي يشكله الاغتصاب على انضباط أفرادها وأحلت ما يسمى بجهاد النكاح .
الاغتصاب سلاح مشين :
تقود الصراعات المسلحة و غياب القانون إلى حالة يسود فيها انعدام الأمن وانتشار قانون الغابة و الإفلات من العقاب . وبذلك يصبح الاغتصاب قضية جريمة جماعية وربما هذا ما يدفعنا لزيادة الوعي به وبمخاطره وتأثيراته السلبية على المجتمع .
ومع صعوبة الوصول إلى العدالة أو الرعاية أو انعدامهما كلياً لا يمكن معالجة أثار الصدمة التي يولدها الاغتصاب بصفة فورية بسبب صمت الضحايا فتزول الأدلة وتصبح هذه الجريمة جريمة مثالية من المستحيل إثباتها. ويتولد نوع من الصمت الجماعي المقترن بالمحرمات المرتبطة بالعنف الجنسي التي لا تسمح بإعطاء صوت للضحايا و بالتالي لا تسمح بإعطائهم أية إجابة أو راحة نفسية أو معاقبة للمجرمين الفاعلين . وتشير الإحصاءات الدولية إلى أن حوالي 90 % من ضحايا الاغتصاب يعيشون في مناطق يتعذر الوصول إليها أو تحقيق العدالة فيها أو محاسبة الفاعلين .
عواقب الاغتصاب في الحروب :
الاغتصاب في الحرب جريمة مثالية أركانها : الخداع والمخاتلة والتكلفة الزهيدة ويترتب عليها آثارا واضحة على المدى الطويل و يحميها الإفلات من العقاب.
الاغتصاب أثناء الحرب له أثر مدمر ليس على الضحايا فحسب بل أيضاً على المجتمع . و إذا لم يتم التصدي لمرتكبي الاغتصاب بمحاكمتهم و ملاحقتهم قضائياً فإن العنف سوف يزداد و تنتشر ثقافة الاغتصاب في البلدان التي وقع فيها اغتصاب أثناء الحرب حتى بعد فترة طويلة من انتهاء النزاع لأن أصحابه حين يفلتون من العقاب ينشرون ثقافة الفوضى والاستباحة . يقول شهود عيان أن الاغتصاب غالبا ما يحدث في الأماكن العامة وأمام أفراد الأسرة إن كانوا أطفالا أو شبابا والهدف من ذلك هو زراعة بذور العنف وتهيئة الأرض الخصبة لاستمرار العنف المتواصل.
طبقًا لتقرير اليونسيف لعام 1996 عن أحوال أطفال العالم فإن “تحطم العائلات وانحلالها” نتيجة خروج الرجال للحروب . يترك النساء على وجه الخصوص ضِعافًا و عُرضة للعنف ففي الحرب العالمية الثانية تم اختطاف النساء وسجنهن وإجبارهن على تلبية الاحتياجات الجنسية للجنود . وفي حرب فيتنام أيضًا تم إجبار النساء على ممارسة البغاء القسري واستمر هذا الاتجاه في صراعات اليوم وأصبحت هذه هي السمة الأساسية بالنسبة للنساء: أن يصبحن عُرضة للاغتصاب والبغاء القسري والاتجار بهن بتواطؤ من الحكومات والسلطات العسكرية في فترات الحروب. تقول إحدى المغتصبات لابنتها التي سألتها عن أبيها : ” يا بُنيتي ارحلي إلى كرواتيا واسألي كل رجل تجدينه في الشارع : هل أنت أبي؟”
تم استهداف النساء والفتيات من ” البوسنة والهرسك إلى رواندا وبيرو والعراق وسورية في النزاعات والحروب المختلفة و كان الاغتصاب هو الأكثر ألمًا وتدميرًا للمرأة وللمجتمعات التي عانت منه ” كما أن العنف ضد المرأة وخاصة الاغتصاب أصبح “وصمة عار” خاصة بالحروب في الأزمنة الأخيرة. ولا ترجع أسباب استخدام الاغتصاب كسلاحٍ في الحروب فقط لكونه إستراتيجية عسكرية تتبعها بعض أطراف النزاع لفرض قوتها وإذلال الطرف الآخر ، وقد أصبح هذا التصرف شبه متعارف عليه بين الجيوش فالفتيات والنساء في معسكرات الاعتقال والسجون ومعسكرات اللجوء أصبحن “غنائم حرب” وأصبح من حق الطرف المنتصر التصرّف فيها كما يشاء ويجري كل ما يجري تحت أعين الحكومات أو القيادات ومباركتها. بل وأصبحت مخيمات اللاجئين كذلك هي جزء من الصراع على الفوز بالغنيمة الأكبر من الحرب وهو ما حدث كذلك في البوسنة والهرسك ومخيمات اللجوء السوري في دول جوار سورية
يؤثر الاغتصاب على الضحية حيث يتأذى من الناحية النفسية والفيزيولوجية ثم العائلة ثم المجتمع وبالتالي يفقد المجتمع توازنه مما يؤدي إلى استبعاد الضحايا ورفضهم مجتمعيا والتسبب بالفقر ووصم الأطفال المولودين نتيجة الاغتصاب بأنهم أولاد حرام . كما يتسبب في تصاعد العنف والتوتر وضعف الاقتصاد العائلي والمجتمعي والوطني وتكريس مفهوم أن الجريمة سهلة الوقوع. يقود الاغتصاب إلى سلسلة لا تنتهي من العواقب وعلى مستويات مختلفة .
أسئلة وإجابات لا بد منها :
السؤال الأهم الذي يفرض نفسه هو كيف يمكن التصدي بقوة وحزم لظاهرة الاغتصاب في الحروب . للتصدي لهذا السؤال يحب تضافر جهود مؤسسات دولية ومحلية عديدة تشمل الطب وعلم النفس والإرشاد والاقتصاد والقانون والتحليل والتحقيق والتعاون الدولي والتأهيل المجتمعي للجاني والضحية .
ضحايا الاغتصاب في الحروب :
من الصعب تأكيد وجود إحصاءات عالمية ومحلية لضحايا الاغتصاب بسبب “الصمت” الناجم عن القيود الاجتماعية والدينية . هناك إحصاءات خجولة شبه رسمية لضحايا الاغتصاب في الحروب يمكن أن نلخصها بما يلي:
الصين سنة 1937 =80000 ضحية .
بنغلادش سنة 1971 = 20000 ضحية .
غواتيمالا سنة 1994 = 100000 ضحية .
رواندا سنة 1994 = 500000 ضحية .
سيراليون سنة 2008= 60000 ضحية .
البوسنة والهرسك سنة 2008= 3000 ضحية .
كينيا سنة 2008 = 5000 ضحية .
زيمبابوي سنة 2008 = 6000 ضحية .
غينيا سنة 2008 = 10000 ضحية .
الكونغو سنة 2008-2010 = 200000 ضحية .
السودان سنة 2008 ولا يزال النزيف مستمرا = 600000 ضحية .
العراق بعد الاحتلال وحتى الآن (تقديرات) = 7000 ضحية .
الروهنينجا 2008 و حتى الآن = 50000 ضحية .
وحتى اليوم تجد الجهات التي تقوم بالإحصاءات وتأمين شهادات الضحايا صعوبة بالغة في الوصول إلى أماكن النزاع وصعوبة أكبر في إقناع الضحايا بتسجيل اعترافاتهم . ويجدر بنا أن نذكر أن المحكمة الجنائية الدولية تعتبر الاغتصاب عنصرا أساسيا في جرائم الحرب الموجهة ضد الإنسانية ونوعا من الإبادة الجماعية.
الاغتصاب وصمة عار بحق الجاني :
الاغتصاب في الحروب قديم قدم الحروب ذاتها ، لكن نادرا ما يلقى عليه الضوء ونادرا ما تخرج “ناجية” إلى العلن لتضع الجميع في مأزق أخلاقي بين ما يصنفونه جريمة وما يمكن تناسيه وتجاهله للحفاظ على صورة المجتمع المحافظ . يقول أحد مجرمي الحرب في غينيا : ” نحن لا نقتل النساء والفتيات وإنما نغتصبهن ونقتل أولادهن وأزواجهن حتى لا يصبحوا مقاتلين في المستقبل ” . يشار دائما إلى جرائم الحرب بقوة على أنها قتل وإبادة جماعية وعلى استحياء يذكر الاغتصاب كسلاح أقل ضررا يوجه إلى النساء وكأنهم يسدون خدمة إليهن.
إن تفشي ظاهرة ” الإفلات من العقاب هو الذي ساهم في تطبيع العنف ضد النساء والفتيات” وعدم قبول قادة الجيوش ورجال الدين والحكومات بفرض عقوبات رادعة على الجناة لا يزال وصمة عار بحق الإنسانية يجب إعادة النظر بها .
السكوت عن جريمة الاغتصاب في الحرب جريمة :
تتعامل غالبية المجتمعات مع الاغتصاب على أنه عار يلتصق بالضحية أكثر من الجاني و تتجاهله وتغض الطرف عنه. وربما هذا هو السبب الذي يجعل توثيق حالات الاغتصاب أثناء الحرب أمرا بالغ الصعوبة إذ ترفض معظم الضحايا ذكر الواقعة أو الاعتراف بها .
نتائج الاغتصاب على المجتمع :
إذا تابعنا حالات الاغتصاب في العصر الحديث من البوسنة والهرسك إلى رواندا وبيرو مرورا بالعراق والسودان وسورية نجد أنه تم استهداف النساء والفتيات في النزاعات المختلفة . ومن بين السجن والتعذيب والإعدام كوسائل عقابية كان الاغتصاب هو الأكثر ألمًا وتدميرًا للمرأة وللمجتمعات التي عانت منه خاصة في المجتمعات المحافظة التي لا تستطيع المرأة الاعتراف بما حصل معها .
المشكلات النفسية التي تواجهها الفتيات والنساء نتيجة الحرب من جهة ، ونتيجة كونهن المتضررات من الاغتصاب بعد انتهاء النزاعات من جهة أخرى حيث يُنظر للأمر بطريقة شخصية وتعتبر النساء أن ما حدث هو جريمة ضدهنّ فقط وليس ضد المجتمع وتتجاهل المشكلات المجتمعية والاضطرابات الناتجة عن استغلال النساء في الحروب وكونهن مقياسًا لقيم المجتمع ومصدر التربية فيه . فالمشكلات الأسرية والعنف ضد المرأة الناتجين عن شعور الرجال بفقدانهم لقدرتهم على حماية نسائهم وبيوتهم والموت نتيجة الانتحار أو نتيجة العنف ضد المرأة سواء في فترات الحروب أو الفترات التي تليها . كل هذه النتائج وأكثر تخرج بها الدراسات والتقارير الدولية كآثار مترتبة على سلاح الاغتصاب وكيفية تدميره للمرأة وللأسرة وللمجتمع بأكمله . كل هذا يجعل التساؤل مطروحًا عما يفعله المجتمع الدولي للخروج من هذه الأزمات التي يُسببها الاغتصاب والعنف ضد المرأة في الحروب والنزاعات. وهل ترتبط سمعة الجيوش في الحروب الحديثة بقدرتها على إحداث أكبر تدمير ممكن بخصومها عن طريق الاغتصاب أم أن الأمر يرتبط أكثر بالصراعات العرقية وبكونه وسيلة لفرض بعض الجماعات المسلحة هيمنتها على الطرف الآخر؟
وكشف تقرير لمنظمة العفو الدولية ، أنه تم استبدال أعمال السلب والنهب التي كانت تميز الحروب والنزاعات في قرون سابقة ، بالاعتداء الجنسي واغتصاب النساء والفتيات والبغاء القسري والاتجار بالبشر في الحروب الحديثة.
وتؤكد المنظمة أن الاغتصاب أصبح إستراتيجية عسكرية متعمدة تهدف لزعزعة استقرار المجتمعات وبث الرعب وفرض السيطرة في المناطق المتصارع عليها.
وتقول منظمة العفو الدولية “تواجه النساء الناجيات عذابا عاطفيا وأضرارا نفسية وإصابات جسدية ونبذا اجتماعيا والعديد من العواقب الأخرى التي يمكن أن تدمر حياتهن. لقد كانت حياة النساء وأجسادهن شيئا غير معترف به في الحروب لفترة طويلة”.
كيف واجه المجتمع الدولي العنف ضد المرأة في فترات النزاع والحرب؟
تذكر الباحثة نيكولا هنري في كتابها الجميل ” الحرب والاغتصاب: القانون، الذاكرة والعدالة” أن المجتمع والقانون الدوليين قد تجاهلا العنف ضد المرأة وما يشمله من اغتصاب وإجبار للنساء على البغاء القسري في فترات الحروب لسنواتٍ طويلة ولأسباب إما شخصية أو سياسية وأن التعامل مع مثل هذه القضايا كان يتمُّ في صمت رهيب وتجري محاولات لطمس ملامح تلك القضايا وإسكاتِ الضحايا باعتبار أن مثل هذه الجرائم “خسائر ثانوية ” ونتيجة حتمية يفرضها الصراع الدائر في أي بلد من البلدان . ولكن طرأ تحول جذري على تلك النظرة لقضايا الاغتصاب في الفترة ما بين عامي 1940 إلى 1990 وما بعدها وتُرجِع أسباب ذلك إلى أن النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب وممارسة البغاء القسري لسنواتٍ طويلة قد أصبحن أكثر قدرة على التعبير عن معاناتهن وأكثر قابلية للحديث عنها علانية وإخبار العالم عما واجهنه من ألم خلال فترات الصراع وأن ذلك منح قضايا الاغتصاب بُعدًا آخر في المحاكمات الدولية التي كثيرًا ما تم تجاهلها في مثل هذه القضايا نتيجة لامتناع النساء عن الإدلاء بشهادتهن.