استعدادات مسبقة… هل تمهد إيران لتصعيد عسكري جديد بالمنطقة؟
د. محمد عباس ناجي
وجّهت إيران في الفترة الأخيرة رسائل عديدة تزيد من احتمال إقدامها على اتخاذ خطوات تصعيدية جديدة في المنطقة، على نحو لا يمكن فصله عن مجموعة من التطورات التي طرأت على الساحتين الداخلية والخارجية، ومنها تراجع الاحتجاجات الداخلية التي بدأت في منتصف سبتمبر الماضي، واستئناف العمليات الأمنية داخل إيران، وتصاعد التوتر مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل حول العديد من الملفات الخلافية.
كشفت تقارير إيرانية عديدة، في بداية فبراير الجاري، عن معلومات جديدة بشأن الهجوم الذي تعرضت له منشأة تابعة لوزارة الدفاع الإيرانية في أصفهان، في 27 يناير الفائت. ويبدو أن النظام الإيراني سعى إلى تمرير هذه المعلومات استباقاً لخطوات ربما يقدم عليها خلال الفترة القادمة. فقد أشارت تلك التقارير إلى أن بعض مكونات الطائرات من دون طيار التي استخدمت في الهجوم تم تهريبها بواسطة الجماعات الكردية الإيرانية المسلحة الموجودة في شمال العراق، وبتعليمات من جانب جهاز أمني أجنبي.
وكان لافتاً أيضاً أنه بمناسبة ذكرى “البيعة التاريخية للطيارين إلى الخميني”، في 8 فبراير 1979، أعلن الجيش الإيراني، في 7 فبراير الجاري، عن قاعدة جوية جديدة تضم طائرات ومسيَّرات، وأشار رئيس هيئة الأركان محمد باقري إلى أن القوات الإيرانية باتت أكثر استعداداً لمواجهة أي هجوم قد تتعرض له إيران.
دوافع عديدة
يمكن القول إن ثمة دوافع عديدة تفسر أسباب إقدام إيران على توجيه هذه الرسائل خلال المرحلة الحالية، يتمثل أبرزها في:
1- استمرار اتهام المعارضة المسلحة بدعم الاحتجاجات: لا ينفصل نشر تقارير عن قيام المعارضة الإيرانية المسلحة بتهريب أسلحة إلى داخل إيران عن الاتهامات السابقة التي وجهتها السلطات الإيرانية إلى تلك المعارضة بالتورط في عمليات دعم الاحتجاجات الداخلية التي اندلعت في منتصف سبتمبر الماضي، وبدأت في مناطق القومية الكردية، عبر تهريب أسلحة إلى الداخل استخدمتها بعض العناصر ضد قوات الأمن، وفقاً للرواية الرسمية للسلطات.
وقد استندت تلك السلطات إلى هذه الاتهامات من أجل توجيه ضربات عسكرية في شمال العراق، في 20 نوفمبر الماضي. ويبدو أنها قد تجدد تلك الضربات في الفترة القادمة، وهو احتمال لا يمكن استبعاده، في ظل حرص النظام على مواصلة الترويج لمزاعم حول الأسباب الحقيقية التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات ثم استمرارها رغم كل الإجراءات التي اتخذها للتعامل معها.
2- الترويج لوجود إسرائيلي في شمال العراق: ما زالت إيران مصرة على أن لإسرائيل وجود عسكري وأمني في شمال العراق تستخدمه من أجل تهديدها، ومواصلة عملياتها الأمنية داخل أراضيها، والتي استهدفت خلالها منشآت نووية وعسكرية وبعض العلماء النوويين والقادة العسكريين خلال الفترة الماضية.
وقد كان ذلك بدوره هو المبرر الذي قامت استناداً إليه بتوجيه ضربات عسكرية في شمال العراق، في 13 مارس الماضي، وادعت أنها استهدفت خلالها مقراً لجهاز “الموساد” الإسرائيلي. وقد استندت إيران إلى هذا المبرر لإضفاء وجاهة خاصة على الرواية التي تبنتها في التعامل مع الاحتجاجات الداخلية التي اندلعت بعد ذلك بنحو أربعة أشهر، والتي تقوم على أن ما يحدث يعبر عن مخطط خارجي لتقويض دعائم النظام الحاكم ونشر الفوضى في إيران.
3- عدم استبعاد نشوب حرب جديدة: لم تعد إيران تستبعد نشوب حرب في المنطقة تكون طرفاً فيها. وبالطبع، فإن ذلك يعود في المقام الأول إلى أن الخلافات العالقة مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تزايدت بشكل كبير خلال المرحلة الماضية. إذ لم تعد المشكلة الأساسية تكمن فقط في البرنامج النووي الإيراني الذي تواصل إيران تحقيق طفرات فيه، خاصة فيما يتعلق بمراكمة كميات من اليورانيوم المخصب بنسبتى 20% و60%، تمكنها من امتلاك القدرة الفنية على إنتاج عدة قنابل نووية حسب تصريحات المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل غروسي في 28 يناير الفائت، وإنما باتت تمتد إلى التحركات الميدانية التي تقوم بها المليشيات التابعة لإيران في جنوب سوريا وبالقرب من حدود إسرائيل، والمحاولات الإيرانية المستمرة لنقل عتاد عسكري إلى داخل سوريا عبر الحدود مع العراق، وأخيراً الدعم العسكري الذي تقدمه إيران إلى روسيا لمساعدتها على إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، عبر الطائرات من دون طيار.
4- تأكيد عدم تأثر سياسة النظام بالضغوط الداخلية: ربما سعى النظام الإيراني عبر تلك الرسائل إلى تأكيد أن السياسة الخارجية التي يتبناها لم تتأثر بسبب اندلاع الاحتجاجات الداخلية منذ منتصف سبتمبر الماضي، وهو ما يمثل رداً على التصريحات التي أدلى بها مسئولون أمريكيون وأشاروا فيها إلى أن هذه الاحتجاجات قد تنعكس على تلك السياسة.
إذ قال مدير الاستخبارات الأمريكية ويليام بيرنز، في 3 فبراير الجاري، أن “انعدام الاستقرار الداخلي في إيران والمدفوع بالاحتجاجات الواسعة أربك النظام في طهران بشكل متزايد”، مضيفاً أن “الحكومة الإيرانية أصبحت غير مستقرة، بسبب ما يحدث من احتجاجات داخل البلاد”.
وقد كان لافتاً أن الولايات المتحدة الأمريكية وجّهت خلال المرحلة الماضية من الإشارات ما يفيد بأنها كانت تتوقع بالفعل أن تفرض الاحتجاجات تغييرات بارزة داخل إيران، لا سيما على المستوى السياسي، وهو ما دفعها، على سبيل المثال، إلى “ترحيل” البت في مصير الاتفاق النووي الذي تعثرت المفاوضات التي أجريت حوله بين إيران والقوى الدولية منذ سبتمبر الماضي.
ومن هنا، فإن إيران تحاول عبر مثل تلك التحركات تأكيد أنها لن تتراجع عن السياسة الحالية التي تتبناها في التعامل مع القضايا الرئيسية، لا سيما فيما يتعلق بالمفاوضات النووية، أو ما يتصل بالملفات الخلافية، سواء البرنامج الصاروخي، أو الحضور الإقليمي، أو الدعم العسكري المستمر لروسيا في الحرب الأوكرانية.
ازدواجية مستمرة
رغم ذلك، فإن إيران لم تستبعد الوصول إلى تفاهمات مع القوى المناوئة لها، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. فالضغوط القوية التي تتعرض لها على الساحتين الداخلية والخارجية لا توفر لها خيارات متعددة أو هامشاً واسعاً من حرية الحركة. ومن هنا، فإنه في مقابل هذا التصعيد، ما زالت إيران حريصة على توجيه رسائل تهدئة في أكثر من اتجاه.
فقد بدا لافتاً أن إيران ما زالت تُعوِّل على إمكانية الوصول إلى صفقة نووية وتجديد المفاوضات التي توقفت مع القوى الدولية بعد رفضها مسودة الاتفاق التي عرضها مسئول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في أغسطس الماضي. كما سارعت طهران إلى نفى التقارير التي كشفت عن احتمال تأسيس مصنع إيراني-روسي لإنتاج المسيَّرات في روسيا، حيث أشارت وكالة “نور نيوز” التابعة للمجلس الأعلى للأمن القومي، في 7 فبراير الجاري، إلى أن “إيران ليس لديها أي مشروع مستقل أو مشترك لإنتاج المسيَّرات في روسيا”، وهو ما يوحي في النهاية بأن إيران سوف تواصل تبني سياسة مزدوجة في التعامل مع الملفات الرئيسية خلال المرحلة القادمة.