تقارير

إعادة تشغيل شريط الحياة

سليم زاروبي
عالم فلك فلسطيني متخصص في دراسة فيزياء الكون

تساءل عالم البيولوجيا الراحل ستيفن جاي جولد (Stephen Jay Gould) في كتابه الشهير “الحياة الباهرة” (Wonderful Life) حول ما كان سوف يحدث إذا استطعنا إعادة تشغيل شريط الحياة من جديد، أي إذا عدنا إلى لحظة ظهور الخلية الحية الأولى على الكرة الأرضية، وجعلناها تبدأ من جديد. أسنحصل على نفس الكائنات الحية الموجودة اليوم؟

كان جولد يعتقد أن نتائج عملية التطور البيولوجية حساسة للغاية لتفاصيل التاريخ، لذلك، الأحداث العشوائية التي تحدث في سياق هذا التاريخ تلعب دورًا محوريًا للغاية. لهذا ادعى جولد أن كل مرة نشغل فيها شريط الحياة من جديد سوف نحصل على عالم أحياء مختلف تمامًا عما هو موجود الآن، وذلك لأن عوامل الصدفة ستجعل من غير المحتمل أن يتكرر نفس التاريخ.

من الواضح وجود الكثير من الأحداث العشوائية الخارجية التي تؤثر في مسار التطور البيولوجي في الأنظمة البيئية المختلفة. على سبيل المثال، لو لم يضرب الأرض نيزك قبل 66 مليون عامًا، لما اندثرت الديناصورات حينها ولما أتيح للحيوانات اللبونة الصغيرة في حينه أن تتطور، وتصبح الكائنات الحية المسيطرة على اليابسة، وتنتج الأسود، والفيلة، والحيتان، والإنسان. أو لو كانت نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي للكرة الأرضية أكثر قليلًا مما هي عليه لكان معدل الحرارة على سطح الكرة الأرضية أكبر مما هو عليه خلال تاريخها ما قد يؤدي بعملية التطور إلى تفضيل صفات مغايرة قليلًا لتلك الموجودة الآن، وهذا يؤدي إلى تطور أنواع مختلفة من الأحياء.

كان جولد في الحقيقة يتحدث أيضًا عن صدف دقيقة أكثر من ذلك، مثل تلك التي تحدث نتيجة تغيرات عشوائية داخلية على مستوى الجينات. إذ إن عملية التطور تُنتِج جزافًا عددًا كبيرًا من التغيرات الجينية الصغيرة التي يختفي أغلبها لأنها لا تعطي الكائن الحي أفضلية في التأقلم مع بيئته، لكن توجد نسبة صغيرة من هذه التغيرات الداخلية الاعتباطية التي تعطي صاحبها أفضلية معينة في التعامل مع بيئته، وهي في النهاية التي تنتقل للأجيال القادمة. لكن لأن حدوث هذه التغيرات عشوائي بطبيعته، عندما نشغل شريط الحياة للمرة الأولى قد تحدث مثلًا الطفرة ألِف قبل الطفرة باء، وفي المرة الثانية قد تحدث الطفرة باء قبل ألف. هذا التغيير في ترتيب الطفرات الجينية الذي يتراكم على مدى ملايين ومليارات السنين يؤدي إلى نشوء أنواع مختلفة تمامًا من الأحياء. لهذا كان جولد يعتقد أنه إذا ما أعدنا تشغيل “شريط الحياة” من جديد، سوف تؤدي هذه الفروق العشوائية، الكبيرة منها والدقيقة، إلى تفاصيل مغايرة تمامًا للحياة على الأرض.

مثال واضح على هذا هو الفارق بين الجمل واللاما اللذين ينحدران من نفس الأصل لكن نتيجة للبيئة المختلفة التي تطور فيها كل منهما، والتحولات العشوائية خلال هذا التطور، نتج نوعان مختلفان من الحيوانات. كذلك الأمر إذا ما تفحصنا الحيوانات الموجودة على جزيرة مدغشقر نرى أنها خاصة جدًا (بعضها لا يوجد في أي مكان آخر) لأنها انفصلت عن القارة الأفريقية منذ زمن بعيد، وتطورت بطريقة تناسب البيئة الجديدة. هذه الحالات عمليًا تحاكي عملية تشغيل شريط الحياة من جديد، ابتداءً من نفس الأنواع الأولية التي كانت سائدة. يُعتبر تطور أنواع الحياة على جزيرة مدغشقر، التي كانت جزءاً من القارة الأفريقية قبل 88 مليون عام، بأنه مثل تشغيل شريط الحياة ابتداءً من نفس أنواع الحياة لكن تحت شروط مختلفة. نتجت عن هذا التاريخ المختلف لتطور الحياة في مدغشقر، ثروة حيوانية ونباتية مغايرة جدًا عن تلك التي نجدها على البر الأفريقي الرئيسي.

بطبيعة الحال بعض الفروقات تحصل نتيجة الفروقات العشوائية التي حدثت خلال عملية التطور وبعضها نتيجة الاختلافات البيئيّة. السؤال إذن، ما هو وزن العوامل العشوائية مقابل العوامل البيئية؟ كان جولد يعتقد أن العوامل العشوائية مهمة جدا، لكنه أقر بأننا لا نستطيع فحص ذلك أبدا لأننا لا نستطيع عمليا إجراء تجربة إعادة تشغيل شريط الحياة من جديد على نحو حقيقي، لأن البيولوجيا التطورية هي علم رصدي في جوهره (يعتمد على رصد الظواهر البيولوجية)، وليست علماً تجريبياً. أو، هذا ما اعتقده جولد.

في العقود الأخيرة حصل تقدم كبير في فرع من البيولوجيا يعرف باسم البيولوجيا التطورية التجريبية، التي تحاول أن تدرس نظرية التطور الداروينيّة بواسطة تجارب مخبريّة من أجل فهم الآليات المختلفة التي تتحكم في عملية التطور. وجد هذا المجال عدة تطبيقات منها في دراسة تدجين الحيوانات (هذا عمليا أحد أقدم تطبيقات هذا العلم)، دراسة تطور أنواع المنّ وذباب الفاكهة والفئران وغيرها من الأنواع التي يتابع العلماء تطورها على مدى عشرات الأجيال. لكن ربما أكثر هذه التجارب إقناعا هي تلك التي يجريها العلماء على أنواع البكتيريا المختلفة، بالذات التجربة التي يجريها منذ 1980 ريتشارد لينسكي (Richard Lenski) وزملائه على بكتيريا الـ E-Coli، التي تسمح بمشاهدة عملية التطور الداروينية خلال حدوثها في ظروف بيئية مختلفة على مدى أكثر من 65,000 جيل في إطار تجريبي مراقَب ومحدد، وترينا بوضوح حاسم أن عملية التطور الداروينية تتحكم في تطور الكائنات الحية.

في مقال نشر عام 2018 في مجلة Science المرموقة، درس لينسكي وزملاؤه السؤال الذي عرضه جولد “ما مدى تأثير العوامل العشوائية مقابل تلك البيئية (التي تحتم تطور تغيرات معينة)؟” يدعي كاتبو هذه المقال أن الأدلة تشير إلى أن عملية التطور تميل إلى أن تكون قابلة للتكرار (أي تعطي نتائج متشابهة) على نحو مدهش بين السلالات الجينية التي بينها صلة وثيقة، أي تلك التي انفصلت عن بعضها حديثًا نسبيًا خلال عملية التطور، ولها نمط أو مبنًى جيني genotype متشابه، لكن النتائج تصبح أكثر تباينًا عندما تكون السلالات الجينية قد انفصلت عن بعضها في الماضي الأبعد خلال عملية التطور. أي أن العمليات العشوائية مهمة، لكن البيئة أيضًا تلعب دورًا كبيرًا جدًا في تحديد الصفات الظاهرة، أو ما يسمى بالنمط الظاهري phenotype، للكائن الحي حتى، وإن كان لها نمط جيني مغاير.

أحد الأمثلة الجميلة لكائنات ذات نمط جيني مختلف تمامًا لكنها ذات نمط ظاهري متشابه نجدها في بعض عائلات الحيوانات البحرية، مثل الدلافين وأسماك القرش. إذ تظهر لنا على أنها كائنات متشابهة إلى حد بعيد، أي أن لها نمطًا ظاهريًا متشابهًا إلى حد معين، لكن من الواضح أنهما بعيدان كل البعد من ناحية النمط الجيني، لأن الدولفين هو حيوان لبون أما القرش فينتمي إلى مملكة الأسماك. هذا التشابه بينهما حدده وجودهما في بيئة مائية مشابهة: المحيطات.

من الواضح أن نتائج تجارب لينسكي وزملائه محورية للغاية، ولها إسقاطات كبيرة على الكثير من المجموعات البيولوجية من ضمنها المجموعات البيولوجية على كواكب سيارة أخرى في الكون. إذ إن الصفات الظاهرة لتلك الكائنات قد تكون مشابهة لما هو موجود على الكرة الأرضية، إذا ما كانت هذه الكواكب متشابهة من ناحية البيئة، على الرغم من أن مبناها الجيني قد يكون مختلفًا بالكامل.

لكن هل يعني ذلك أن الحياة على كواكب أخرى مشابهة جدًا للكرة الأرضية تتطور أيضًا بحيث تنتج أحياءً مدركة وذكية، لها لغاتها وقدراتها التقنية المتطورة، وقادرة على السفر عبر الفضاء؟ لا نعلم. لكنها إذا وُجدت فإنها أغلب الظن ستكون قد بنت حضارات وتنظيمات سياسية (دول) وأنتجت ثقافة وأدبًا وعلمًا وتملك معتقدات دينية ونظمًا أخلاقية وسلوكيات اجتماعية معقدة ودقيقة، ومقومات حضارية كثيرة أخرى. لكننا أيضًا نعلم من تجربتنا على الأرض أن الحضارات التي تطورت بمعزل عن الأخرى ملكت مقومات حضارية مشابهة من الصفات العامة لكنها اختلفت من ناحية التفاصيل. فقد كانت لحضارات القارة الأمريكية قبل اكتشاف الأوروبيين لها، مثل المايا والإنكا، مقومات حضارية متطورة مشابهة بصفاتها العامة لتلك التي تطورت في آسيا وأفريقيا وأوروبا، لكنها اختلفت عنها في التفاصيل. فقد كانت لها أعراف اجتماعية وأديان وقصص شعبية مغايرة تمامًا لتلك التي تطورت في الشرق الأوسط القديم والصين والهند.

هذا ما نتوقع أن نجده عند حضارات فضائية متطورة، إذا وُجدت. سوف يكون لها لغاتها وأعرافها الاجتماعية وأخلاقياتها واقتصادها وأديانها وأنبياؤها (هذا إذا كان لها أديان وأنبياء) وآدابها وقصصها ومقوماتها الحضارية الأخرى المختلفة تمامًا عنا باستثناء شيء واحد على الأقل، العلوم. هذا لأن التطور العلمي الذي سوف تملكه أي حضارة تكنولوجية كانت في الكون سوف يكون مشروطًا بفهم الطبيعة على نحو مشابه، حتى إذا كان هذا الفهم تقريبيًا. وذلك، لأن قوانين الطبيعة العميقة هي نفسها في كل مكان.

أي أن العلوم الطبيعية هي الشيء الأساسي المشترك على نحو تفصيلي بين كل حضارات الكون التكنولوجية المتطورة، إذا ما وأينما وجدت!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى