إذا فشلت وساطة طهران بين دمشق وأنقرة

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق/

نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

مع بداية حزيران 2022 أطلقَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تصريحاتهِ الشهيرة بإنشاء منطقة آمنة شمال سورية وعلى طول الحدود، بعمق 30 كم، انطلاقا من تل رفعت ومنبج شمال حلب..
طبيعي أن ينتظر بعدها ليسمع ردود الفعل، لاسيما الروسية والأمريكية والإيرانية والسورية..
وطبيعي أن تكون ردود الفعل السورية غاضبة ٌورافضةٌ لهذا المخطّط التركي الجديد في عُمق الأراضي السورية، فوصفته الخارجية السوري بانهُ (عملٌ مشينٌ من أعمال العدوان وجزءٌ من سياسة التطهير العُرقي والجغرافي، وجرائمُ حربٍ، وجرائمٌ ضد الإنسانية، يرفضها ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني)..
وذاتُ الأمر هو رد فعل قوات سورية الديمقراطية (قسد)، التي هي بالأساس هدف العملية..
في موسكو وأنقرة عبّروا عن قلقهم من العملية العسكرية، ولكن بالمقابل أعربوا عن تفهُّمهم لمشاغل أنقرة الأمنية.. أي مسَكُوا العصا في المُنتصَف.. كي يُرضون أنقرة، ولا يُغضِبون دمشق.. بل بدتْ المواقف تحملُ من المُجاملة لأنقرة، أكثر منها لدمشق..
**
وزير الخارجية الروسي لافروف يزور أنقرة في 7 حزيران، بعد أيامٍ من تصريح اردوغان، ويُعرِبُ خلال مؤتمر صحفي مع نظيرهِ التركي، عن تفهُّمهِ لمخاوف تركيا بشأن ” أمنها القومي”..
طبعا هذا لا يعني أن موسكو موافِقة على خطّة أنقرة، وقد تكون مُعارِضة، ولكن مُعارضتُها لا يُمكنُ أن تصل إلى حدِّ الصدام العسكري مع أنقرة.. ويمكنُ القول أن موقفها اتّسم بالليونة..
**
الموقف ذاتهُ ينطبق على طهران، فقد زار وزير خارجية إيران، حسين أمير عبد اللهيان، أنقرة في 27 حزيران 2022 ، وصرّح خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التركي، أن (بلادهُ تتفهّم ضرورة تنفيذ تركيا عملية عسكرية جديدة ضد المقاتلين الأكراد في شمال سورية)..
تصريحٌ بدا مُستغربا من وزير خارجية إيران، وهو يعرفُ مُسبَقا أن هذا لن يُسعِد دمشق..
**
في ظلِّ هذا الجو المشحون، وصلَ وزير خارجية إيران، حسين امير عبد اللهيان، إلى دمشق، يوم السبت 2 حزيران 2022، وخلال مؤتمرٍ صحفيٍ مع نظيرهِ السوري، د. فيصل المقداد، أكّدَ أن بلادهُ تعملُ على إيجاد حلٍّ سياسيٍ لِثَني تركيا عن شن العملية العسكرية التي تُهدِّدُ بها..
ولكن ماذا إن فشلت هذه المساعي ونفّذَت تركيا تهديدها في شمال سورية؟.
لا أعتقد حينها أن روسيا أو إيران سوف تقفان عسكريا في وجهها، وتخوضان حربا معها لردعِ عدوانها الجديد على سورية.. فهي قامت بثلاث عمليات عسكرية كبيرة قبل ذلك (غصن الزيتون، ودرع الفرات، ونبع السلام) واحتلّت 8830 كم2 من الأراضي السورية، وما زالت، وهما تتفرجان..
فالمصالح الاستراتيجية بين أنقرة من طرف، وكل من موسكو وطهران من طرفٍ آخرٍ، هي أهمُ بكثيرٍ من مصالح سورية.. لاسيما أن إيران وروسيا تحتاجان بقوة لأنقرة في هذا الزمن بالذات، وكلٍّ للأسباب الخاصّة به، والتي لا تخفى على الجميع.. فروسيا تعيشُ همومها مع الناتو والعقوبات الغربية، وإيران تعيش همومها والعقوبات الأمريكية.. ولا أحدا مرتاحا.. الجميعُ مأزومون: روسيا، ودول الناتو، وأمريكا، وتركيا وإيران، وسورية.. الخ.. في النهاية الجميع مأزوم..
**
حينما نتحدّثُ عن تركيا، فنحن نتحدّثُ عن العقل العُثماني(العنيد) والذي لا يعرفُ سوى منطق القوة، ولا يرضخُ إلا للقوة، وأردوغان يُجسِّدُ اليوم هذا العقل بكلِّ أبعاده، ويُفاخر بتاريخ العثمانيين، ولذلك يُطلَقُ عليهِ وعلى كل جماعة حزبهِ (العثمانيون الجُدُد)..
وما زالت في ثقافتنا الشعبية في بلاد الشام، كلمة (عصملِّي) تُشيرُ للشخص العنيد (يابس الرأس) ..
وأشيرُ هنا إلى اجتماعٍ في مبنى الأمم المتحدة في جنيف، حينما كانت الحرب في البوسنة والهرسك، ما بين 1992 و 1995، وفي ذروةِ مجازر الصُرب بحقِّ أهالي البوسنة، اجتمع حينها مبعوث المجموعة الأوروبية إلى يوغسلافيا (قبل أن يُولَد الاتحاد الأوروبي) اللورد كارينجتون

Lord Carrington
(وهو بريطاني الجنسية) وكان يسعى لوقف إطلاق النار بين الأطراف، اجتمعَ مع مندوبي الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، وكنتُ من بينِهم، وحينما حصلَ جِدالٌ بينهُ وبين السفير التركي (الذي كانت بلادهُ تساعدُ أهل البوسنة بالسلاح وهذا يُعيقُ مهمة كارينجتون، فقالَ لهُ كارينتجون بنبرةٍ غاضبةٍ: (نحنُ نعرفكم عبر التاريخ، فلم تجلسوا على طاولة المفاوضات في أي وقتٍ إلا وأنتُم مهزومون)..
**
فما الذي سيدفعُ أردوغان اليوم للجلوس على طاولة المفاوضات وهو يشعر أنهُ قويا في هذا الزمن، رغم ما يمرُّ به من أزمات، لاسيما أن لديه الضوء الأخضر من أمريكا ودول الناتو في القيام بكل ما يضمن أمن تركيا القومي، بعد موافقتهِ على انضمام فنلندا والسويد لعضوية الناتو.. وتعهُّد الجميع بِحرصهم على دعم أمن تركيا القومي كحليفٍ في الناتو..
وأمام مصالح الكبار، تضيعُ مصالح الصغار..
يمكن لأردوغان أن يستجيب للجهود الدبلوماسية، فقط في حال حقّقت له ما يهدفُ إليه عسكريا، وحينها لن يحتاج إلى خوض حربٍ ويتكلّف، إن كان سيحقِّق أهدافه على الطاولة..
فهل جهود الوساطة سوف تُحقق له ذلك؟. وإن حقّقت له ذلك فألن يكون على حساب سورية، من جديد؟.
فكيف يمكن إيجاد حلٍّ مع من يحتلُّ مُسبَقا 8830 كم2 من أراضي سورية، ويتمُّ تتريكها بالكامل وطمسُ الهوية السورية، إن لم يتضمن هذا الحل الانسحاب الكامل من كل هذه الأراضي؟.
*
المسألة مع تركيا مُعقّدة جدا، وليست مُجرّد سوء تفاهُم أو خلافٌ في وجهات النظر.. إنها مسألةُ عدوانٍ موصوفٍ واحتلالٍ على الأرض وأطماعٍ واضحة ونوايا خطيرة.. ولا يُستَغربُ إطلاقا أن يلجأ اردوغان في المُستقبل لإجراء استفتاء في تلك المناطق إما للانضمام إلى تركيا أو لخلقِ كيانات مُستقلّة عن الجسد السوري الأم، أسوة بما فعلت موسكو بالماضي وبالحاضر، في جورجيا وأوكرانيا..
*
المطلوب من الإيراني والروسي أكثر من الوساطة، في الحالة السورية، لأنهما حليفين وصديقين، ويجب أن يُجسِّدا ذلك في الميدان إن ما مضى أردوغان في تهديده باجتياح جديد في شمال سورية.. وإلا ما معنى هذا التحالُف وهذه الصداقة؟.
**
في سايكس بيكو عام 1916، تم تقسيم سورية الكُبرى، ورُسِمَت حدودُ سورية الصُغرى التي عرفناها حتى عام 2011 ..
بعد عشر سنوات من الحرب، هذه الحدود لم تعُد هي ذاتها.. فهناك حدودٌ جديدةٌ مرسومة بِحُكم الأمر الواقع:
حدودُ مناطق الحُكم الذاتي لقوات سورية الديمقراطية (قسد)، وحدودُ القواعد الأمريكية، وأبرزها قاعدة التّنف، وحواليها دائرة خمسون كيلو مترا، يُمنَعُ الاقتراب منها..
وحدودُ المناطق التي تحتلها تركيا، وتُقدّرُ مساحتها بـ 8830 كم2 ..
وحدود منطقة إدلب التي تسيطر عليها جبهة النُصرة (أو فتح الشام)..
وطبعا كل هذا من نتائج الحرب، والجولان احتُلّت منذ عام 1967 نتيجة حرب.. وما زالت..
مسؤولية الحليفين الروسي والإيراني، الاستعداد للحرب إلى جانب سورية وقسَد (إن ما تحالفا) وإزالة هذه الحدود وإعادة وحدة الأراضي السورية.. إن لم يكُن بالسلام والدبلوماسية والحلول السياسية، فليكُن بالحرب..
وإلا ما معنى الحليف؟.
وإن كانت هذه الحدود قد باتت حدودا دوليةً، بمعنى لا يمكنُ إزالتها وإعادة دمج الأراضي السورية، إلا بتوافُقٍ دولي، فهذا يعني أن سورية أمام سايكس بيكو جديدة، لأن هذا التوافُق الدولي لا يبدو لهُ أفُقا، لاسيما في ظل الظروف الدولية الحالية.. وهكذا تكون سورية ضحية من جديد ويتمُّ تفتيت المُفتّتْ اصلا،
وهكذا نعودُ لذات القاعدة:
لا يوجدُ حُلفاء دائمون، يوجد مصالح دائمة.. والروسي والإيراني ليسا استثناء من هذه القاعدة، ولا يجوز أن نكون مثاليين، فهما حلفاء لمصالحهما في سورية، وليس لسورية..
هذه هي السياسة، وأعوذ بالله من الشيطان والسياسة، كما قال أحدهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى