إتلاف العقول
علي طه النوباني
على الرغم من التحديثِ المتواصل لمناهج اللغة العربية، يُصرُّ المؤلفون على اعتبار حرفِ المدِّ الطويل ساكنا، وهُم في ذلك يقولون للطالب: انظر إلى ذلك الجدار الأبيض، ما لونه؟ فيقول الطالب: أبيض!، ويرد المعلم: لا يا غبي، إنه أسود!
يمكنك أن تستمر في نطق حرف المَدِّ الطَّويل (ا، و، ي) ما دام نَفَسُكَ قادرا على الاستمرار، ولا يمكن لحرف المدِّ الطويل عِلميا أَن يقبل التَّسكين.
يقول المؤلف: أنظر إلى تلك الألف، ما صنفها من الأصوات، فيقول العلم: إنها حرف مَدٍّ طويل لا يقبل السكون، فَيُصِرُّ المُؤلِّفُ على أَنَّها حَرفُ مَدٍّ طَويلٍ ساكن أي هي جِدارٌ أَبيض وأسود في الوقت نفسه.
وعلى الرغم من أن درسي الإبدال والإعلال غير ضروريين للطالب -باعتقادي- ما لم يتخصص في اللغة العربية في الجامعة؛ يُصِرُّ مُؤلِّفو المَناهجِ على تدريسهما بما ورد فيهما من مغالطات علمية تُسَبِّب الصُّداعَ للطالبِ وَلِمَن يُحاول أن يُفهم الطالب تلك الاجتهادات الغريبة والمعقدة التي لا تلزم إلا لمن يجلس في حلقات بحث جامعيَّة.
وعلى سبيل المثال، ورد في كتاب “النحو والصرف” للصف الثاني عشر للفرع الأدبي في الأردن (ص 95):
” انظر إلى كلمة الأدنَينَ في المثال الثالث، تجد أن أصلها (الأَدْنَايْنَ) لأن مفردها (الأدنى)، وهو اسم مقصور جُمِعَ جَمْعَ مذكرٍ سالماً، فحذفت ألفه لالتقاء الساكنين، وبقيت الفتحة قبل ياء الجمع…)
وهو بذلك يقصد أَنَّ الألف (الأَدْنَايْنَ) حرف ساكن على الرغم من أنه حرف مد طويل لا يمكن أن يقبل السكون، فهو أبيض هنا على الرغم من أنه أسود وعلى الرغم من أنف العلم وأنف الطالب، وينبغي الإشارة هنا إلى أن الياء في (الأَدْنَايْنَ) تقبل السكون هنا لأنها Semivowel أي نصف حرف عله إنْ صح التعبير.
وإذا أردتَ أن تَتَحقَّقَ من ذلك فاقرأ الكلمة (al+ad+naay+na)، هل تشعر بالتقاء ساكنين؟ حتما لا!
الأنكى من ذلك أن المؤلف وضع فَتحةً على النون في المقطع (نا) هكذا (نَا) على الرغم من معرفتنا بأن الألف هي حركةُ النون، وَأَنَّ وضعَ الفتحةِ يَزيدُ حَرَكةً إِلى المقطعِ الصَّوتيّ فَيَصيرُ (naaa)، وَكَأنَّ المَسألةَ مُزاوَدَةٌ عَلى كَومَةِ خُضار توضَعُ الحَركاتُ فيها على غيرِ هُدىً، وَدونَ أيِّ حِساب.
السَّواكِن التي التقت في الواقِع ليست في مثل هذه الكلمة، وإنَّما في أيامنا التي حكمنا فيها على أولادنا بأن يتعَقَّدوا مِن لُغتنا، وَمِن ثَمَّ، مِن ثقافتنا، وَيَغترِبوا إلى حيث لم يعد ينفعُ الاغتراب. لَقد عَرفَ العالمُ أَنَّنا أُمَّةٌ تُحِب التَمَحُّك، وَطَبخَ المُتناقِضات مع بعضها على نحو ينجح في ضرب العقولِ أكثرَ من الغُولَةِ والغول.
كان بإمكان المؤلف أن يقول أنَّ الألف حُذِفَتْ لتسهيل اللفظ، ولكنَّ التعالي على الطالب وإشعاره بأن هنالك أمورا لا يمكن أن يفهمها عقله الصغير يجعل المؤلف يتحدث عن التقاء الأبيض والأسود في آن معاً.
الأمثلة على ذلك كثيرة في تدريس اللغة العربية، ولا أدري من هو المستفيد من جعل الطالب يكره درس لغتنا الجميلة، وأحسب أننا بحاجة إلى مراجعة شاملة لطرائق تدريس اللغة العربية؛ تحافظ على وجودها في عقل الأجيال؛ ومن ثم على خارطة الثقافات الحية في العالم.