أين نحن من ثقافة الاختلاف ؟
أين نحن من ثقافة الاختلاف ؟
في إحدى محطات مراحل العمر، تفرض علينا الأحداث أن يكون الواحد منا في
الواجهة، و في غمرة هذا التفاعل الطبيعي، نواجه في حياتنا من يخالفنا في
الطباع و القناعة أو حتى ثقافة التفكير، فيكون الاحتكاك و التصادم و الراشق ، قد
يصل حده إلى التخوين و الهجر و المقاطعة ، و في الحقيقة هي سلوكات
مرفوضة ، تتنافى و قيم التحضر ، تتنافى مع روح التعايش المجتمعي ، نحسب
ذلك من موروث ثقافة المجتمعات البدائية المتخلفة .
يتناسى هؤلاء القوم أن الإنسان يولد حرا ، يولد متميزا في تفكيره و آرائه ، يولد
مستقلا عن الأخرين في ميوله و رغباته ، حيث لا يكون نسخة للآخرين ، فتجد
الفرد متميزا في خيارته و قناعته ، فيختار الفرد منا الأفكار التي يؤمن بها
بمحض اختياره بعيدا عن الفرض و الجبر ، و هذا الاختيار لا يتعارض مع
نواميس الفطرة السليمة ، و لو عدنا للقاعدة الأصولية التي جعل الإسلام العقل فيها
مناط التكليف يقول صاحب كتاب الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي 3/
27، طبعت دار المعرفة بيروت، ط2 1395هـ .
( فإذا فقد – أي العقل – ارتفع التكليف وعَّد فاقده كالبهيمة المهملة )
و يقول صاحب كتاب المغني لصاحبه موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامه المقدسي 12
/ 152، طبعة دار عالم الكتب بالرياض، ط3 1417هـ.
( فالعقل أكبر المعاني قدرًا، وأعظم الحواس نفعًا، فإن به يتميز الإنسان من البهيمة،
ويعرف به حقائق المعلومات، ويهتدي إلى مصالحه، ويتقي ما يضره، ويدخل به في
التكليف، وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات )
ولهذا جاء في الحديث: عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “رُفِعَ
الْقَلَمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يَسْتَيْقِظَ، وعن الصبي حتى يَحْتَلِمَ، وعن المجنون حتى
يَعْقِلَ”.
[صحيح] – [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد]
و من الجهل بهذه الحقائق ـ التي غفل ويغفل عنها الكثيرون ـ يقول الإمام الأكبر الشيخ
محمد شلتوت (1310 ـ 1383 هـ ـ 1893 ـ 1963م) ( لقد قرر الإسلام الفطرة التي
خلقت عليها المرأة.. فطرة الانسانية ذات العقل والإدراك والفهم، فهي ذات مسؤولية مستقلة
عن مسؤولية الرجل، مسؤولة عن نفسها، وعن عبادتها، وعن بيتها، وعن جماعتها.. وهي
لا تقل في مطلق المسؤولية عن مسؤولية أخيها الرجل، وان منزلتها في المثوبة والعقوبة
عند الله معقودة بما يكون منها من طاعة أو مخالفة، وطاعة الرجل لا تنفعها وهي طالحة
منحرفة، ومعصيته لا تضرها وهي صالحة مستقيمة (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو
أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا). النساء 124. (فاستجاب لهم
ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) آل عمران 195.
و في سياق الحديث نفسه نستعرض مقولة الأستاذ د. وصفي عاشور أبو زيد، أستاذ
أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية.
وجدته كلامه رائعا أنقله كاملا لفائدته في مسألة أدب اختلاف العلماء
يقول : ( يذكر الدكتور القرضاوي- رحمه الله – في مذكراته أنه تلقى رسالة من سماحة
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، خلاصتها: أن
وزارة الإعلام طلبت رأيه في كتابي “الحلال والحرام في الإسلام”؛ لأن بعض الناشرين
طلبوا من الوزارة ترخيصا بنشر الكتاب، ولكن المشايخ في المملكة لهم تحفظات علي
ثماني مسائل. وسرد الشيخ -رحمه الله- هذه المسائل الثماني، ثم يختم الشيخ ابن باز رسالته،
فيقول: (إن كتبك لها وزنها وثقلها في العالم الإسلامي، وقبولها العام عند الناس، ولذا نتمنى
لو تراجع هذه المسائل لتحظى بالقبول ألإجماعي عند المسلمين)
فيرسل الدكتور القرضاوي رسالة للشيخ ابن باز، يقول لها فيها :(لو كان من حق الإنسان
أن يدين الله بغير ما أداه إليه اجتهاده، ويتنازل عنه لخاطر من يحب، لكان سماحتكم أول من
أتنازل له عن رأيي؛ لما أكن لكم من حب وإعزاز واحترام، ولكن جرت سنة الله في الناس
أن يختلفوا، وأوسع الله لنا أن نختلف في فروع الدين، ما دام اختلافاً في إطار الأصول
الشرعية، والقواعد المرعية، وقد اختلف الصحابة والتابعون والأئمة الكبار؛ فما ضرهم ذلك
شيئاً؛ اختلفت آراؤهم، ولم تختلف قلوبهم، وصلّى بعضهم وراء بعض.
والمسائل التي ذكرتموها سماحتكم، منها ما كان الخلاف فيها قديماً، وسيظل الناس يختلفون
فيها، ومحاولة رفع الخلاف في هذه القضايا غير ممكن، وقد بين العلماء أسباب الاختلاف
وألفوا فيها كتباً، لعل من أشهرها كتاب شيخ الإسلام “رفع الملام عن الأئمة الأعلام”، ومن
هذه المسائل ما لم يفهم موقفي فيها جيداً )
فأرسل الشيخ ابن باز للدكتور القرضاوي دعوة للحج في نفس العام، فلاقى الدكتور
القرضاوي لما لبى الدعوة ترحيبا كبيرا وحفاوة بالغة من الشيخ ابن باز، يقول الدكتور
القرضاوي : (والغريب أني لما زرت المملكة للحج وجدت الكتاب مطبوعا بموافقة الشيخ
ابن باز)/انتهى كلام الدكتور
و لا يخرج اختلاف الفطرة أن يكون اختلاف يستوعب واقع الحياة ، يستوعب مدارك
العقول ، يستوعب اختلاف التنوع الطبيعي الذي لا يخالف الأحكام الكلية و الغايات
الكبيرة ، اختلاف يجزيه الشرع ، و في أصل منشئه اختلاف خادم ، تستفيد منه الأمة ،
لخصه الأستاذ الدكتور طه جابر العلواني، المفكر والفقيه الإسلامي العراقي.
كان رئيس المجلس الفقهي بأمريكا، ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية
بهرندن، فرجنيا، الولايات المتحدة الأمريكية. حصل على الدكتوراة في أصول
الفقه من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر في القاهرة، مصر، عام
1973في نقاط :
- أن يتيح ـ إذا صدقت النوايا ـ التعرف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل
رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة. - في الاختلاف رياضة الأذهان وتلاقي للآراء، وفتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر
الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها. - تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي إلى الحل المناسب للوضع الذي هو فيه بما
يتناسب ويسر هذا الدين. (أدب الاختلاف في الإسلام / طه جابر العلواني).
و خلاصة القول كم هو ضار حجم الجهل المستشري في بعض من الأوساط التي تدعي
العلم ونصرة الإسلام. وفي بعض ممن يلبسون لباس الحداثة و العلمنة المتطرفة ، الذين
يجنحون للتطرف و التشدد ، يغالون في مسائل عدة خروجا عن المألوف ، بإلغاء الآخر
و تقزيمه بتصنيف المخالف في خانة المغضوب عليهم ، أو العمل على تشويهه بدعاوى
واهية بحجة المخالفة لنسق تفكيرهم وغير ذلك من المسائل التي يعرفها القريب و البعيد ،
و الحقيقة التي يجب أن يلتزم بها العقلاء و المنصفون ؛ إن الله منحنا عقولًا نزن بها
الحقائق ، نجلي بها الغموض ، فمن الظلم بخس عقولنا فنسلم أنفسنا كالشاة المذبوحة
ليفصلها الجرار على هواه كما يشاء ، والواجب علينا أن ندرس و نحقق ، نستعرض
الحجج و البراهين و الأدلة ، علينا فك ألغاز الجهل بالقراءة و السؤال ، علينا الاستفادة
من كل المناهل فالحكمة ضالة المؤمن ، فلا يمنعنا أن نستفيد من الجميع ، تستفيد من كل
مجتهد ، المهم أن نكون عناصر واعية مدركة ، نوقر العلماء و نجلهم ، ننزه ألسنتنا
عن غيبتهم و نهش أعراضهم بالافتراء و الكذب ، فلحوم العلماء مسمومة . وفقنا الله
وإياكم لكل خير.
الأستاذ حشاني زغيدي