أنشودة المغني وأسطورة الذئاب
المجموعة الشعرية “أَرَانِي أُعِيدُ لخُيُولِي بَيَاضَهَا” للشاعر والكاتب الأردني رامي عبدالله الجنيدي تستجلي هويَّة الشاعر وذاته التي يرمز إليها كثيراً بـ”المغني”.
ويأتي عنوان الكتاب الصادر حديثًا عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن في 92 صفحة من القطع المتوسط، ويضم 23 قصيدة، تدور جميعها في فلك نفس الشاعر وعلاقته بذاته وهويته ووطنه وأبيه، والكائنات من حوله، لا سيمة الطبيعة ومفرداتها.
يقول رامي عبدالله الجنيدي من قصيدته “وتمرض الذئاب”، وكأنه ينادي ذاته التي يسقط عليها صفات الذئب في كثير من مواضع المجموعة، وكأنه يحاكي بين النفس الإنسانية والجسد الذي تنتمي إليه وبين الأرض والذئاب التي تدب بين جنباتها:
“أيُّها الذئبُ القابعُ بينَ المرايا
حَطِّمْ مراياك واتبعْ طريدَتَكَ
نحوَ دروبِ البرتقال،
وقُل لظِلالِكَ المكسورةِ
كلُّ ما في الأمرِ
أنَّني سرقتُ مِنَ الطريقِ سِيرتهَا،
كَمَا تَمَرضُ الذئاب مِنْ سِيرَةِ النَّرجِسِ
تَمْرَضُ الحقول حِينَ تَهجرُها ذِئَابُهُا”.
فما الذئب الذي يناجيه الشاعر سوى نفسه التي يرغب لو أنها تكسر القيود التي تكبلها وتتبع حلمها ناجية من العقبات.
وفي قصيدة “لدغة لا مفر منها”، يتساءل رامي عبدالله الجنيدي أسئلة وجودية لا ينتظر لها جواباً وكأنما يبرز كم التناقض القابع في النفس البشرية:
“مَنْ قالَ لكِ أيَّتُها المرايا
أنَّني تعلَّمْتُ
مِنْ لدغةِ الأفعى؟
فأنا كُلَّما لدغتني بِسُمِّها
جِئْتُها أَسعى.
لماذا أَيَّتُهَا المرايا
كُلَّما سألتُ
ذاتَ السُّؤالِ للدُّنيا
تُشيحُ بوجهِهَا عنِّي؟”.
ومن قصيدة “قصة شعب من العنب” يقول رامي عبدالله الجنيدي عن المغنِّي؛ الذي يرمز إليه هو نفسه في مواضع كثيرة في المجموعة، وكأنه يفضِّل أن يوحي بمكنون خواطره على لسان المغنِّي:
“مَلَلْتُ من صوتي
فأنا منذُ خمسين شهيداً
وأنا أُغنِّي لجدارٍ لم يعجبْهُ صوتي.
***
لكنَّ الغُرباءَ قطعُوا وتراً مِنْ حنجرتِهِ
كي لا يُغنِّي عن البرتقالِ
والنارِ والزيتونِ والعِنب،
وظلّ يُغَنِّي كبئرٍ متخمٍ بنعاس الذئب،
لكن الغُرباءَ عادوا مرةً أُخرى
وقلعوا حنجرتَهُ
كي لا يسمعوا صوتَ البئرِ يُغنِّي”.
وفي قصيدة “متعب حصان الرؤيا” يجمع رامي عبدالله الجنيدي الكلمات المفاتيح لمجموعته الشعرية في فقرة شعرية واحدة، فهناك الغريب، وهناك الذئب، والغواية، والماء، والقناص، والجنرال، والبياض؛ أكثر المفردات وروداً على صفحات المجموعة، إذ يقول:
“ويسألني الغريبُ: مَنْ أنا أيضاً؟
حتّى تحاصرني الغِوايةُ، والماءُ والذئبُ،
وجرحُ القنَّاصِ والجنرالُ، والبياضُ،
رغم أنّني مُحاصرٌ برؤاي.
كيف لي أن أخلعَ هذا البياض؟
وأنا أقودُ رحلةَ المعنى مع الذئب،
الذئبُ أتعبتهُ حكايةُ الغريبِ.
هذه الطريقُ بصيرةُ الرؤيا
رغم ثقوبِها الملأَى بالأملِ”.
ويختتم رامي عبدالله الجنيدي مجموعته الشعرية بقصيدة تحت عنوان “أنا دليل الاشتباك مع الذات”، وكما يوحي عنوانها فهي -إن لم تكن المجموعة كلها- دليل اشتباك مع الذات، كما يتحدث فيها عن مفهومه للموت المعنوي، ويقول في نهايتها:
“يا أبي: الموتُ لا يعني الموتَ
كما تقولُ الأساطيرُ
بل هو الانسلاخُ عن دليلِكَ
وعن أشجارِ السروِ،
وعن حقلٍ كتبتَ سيرتَهُ
أَنتَ والماعزُ الجبليُّ
وقلتُ لي:
احفظْ صفاتِ القمحِ يا ولدي،
كي تكونَ أكثرَ دفاعاً
عن صورةِ الاشتباكِ مع المُتَخَيَّل.
يا أبي أنا وأشجارُ السَّرو
هُنَّ الدليلُ أنني كنتُ هُنا.
وهذه الأرضُ السمراءُ لي
والدُّراقةُ، وشجرةُ التينِ،
والتفاحةُ،
والزنبقةُ التي زرعتُها بيدي
وأسقيتُها من صورةِ الأمسِ،
هُنَّ دليلي”.
ومن الجدير بالذكر أن رامي عبدالله الجنيدي من مواليد قرية عبلين 1975. صدر له: “أربعون رصاصة تكفي”- قصص قصيرة جداً، 2016.”أتكئُ على جبلٍ وأمضي”- قصص قصيرة جداً، 2018. “لا تُغنِّ للفراشات”- قصص قصيرة جداً، 2020.