أمريكا ..بدأت بفقدان حديقتها الخلفية

أمريكا اللاتينية لم تعد «الفناء الخلفي» لواشنطن

فهد المضحكي

لطالما اعتبرت واشنطن بأن أمريكا اللاتينية هي «فناؤها الخلفي» الذي لا يسمح لأحد بالاقتراب منها دون إذنها، أو التدخل في أعمالها فيها. شهدنا الكثير من الانقلابات والحروب لأجل ذلك. لكن دول أمريكا اللاتينية لم تعد تقيم اعتبارًا لتحفضات واشنطن، وليست مستعدة للمساومة، فمصالحها تصبح متشابكة بشكل متزايد مع القوى الصاعدة، الأمر الذي يعبر عنه ساسة واشنطن بخوف قبل غيرهم. يقول الكاتب ماركو فيرناندز، ترجمة جريدة «قاسيون» السورية، «بعد أقل من أسبوع من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، صرح خوان سيباستيان غونز اليس- مدير شؤون نصف الكرة الغربي في مجلس الأمن القومي الأمريكي- بأن العقوبات ضد روسيا قوية للغاية بحيث سيكون لها تأثير على الحكومات التي لديها ارتباطات اقتصادية مع روسيا. حيث ستبدأ فنزويلا بالشعور بالضغط، ونيكاراغوا ستبدأ بالشعور بالضغط وكذلك كوبا». دافع مقال نشر مؤخرًا عن طريق مجلس العلاقات الخارجية، وهو المنتدى غير الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية بعنوان «الكابوس الاوراسي»، عن الأطروحة القائلة بأن واشنطن لا تملك خيارًا سوى محاربة روسيا والصين في الوقت ذاته. ومع ذلك فغونزاليس قد ألمح إلى أن مهاجمة الجبهة الرئيسية في الشرق «موسكو وبكين»، بل أيضا فتح جبهة في الجنوب -ثانوية لكن مهمة- ضد ثلاث دول في أمريكا اللاتينية تحدت واشنطن أكثر من غيرها. لكن هذه الجبهة الجنوبية، قد تكون أكبر حتى من تخيلات غوانزاليس، وقد لا تكون الولايات المتحدة هي التي تسعى لفتحها في الحقيقة.

ففي مارس الماضي أدلى قائد القيادة الجنوبية للقوات المسلحة الأمريكية بشهادة أمام مجلس الشيوخ الأمريكي قائلاً: «إنه على الرغم من أن روسيا هي التهديد الأكثر الحاحا في أمريكا اللاتينية ومنطقة بحر الكاريبيي، فالصين تشكل تحديًا دبلوماسيًا وتكنولوجيا وإعلاميًا وعسكريًا للولايات المتحدة. وكان ريتشاردسون قد أدلى قبل أسبوعين من ذلك بشهادة متشابهة، شبه فيها النفوذ الصيني في المنطقة بالنفوذ المفترس الذي يخدم مصالحهم في إفريقيا»، مشيرًا بشكل واضح إلى تقدم مبادرة الحزام والطريق عبر القارة الإفريقية منذ عام 2013، والمسؤولة عن تدفق الاستثمارات الصينية غير المسبوقة في البنية التحتية الاساسية «الطاقة والاتصالات والموانئ والسكك الحديدية والطرقات السريعة وما إلى ذلك»، في مقابل الموارد الطبيعية التى تحتاجها الصين لتغذية صناعتها، حيث إنها مسؤولة عن إنتاج 28,7% من إجمالي التصنيع المستهلك عالميا. تستند تصريحات ريتشاردسون على مبدأين أولاً: إن الولايات المتحدة تنظر لأمريكا اللاتينية على أنها «فناؤها الخلفي»، الأمر الذي تم التعبير عنه في مبدأ مونرو في 1823 وكان سببًا في الكثير من الانقلابات والتدخلات العسكرية. وثانيًا: إن الولايات المتحدة تعتقد بأن السياسات الخارجية لحكومات المنطقة يجب أن تحددها واشنطن. قال بايدن مؤخرًا: «أمريكا اللاتينية ليست فنائنا الخلفي، بل هي ساحة أمريكا الأمامية». لكن الأمريكيين اللاتينيين لا يريدون أن تكون لأحد لا خلفي ولا أمامي.

في عام 2000 أنشأ الكونغرس لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين، والتي تقدم تقيمها عن الصين بشأن الأمن القومي للولايات المتحدة. في نوفمبر2021، تضمن تقرير اللجنة فصلاً هامًا حول العلاقات بين الصين وحكومات أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبيي. أبدى التقرير قلقه من دعم الصين لما سماه الحكومات «الشعبوية» من الأرجنتين إلى فنزويلا. وأشار إلى زيادة تجارة المنطقة مع الصين: من 18,9مليار دولار في 2002، إلى 295,6 مليار دولار في 2020، أضافة إلى تزايد أهمية الصين كمصدر للقروض والتمويل والاستثمارات المباشرة «58 مليار دولار بين عامي 2016 و2020». بفضل هذا الاستثمار، تمكنت الصين من مساعدة المنطقة في تقليص تأثير الأزمة المالية العالمية في 2008. خلق الاستثمار الصيني في أمريكا اللاتينية فرص عمل بمقدار 1,8 مليون فرصة بين 1995 و2016، وقلل الفقر من 12% في 2002 إلى 4% في 2018. كما ملأت اللقاحات الصينية صناديق صحة أمريكا اللاتينية أثناء الوباء، وقلصت صادرات السلع الأمريكية اللاتينية إلى الصين من عبء الركود الذي صاحب كوفيد. تشعر اللجنة الأمريكية الصينية بالقلق من زيادة الاتصالات بين الصين والمنطقة في شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية والنقل. ما تقدمه هواوي – رائدة شبكات الجيل الخامس – خدماتها، بالإضافة إلى SSD في مجال تطوير الأقمار الصناعية «تم إطلاق 21 مشروعًا مشتركًا، معضمها مع الأرجنتين»، تم أخذه كمثال. كما عبرت اللجنة عن خوفها من سيطرة الصين أو نفوذها على الموانئ في المنطقة، لاسيما في البحر الكاريبيي.

تجاوب ساسة واشنطن بسرعة مع التقرير. في فبراير 2022، قدم السيناتور ماركو روبيو وبوب ميندبز، وكليهما من أصل كوبي، قانون استراتيجية الأمن لنصف الكرة الغربي 2022. يقترح المشروع أن تتحدى حكومة الولايات المتحدة بشكل مباشر دور الصين في المنطقة. كما يصف وجود الصين وروسيا في المنطقة بأنه تأثير ضار وخبيث. رغم أن مشروع القانون قصير وخاو من التفاصيل، يمكن من خلال شهادة ورسالة البروفسور إيفان إيليس، أحد معدي التقرير، أن نفهم ما يرمي إليه: على واشنطن الترويج لرواية إعلامية تدين الحكومات اليسارية وعلاقتها بالصين، ودعم حركات الاحتجاج ضد هذه الحكومات، وتعميق تحالفاتها مع النخب الأقليمية، وتطبيق عقوبات على الحكومات ذات الميول اليسارية. لكن ورغم أحلام ساسة وبروفسورات واشنطن، لا تسير الأمور كما يشتهون. الانتخابات والتحركات السياسية في المنطقة، مع صعود اليسار، لا تحمل أنباء جيدة لواشنطن، مثالها: فوز غوستافو بيترو في الانتخابات الرئاسية في كولومبيا بعد حصوله على 50,47% من الأصوات في الدورة الثانية ليصبح أول رئيس يساري في تاريخ البلاد، وحصل خصمه المليونير رودولفو هير نانديز الذي أقر بهزبمته، على 47،27% من الأصوات. وكتب بيترو على تويتر: «اليوم هو عيد للشعب. فلنحتفل بأول انتصار شعبي». وسيكون توليه أعلى منصب في البلاد بمثابة زلزال سياسي في بلد يحتكر فيه المحافظون السلطة منذ عقود. وربما الأهم في كامل أمريكا اللاتينية: البرازيل. تشير الاستطلاعات بأن (لولا داسيلفا) زعيم حزب العمال اليساري سيطيح ببولسونارو، في الانتخابات الرئاسية التي ستجري عام 2022. والمرحلة ستجبره على اتخاذ إجراءات واقعية تخيف الولايات المتحدة لها شأن بتنمية بلاده اقتصاديًا. الدور الذي قد تلعبه البرازيل لإعادة إحياء تطلعات بريكس، وحرص النخب البرازيلية على العودة لتكون شريكا اقتصاديا للصين وليست مجرد مصدرة سلع أولية، ستجبر لولا أو غيره على فعل كل ما يزعج الأمريكيين. لم يعد بإمكان الولايات المتحدة ممارسة أنشطتها المعادية لأمريكا اللاتينية، وحتى إيليس والنخب في واشنطن تدرك ذلك. لهذا يحاول هؤلاء وضع خططهم بما يناسب كامل الخطط الأمريكية في العالم في الوقت الحالي: طالما لا يمكننا الانتصار، فلنعمل على زعزعة استقرار المنطقة بدلا من السماح لها بأن تصبح طرفًا فاعلاً في نظام عالمي جديد. لكن مدى قدرة الولايات المتحدة على فعل ذلك هي أمر يحسمه مدى قدرة الطرف المقابل في الحفاظ على الاستقرار والنفع الاقتصادي والسياسي المشترك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى