أسئلة بحاجة الى اجوبة
ماجد فيادي
في حوارات متفرقة عن المُنتِج العراقي، أثرت موضوعا للنقاش حول صناعة أصحاب الإنتاج الفكري والفني، وقد استخدمت مفردة صناعة لأنني اجد الإنتاج صناعة، وحتى نقول عن شخص انه صنائعي متميز، مُنتِج ومبدع، لا بد ان نبحث عنه ونكتشفه ونشجعه وندربه ونعطيه الثقة ليصبح مُنتَجاً ذا شأن، يتأثر بالمجتمع ويؤثر به، يرى بعينه الثاقبة ما لا يراه الآخرون، يحمل شعلة التفكير والتطوير، ولا يخاف السير امام المجتمع. في المحصلة انها صناعة من نوع خاص، لأن مُنتَجها تأثر بمعلميها وراعيها حتى اصبح في يوم من الأيام علامة فارقة يشار الى نَتاجاته الإبداعية.
في سنوات حركة الحداثة التي اثرت في المجتمع العراقي، يقول الكاتب والباحث اليساري ياسين النصير ان العراق من الدول التي تَعَلَمَ طلابها الجامعيين التحديث، ولم يؤمنوا بالحداثة، لانهم استخدموا منتجات التطور العلمي الحديثة ولم يقتربوا من أسباب نتائجها. يقول الشاعر والاعلامي اليساري الراحل جمعة الحلفي، ان من الأخطاء التي وقع بها عدد من المثقفين العراقيين انهم حبسوا ابداعهم الثقافي بانتمائهم السياسي والايديولوجي. يقول الشاعر اليساري عبد الكريم كاصد، ان الأحزاب لا تنتج مبدعين او فنانين، انما المبدع هو نتاج الموهبة والعمل على صقلها وتطويرها. في مكالمة هاتفية مع الراحل اليساري البروفسور كاظم حبيب، كنت قد طلبت منه ان يكتب بتفصيل عن قضية أشار اليها في احدى مقالاته، فرفض وقال “هذه مهمتكم كقراء تبحثون عن التفاصيل، وان تكتبوا فيها ما ترونه مناسبا، حتى تثيروا النقاش حول ما بدأت الكتابة فيه”. كان الراحل اليساري الطبيب صادق البلادي يتصل ويحثني على الكتابة كلما اطلت الزمن بدون ان اكتب مقالا. كان ولا يزال الكاتب والباحث اليساري الدكتور صادق أطيمش، يحاورني في كل صغيرة وكبيرة، ويطلعني على خبايا لم اصلها في أي موضوع احاوره فيه او ارغب ان اكتب فيه. اختتم بالمناضل اليساري جاسم الحلوائي عندما ناقشني في مقال كتبته، ولما اخبرته انه لفت انتباهي الى تفاصيل مهمة، قال لي “طبعا انا انقل لك تجربة رجل تجاوز الثمانين”. جميع تلك الأسماء يتراوح مواليدها بين الاربعينات والخمسينات، جميعهم كانوا ولا يزال لهم شأن في المجتمع العراقي، منهم من فارقنا ومنهم من تراجعت نتاجاته، ومنهم من لا يزال متقد العقل والذاكرة، ويتحفنا بنتاجاته الفكرية. اما تناولي لهذه الآراء المختلفة مع بعضها، فهو لم يكن نابعا من اتفاقي معها جميعا، انما هي طرح للتوجهات اليسارية، كم تحمل من التنوع والاختلاف، ما يجعلها دليلا على المنهج الماركسي كفلسفة تؤمن بالتنوع الفكري الإنساني.
اليوم عندما اتفحص أي جريدة يسارية او موقع الكتروني يساري (استثني الحوار المتمدن)، لا اجد أسماء شبابية تكتب وتنشر مقالات او كتبً تبحث في قضايا جيلها، وان كتبوا فانه قليل، ويضيع في زحمة وسائل الاعلام المرئية والصوتية والمقروءة ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن السبب الأهم في قلة الإنتاج، هو الضعف في صناعة المُنتِج. في مقابلة تلفزيونية للراحل اليساري الشاعر عريان السيد خلف يقول “انه عرض نتاجه الشعري على الراحل اليساري الشاعر مظفر النواب، فقال له ان هذا ليس شعراً، وعندما اغتاظ من رده، القى قصيدة أخرى امامه في مناسبة ثانية، فقال له النواب هذا يسمى شِعرا. اعود لصناعة المُنتِج لأقول، ان من يتواجد في هيئات تحرير المنابر الإعلامية اليسارية، تقع عليه مسؤولية كبيرة في منح الفرصة للمُنتِجين الشباب، ليس فقط في التشجيع على الإنتاج، انما في فتح فضاءات الحرية للأفكار الجديدة وكسر التقاليد والبحث في مشاكل الجيل الجديد بأدوات مبدعيه (يقول الباحث الموسيقي اليساري ومخترع آلة النايلوت غازي فيصل، ان الفن يعني كسر الرتابة).
لو فكرنا قليلا ماذا لو توقف الكاتب الصحفي اليساري الأستاذ عبد المنعم الأعسم عن جملة مفيدة، وتوقف الكاتب اليساري الدكتور صادق أطيمش عن البحث في الممنوع، وتوقف الكاتب والصحفي اليساري ماجد الخطيب عن كتابة مسرحيات تبحث في فئران الاختبار، وتوقف الكاتب اليساري رشيد الخيون عن البحث في التاريخ، وتوقف الكاتب اليساري الدكتور هاشم نعمة فياض عن بحوثه الفكرية السياسية، وماذا لو جفت ريشة الرسام اليساري فيصل لعيبي، وماذا لو لم تعد الشاعرة اليسارية بلقيس حسن تطلق دواوينها، ماذا لو توقفت الرسامة اليسارية العراقية عفيفة لعيبي، والقائمة تطول في كل مجالات الابداع بين نساء ورجال، من سيعوضهم؟ انه سؤال بحاجة لجواب.
اردت ان استرسل في ذكر أسماء المُنتِجين ابداعا من اليساريين العراقيين، فوجدتني اغرق في بحر من الأسماء في التمثيل والرسم والنحت والغناء والموسيقى والشعر والبحث الفكري والسياسي. أسماء كبيرة فارقتنا وتركت فراغا كبيرا حالت دون ملئه بمنتجين مبدعين شباب أسباب كثيرة، منها الدكتاتورية الصدامية والأحزاب الاسلاموية والقومية، الهيمنة الغربية على مقدرات الشعب العراقي، الهجرة والشتات، الاعلام الممول، دول المحيط الإقليمي بين خوفها من نهضة الشعب العراقي وحلمها في السيطرة عليه وعلى موارده، أسباب طويلة وعريضة، حتى ان بعضها تعود لصاحب الموهبة التي اهملها ولم يتشبث بها، اما لأنه يجهل قيمتها، او لأنه تائه في كسب قوت يومه. كل المُنتِجين المبدعين العراقيين اليساريين، وجدوا في محيطهم الثقافي الرعاية والاهتمام والتشجيع، حتى اصبحوا بهذه المكانة التي نتحدث بها عنهم اليوم. مُنتِجين طرحوا أسئلة على انفسهم، او طَرَحَها عليهم محيطهم، او فرضتها عليهم حركة المجتمعات في العالم، فبحثوا عن الأجوبة، وعندما تمكنوا منها عكسوها على شكل ابداع بطرق مختلفة، دعوني اسميها “مُنتَج”. المُنتِج كان بحاجة لوسيلة عرض او تواصل مع الجمهور، المستفيد الأول من حركة اؤلئك النخبة النوعية في المجتمع. ولان المجتمع العراقي فُصِل عن مُنتِجيه المبدعين، فقد تراجع الى الوراء كثيرا مقارنة بباقي دول العالم، وحتى يعود الى مكانته الطبيعية، فنحن بحاجة ان نبحث ونكتشف ونطور المنتجين المبدعين المثقفين العضويين اليساريين، وان لا نخاف من تنوع نتاجاتهم، على العكس فان حركة الفكر والفن تصب في مصلحة الشعب، ومن الواجب ان نفتح لهم كل إمكانيات قوى اليسار من منابر إعلامية وصحفية كي تكون حلقة الوصل بينهم وبين الجمهور العراقي.
من المؤكد ان تَخَلُف منابرنا الإعلامية والصحفية عن التقدم الحاصل في التكنلوجيا، وارتباط الأجيال الجديدة بالتقدم العلمي، يفرض ان تُغير هيئات التحرير ادواتها واساليبها ومنهجياتها في إدارة تلك المنابر، حتى تتمكن من مجاراة التطور التكنلوجي الحاصل، وان تتيح الفرص لليسار ان يقود الجيل الحالي والقادم، نحو فكر انساني متطور.
نحن بحاجة الى مثقفين عضويين مبدعين مُنتِجين جدد يجيبون بلغتهم عن أسئلة جيلهم والجيل القادم، يحملون الشعلة امام الجماهير لتنير الطريق لهم. من المؤكد أن شعلة المستقبل لن ترفع باليد، ولن تكون من النار، ولا علاقة لها بالورق، ولا يخطها القلم، حتى الايميل لن يكن قادرا على نقلها، ستكون صديقة للبيئة، والفيديو عنوان لها، والصورة جزء منها، قصيرة ومعبرة، ونافذة الى العقل، وقد تكون فيديو ثلاثي الابعاد، شعلة لجيل مختلف.