تعاليقرأي

أبناء الغيوم والعتمة والصمت

محمد سعد عبد اللطيف ،مصر،
نحن أبناء الغيوم الذين ولدنا في يوم مجهول وسنوات مجهولة كأزهار البرية،
من أمهات بلا تاريخ ميلاد ومن آباء هبطوا من الغيوم، وماتوا دون أن يعرفوا متى عاشوا، انطفأوا كنيازك في الظلام، كما سننطفي يَومًاً .سكنا في وطن لا نعرف لمن، وحاربنا دون أن نعرف لماذا،
وقتلنا دون ان نعرف السبب وأحببنا ببراءة بلا أهداف،
ومشينا في شوارعنا الضيقة الملتوية كما يمشي الغرباء،
وجلدنا لأننا حاولنا أن نكون كما نريد لا كما يراد،
وسكنا في غرف بجوار حظائر المواشي والطيور ومع العصافير علي شبابيك غرف النوم ، وخرجنا من المدارس نهتف يوم رحيل الرئيس /عبد الناصر ،ويوم استشهاد أحد أبناء القرية ،وهتفنا مثل العصافير للمطر:
” يا مطر رخي رخي علي ارعت إبن أختي” نحن الذين نباع في الانتخابات ونباع من نظام الى آخر كما تباع القطيع من الأغنام، أبناء العتمة والغياب والصمت والغروب ، كنا نمزق صور الزعماء بعد رحيلهم أي كان الرحيل..؟ في الصباح نعرف ان انقلاباً حدث وقتل رئيس وجاء آخر ومناهج جديدة ونشيد وطني جديد وصور حيطان وقوانين جديدة ،،كيف يتوازن الطفل على قيم ومبادئ وتقاليد ومناهج متغيرة كل مرة..؟
في المساء، قبل العشاء ، علمنا من نشرة الأخبار أن جيشنا دخل
في حرب وصار في أرض أخرى، ونحن اصبحنا جنوداً ونحن اطفال بدعوة الإحتياط قبل نزع سراويل النوم،
لم نكن نعرف لماذا ثم علمنا ان جيشنا سُحق في الحرب ونصف جنودنا
لم يعودوا ولم نعرف لماذا انتصرنا ولماذا هزمنا وحوصرا ربع جيشنا في سيناء
ولا لماذا لم يعد جنودنا ولا أين ذهبوا،
وطلبوا منا الذهاب للإحتفال بالهزيمة بثياب النصر،لم نعرف لماذا حوصرنا في الدفرسوار ولماذا نتساقط في الشوارع من الامراض في القتل الأبيض بلا دم؟
حرمنا من الأسئلة ومن الآجوبة ومن الصمت ومن الكلام ومن الحلم
ومن النوايا” السيئة” وحتى من الأحلام “المعادية”
وتحولت أجسادنا الى حاوية نفايات من الاحلام المجترة والمستهلكة
ونتجول في شوارع كهايكل صامتة رغم ضجيج وفوضي عارمة في شوارع مباح فيه كل أنواع الفوضي ،،
ثم قالوا لنا في التلفاز إن “التتار الجدد” قادمون من خلف الحدود وعلينا الإستعداد لحرب لا نعرف عنها شيئاً، وأهداف لا نفهمها وأن ندافع عن وطن كنا حشرات فيه تزحف، بلا كرامة الحشرات ولا هيبة الجدران العالية ولا لمعان السكاكين.
نحن جميعاً مشروع قتلى أو موتى يَومًا بالتقسيط كخراف ترعى مطمئنة في حقل للمسلخ، بالرصاص او الأمراض او التلوث أو الإنهيارات النفسية.نحن يتامى التاريخ والآوطان والسياسة والأرض والثروة والمستقبل،
ركاب قطار مات سائقه ولا ننتظر سوى الإرتطام الأخير، متى يأتي الإرتطام الأخير كي تنتهي هذه الحكاية المملة..؟

كنا محرومين من السؤال ومحرومين من الجواب، لأننا قبل زمن الآلات الحديثة ، بُرمجنا على الصمت وعلى النسيان، نسيان كل شيء حتى من نكون ولماذا نكون لأننا أشياء، لأن هناك من يفكر ويخطط ويحلم ويتوهم بالإنابة عنا.نحن الهامش الفائض عن الحاجة والرقم في بلاغات القتلى،المدنية والعسكرية
وفي خطابات الآحزاب الوهمية وفي احتفالات القادة:
” نحن حزب الضحايا “،
لم نسقط في معركة حرية ولم نُقتل ونحن في الطريق الى تاريخ مختلف،
ولا ولادة حكاية حياة جديدة تبزغ غدا،
بل قتلنا تحت الأحذية في السراديب والأقبية دون أن يحمل أحدنا سر ثورة .
نحن أبناء الغيوم نجلد كل يوم تحت عصي التاريخ والخطباء والقادة والدول الشقيقة والصديقة، والبعيدة والقريبة والغنية والفقيرة، والأحلام المتفسخة،
والشركات الحقيقية والوهمية والبرامج والآوهام والعصابات والمرض ،
وتمص شرايينا بكامل الصحو والعلنية وأطفالنا يبحثون في المزابل
عن مستقبل لن نشارك في صنعه وحياة لا علاقة لنا بها، وأرض لم يعد يربطنا بها سوى الحذاء.
نحن الأمطار الحجرية والعواصف الحمراء المغبرة، نحن الشوق الراعش للحنين والمسرة والرغيف الحار من الآفران البلدي والامال الخائفة ونوم العافية،
كنا نذهب الى حفل العرس بكل صفاء ونذهب في موكب الجنازات بكل صدق، نتألم مع من في حالة ولادة متعثرة وتطلق الآهااات مع الطلق،
ونمشي في جنازات الغرباء باكين حزن الغرباء.
نحن الوجع المخفي بالكبرياء والدموع الحبيسة والخوف المزمن.
نحن الألق المضيء في الظلام المهمل والاشياء المهملة في الطرقات،
نحن أبناء الريح والعواصف والرعد والبرق والغروب.في ليلة ظلام دامس ،،بلا كهرباء ،مصر الجميلة المكان والزمان والعبقرية، الكريمة، المضيئة، الغنية الثرية، السخية، البهية، الشقية، النيلية والمنارة لطرق العتمة عبر التاريخ.حرام والف حرام أن نعيش بدون أنوار ..،،
محمد سعد عبد اللطيف ،كاتب وباحث مصري ،في علم الجغرافيا السياسية ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى