إقتصادفي الواجهةمال و أعمال

اتفاق “سقف الدين” وهيمنة الدولار الاميركي

غازي أبو نحل
رئيس مجلس إدارة مجموعة شركات: Nest Investments (Holdings) L.T.D
والرئيس الفخري لرابطة مراكز التجارة العالمية

اعتبرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييغا، خلال منتدى قطر
الاقتصادي الذي انعقد منتصف شهر ايار/مايو، ان ” الاقتصاد العالمي، الذي يعاني اصلاً من
انعدام يقين كبير، في غِنى عن ازمة سقف الدين في الولايات المتحدة ” واكدت ” ان التاريخ
يُظهر لنا ان الولايات المتحدة تتصارع مع هذا التخلف المفترض ” في اشارة الى مرّات سابقة
شهدت فيها الولايات المتحدة مثل هذه المعركة حول سقف الدين. واضافت انه ” في اللحظة
الاخيرة يتمّ حلّ الامر، وانا واثقة من اننا سنشهد على هذا السيناريو ” هذا العام ايضاً “
وتابعت ” علينا دائماً ان نبقي في بالنا ان الخطر موجود”
وبالفعل، تحقق ما اشارت اليه المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، اذ قبل ايام معدودة من
انتهاء المهلة في الاول من حزيران / يونيو، اعلن الرئيس الاميركي جو بايدن انه وضع
اللمسات الاخيرة على اتفاق ميزانية مع رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي لتعليق سقف الدين
الحكومي البالغ 31.4 تريليون دولار من الاول من كانون الثاني / يناير 2025 ، مضيفاً
“هذا الاتفاق نبأ طيب للشعب الاميركي”، موضحاً ان الاتفاق ” يستبعد خطر التخلف الكارثي
عن السداد من على الطاولة ويحمي انتعاشنا الاقتصادي التاريخي الذي حققناه بشق الانفس”.
جاء الاتفاق، الذي حال دون تخلف الحكومة الاميركية عن سداد ديونها، الامر الذي كان
سيشكل سابقة في تاريخ البلاد، بعد اسابيع من المفاوضات الساخنة بين بايدن والجمهوريين في
مجلس النواب.
علَّق الاتفاق اذاً، سقف الدين من الاول من شهر كانون الثاني/يناير 2025، وقرر حداً اقصى
للاتفاق في ميزانتَي 2024 ، 2025 ، وشمل استرداد الاموال غير المستخدمة التي كانت
مخصصة لمكافحة جائحة كورونا، كما سرَّع منح التراخيص لبعض مشاريع الطاقة وبعض
متطلبات العمل الاضافية لبرامج المعونة الغذائية للفقراء الاميركيين، ووفقاً لنص الاتفاق
سيسمح مشروع القانون باكثر من 886 مليار دولار للانفاق المالي في السنة المالية 2024
واكثر من 703 مليارات دولار للانفاق غير الامني في العام نفسه، من دون تضمين بعض
التعديلات، كما سمح بزيادة قدرها واحد في المائة للانفاق الامني في السنة المالية 2025.

بالاضافة الى ذلك، ستعتمد قواعد جديدة للوصول الى بعض المساعدات الفدرالية; كما يحمي
الاتفاق قانون خفض التضخم وخطة تخفيض ديون الطلاب التي وقعها بايدن.
في شهر كانون الاول/ ديسمبر2021 ، رفع الكونغرس الأمريكي حد الدين الحكومي
الفيدرالي بمقدار 2.5 تريليون دولار،إلى نحو 31.4 تريليون دولار; لكن هذا السقف استُنزِف
قبل الأوان. وفي شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2022، دعت وزيرة الخزانة جانيت يلين،
الكونغرس إلى رفع الحد القانوني للديون في البلاد إلى مستوى عال يغطي التزام الحكومة
بسداد ديون دائنيها إلى ما بعد انتخابات 2024، وقد أَخطرت الوزيرة، الكونغرس أن البلاد
سيصل سقف ديونها يوم الخميس 19 كانون الثاني / يناير 2023 ، أي قبل الموعد المفترض
في شهر حزيران / يونيو2023 ، وإذا لم يفتح الكونغرس السقف فوق الحد الذي تم بلوغه،
فإن الوزارة سوف تضطر في المرحلة الأولى للعمل ببعض ” التدابير الاستثنائية” لتجنب
التخلف عن السداد. وكانت الوزيرة الأمريكية صرّحت سابقاً بأن ” أمريكا دفعت جميع
فواتيرها في الوقت المحدد منذ عام 1789 ، وعدم القيام بذلك سيؤدي إلى كارثة اقتصادية
وهذا ما أكده كبير الاقتصاديين الأمريكيين في morgan chase jp حين قال انه “من
المرجح تماماً ان يؤدي ذلك إلى حدوث أزمة مالية حادة”.
التدابير الاستثنائية التي أشارت إليها الوزيرة الأمريكية، في حال لم تحصل الوزارة على طلبها
بفتح سقف الاقتراض، لا تعدو أن تكون مناورات، وحِيل مشكوك للغاية في فعاليتها، وفي
تجنيب أمريكا حرج عدم احترام الالتزامات تجاه الدائنين وتجاه قواعد القانون الدولي.لأن
الأمر يتعلق بانتقاء بعض الديون لسدادها على حساب أخرى مستحقة الدفع في الموعد نفسه.
واعتادت وزارة الخزانة الأمريكية المسؤولة عن إصدار وسداد سندات الخزانة الأمريكية،
على مواجهة مثل هذا الوضع على مر السنوات القليلة الماضية، وكانت تنجح في كل مرة في
الحصول على موافقة الكونغرس لزيادة سقف الاقتراض، والحفاظ على مكانة الدولار،
ومصداقية البلاد في النظام المالي العالمي، لكن الامر اختلف هذه المرة بسبب اتخاذ
الجمهوريين الذين يسيطرون على مجلس النواب، من القضية، فرصة للانتقام لزعيمهم دونالد
ترامب، وتصفية حسابات مع الديمقراطيين. ومقارنة بعام 2011 ، تقدم الصين اليوم بديلاً
أكثر جاذبية للأسواق المالية الأمريكية، لسبب وجيه، وهو أنها باتت مفتوحة لتدفقات السندات
الأجنبية والأسهم بطريقة لم تكن كذلك في ذلك الوقت. وبعد أن أنهت الصين إغلاقاتها
المرتبطة بجائحة كورونا، صار سوق سنداتها الحكومية الذي يقارب 4 تريليونات دولار يتمتع
بمجال واسع لاستقطاب المستثمرين الأجانب .
الجمهوريون، اشترطوا لتمرير طلب الديمقراطيين، إحداث تخفيضات كبيرة في الإنفاق، أي
تجريد الديمقراطيين من ” إحدى أهم أدوات تطبيق سياسة التوسع الاقتصادي، اتساقاً مع

منظورهم المسمى “اقتصادات جانب الطلب (demand-side economics) بحقن النمو
باستثمارات في البنية التحتية وفي مشاريع الطاقة المتجددة.
لو لم يتم الاتفاق على رفع سقف الدين، لكانت وزارة الخزانة الاميركية بدأت العمل بمبدأ
المفاضلة في سداد جزء من الديون التي حان موعد استحقاقها. لكن بمجرد استنفاذ الحكومة
لاجراءاتها الاستثنائية ونفاذ النقد، فان الحكومة لن تكون قادرة على اصدار ديون جديدة ودفع
فواتيرها. هنا كان يمكن ان ينتهي الامر بالحكومة للتخلف عن السداد ( debt default) إذا
وجدت نفسها غير قادرة على سداد المدفوعات المطلوبة لحاملي سنداتها. مثل هذا السيناريو
سيكون مدمراً من الناحية الاقتصادية، ويمكن ان يُغرق العالم في أزمة مالية كبرى.
مثل هذا السيناريو لم يحصل، وتمكنت الولايات المتحدة، مرة جديدة، من تجاوز ازمة مالية
خطيرة على المستويَين الداخلي والخارجي، وبذلك استمر الدولار في لعب دوره المركزي
عالمياً، اذ على الرغم من كل الضجيج حول تراجع دور العملة الاميركية على مستوى العالم،
تُظهر الارقام ان البنوك المركزية ومؤسسات القطاع الخاص على حد سواء، تواصل زيادة
حيازاتها من السندات المقومّة بالدولار.
وعلى الرغم من التقارير العديدة الأخيرة حول تنويع الاحتياطيات، وإعادة التنظيم ” الجغرافي
الاقتصادي” فضلاً عن تحرك الصين لتدويل استخدام اليوان، لا يوجد دليل على أن العالم
استهل السنة الجديدة بعمليات بيع مكثفة للأصول الدولارية; في الواقع ما زال القطاع الرسمي
يشتريها، والخاص كذلك، وفقاً لتحليل خزائن البنوك المركزية العالمية
كما أظهرت البيانات المعدلة من الاقتصاديَين في مجلس الاحتياطي الفيدرالي كارول بيرتاوت
وروث جودسون أن البنوك المركزية في الخارج ومؤسسات القطاع الخاص كانت مشترياً
صافياً لسندات الخزانة الأمريكية في الشهرين الأولين من هذا العام. وكان القطاع الخاص في
الخارج أيضاً من بين المشترين الأقوياء لديون الوكالات الأمريكية، مما زاد من التشكيك في
الرواية السائدة في بعض أوساط السوق بأن وضع الدولار كعملة بارزة في العالم آخذ في
التآكل السريع.
وبحسب تقديرات بيرتاوت وجودسون، بلغ إجمالي تدفقات البنوك المركزية الأجنبية على
سندات الخزانة الأمريكية في شباط/ فبراير 47.6 مليار دولار، على الرغم من أن القيمة
الاسمية للمخزون انخفضت بمقدار 20 مليار دولار إلى 3.44 تريليون دولار.
بدوره يعتقد ستيفن إنغلاندر، رئيس أبحاث العملات الأجنبية لمجموعة العشرة في ” ستاندرد
تشارترد”، أن البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم ستزيد من تعرضها لعملات أخرى غير
الدولار. لكنها ستكون عملية بطيئة و “هزيلة” حتى لو استمرت طويلاً.

يقول إنغلاندر، وهو الخبير باتجاهات احتياطيات العملات الأجنبية العالمية: ” ستصاب بخيبة
أمل إذا اعتقدت أن إلغاء” الدولرة ” يعني توقف شراء الدولار. فالشراء لا يزال موجوداً،
والجدال فقط عند نقطة السعر الأرخص”. مضيفاً، بأنه حتى أكبر المشككين بالعملة الأمريكية
لا يرون تخارجاً كارثياً على الأصول المقومة بالدولار، فمن الصعب التعامل مع هذا الأمر
بجدية نظراً لقلة البدائل.
منذ سنوات عديدة، والتقارير المرتبطة بزوال الدولار تبالغ إلى حد كبير بهذه الرواية، لكن
النقاش أخذ منعطفاً جديداً بعد مذكرة بحثية من ستيفن جين، رئيس ” يورايزن كابيتال”، وخبير
تدفقات رأس المال العالمي .
يجادل جين بأن الدولار عانى ” انهياراً مذهلاً ” في حصته السوقية كعملة احتياطية العام
الماضي، والسبب على الأرجح كان استخدامه القوي في العقوبات الدولية المفروضة من أقوى
دولة في العالم.
وأوضح جين أن حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية الرسمية تراجعت إلى 47% عام
2022 ، بانخفاض عن 55% في العام الأسبق، وعن 73% في عام 2001 . كما أن فقدان
الدولار لحصته السوقية العام الماضي كان أسرع بعشر مرات من التآكل المطرد على مدى
العقدين الماضيين.
عموماً، تعتبر بيانات صندوق النقد الدولي حول احتياطيات العملات الأجنبية معياراً عالمياً.
وقد أظهرت تلك البيانات أن حصة الدولار من الاحتياطيات العالمية في نهاية العام الماضي
بلغت 58.4%، وهو أدنى مستوى منذ إطلاق اليورو عام 1999 .
ولا يزال من الممكن أن ترتفع المشتريات الدولية للأصول الدولارية، حتى مع تقلص حصة
العملة من إجمالي الاحتياطيات ببطء، وهو ما يبدو أنه يحدث. ومع ذلك، أظهرت أرقام
بيرتاوت وجودسون أن تدفقات البنوك المركزية الأجنبية على سندات الخزانة ارتفعت العام
الماضي بمقدار4.7 مليار دولار، وبلغ صافي المشتريات المعدلة حسب التقييم لسندات
الوكالات الأمريكية 97.3 مليار دولار، غالبيتها العظمى من الصين.
نختم مع مديرة صندوق النقد الدولي، التي قالت في منتدى قطر الاقتصادي، رداً على سؤال
يتعلق بالتحول عن استخدام الدولار في العالم ” لا نتوقع تحولاً سريعاً في الاحتياطيات، لان
سبب استخدام الدولار كعملة احتياطي هو قوة الاقتصاد الاميركي وعمق اسواق رأس ماله”
وختمت ” لم يحن وقت وداع دولاراتكم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى