مجتمع النمل

 
منير المجيد
(Monir Almajid)
يُضرب به المثل في دقّة التنظيم والعمل الدؤوب.
ذُكر في الكتب الدينية، حتى أن القرآن خصّص له سورة مستقلة تحمل إسمه: «النمل».
«وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ، وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ».
وتُفسّر الأدبيات الإسلامية قصة سليمان على أنه جمع يومًا «جنوده من الإنس والجن والطير والدواب وأمرهم بالسير في صفوف منتظمة، وأثناء سيرهم مروا على وادٍ يسكنه النمل، وكان النمل منهمك في مهامه إلا نملة وقفت تراقب مشهد سير نبي الله سليمان عليه السلام وجنوده، وعندما اقتربوا من بيوت النمل صاحت النملة بأخواتها النمل أن أسرعوا وادخلوا إلى مساكنكم حتى لا يدوس عليكم نبي الله سليمان وجنوده دون أن يشعروا فهم قد اقتربوا منا.
وهنا تجلت قدرة الله وعلمه الذي علمه لنبيه، فقد سمع سيدنا سليمان عليه السلام ما دار من حديث بين النملة وأخواتها، وفهم ما قصدته النملة فتبسَّم ضاحكاً من قولها، ثم أمر جنوده بالمسير ببطء، حتى يدخل النمل إلى بيوته ولا تصاب بأذى».
ويبدو الخلاف واضحاً بين القرآن والتوراة فيما يخصّ الأنماط المعيشية للنمل.
في سفر «الأمثال» يتوّضح أن الملك سليمان لم يعترف بنظام النمل الإجتماعي حسب التسلسل الرتبي، بل أن كلّ نملة تعمل على نحو غريزي دون تواصل أو توجيهات من المستعمرة: «اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكن حكيماً، التي ليس لها قائد أو عريف أو متسلط، وتعد في الصيف طعامها، وتجمع في الحصاد أكلها».
في العصور الحديثة قمنا بإنتاج وتصوير آلاف الأفلام لنوّثق حياتها وطريقة عملها. حتى السينما الروائية جعلتها حشرات مفترسة مُرعبة تنمو بحجم عدّة أمتار (فيلم الرعب الردئ إمبراطورية النمل، من العام ١٩٧٧)، لحقتها سلسلة أفلام الأنيمي «Antz»، ومن ثمّة سلسلة «Ant-man»، إقتباساً من السلسلة الاخرى «سپايدرمان»، رجل العنكبوت.
النمل (Formicidae) هو عائلة من الحشرات المجنحة بأكثر من ١٤,٠٠٠ نوع موصوف. يُعدّ من أنجح مستعمرات الحشرات. ويعيش في مجتمعات متطوّرة. وهو في ترتيب Hymenoptera يرتبط ارتباطا وثيقاً، وعلى نحو خاص بالدبابير. تم العثور على أقدمه في طبقات تنتمي إلى الجزء الأخير من العصر الطباشيري، بعضه نزق عضّه موجع، وآخر سام.
يمكن التعرف عليه من خلال الخصائص الفيزيولوجية التالية: قرون إستشعاريّة مع عقدة حادة تشبه الكوع، ومفصل جسم كروي، وعنق يتكون من مفاصل أطرافه الخلفية، ووسط نحيل قد يُثير حسد معظم النساء.
أنواعه تُغطّي كل زاوية من زوايا المعمورة ماعدا القطب الجنوبي. بيد أنّه يُفضّل، على وجه الخصوص، المناطق الحارة، لكن هذا لم يمنعه من التأقلم في مناطق باردة ورطبة أيضاً.
في الدانمارك هناك أكثر من عشرين نوع، غير سام، من النمومل (القواميس العربية تجمعها كنملات، مما يعني تحديد جنسها كأنثى، أنا أفضّل صيغة الجمع الثانية نمومل) في حديقتي سبرتُ نوعين منها، الأسود الرشيق السريع (Stenamma Debile) يتراوح طوله بين ٣,٥ إلى ٤,٠ ملم، والذي يُفضّل العيش في الشقوق الضيّقة تحت البلاط المحيط من ثلاثة جهات في منزلي، حيث يتنزّه بصفاقة طيلة الليل والنهار بحثاً عن فريسة قد تكون حشرة ميتة أو اخرى قابلة للهجوم الذي يشنّه هذا النوع على شكل غارات منظمّة مُخطط لها تحتاج إلى دقّة ومهارة استراتيجية، والأشقر النزق الذي يشبه الإسكنديناڤيين (Lasius Flavus) يتراوح طوله بين ٢,٢ إلى ٤,٨ ملم، الذي يبقى تحت الأرض ولا يخرج إلّا في حالات الضرورة ويبني مستعمراته تحت مرج الحشيش، وخاصّة قرب جذور بعض النباتات أو الأشجار إن وُجدت.
يُقدّم بعض أنواعها في مطاعم الميشيلين الدانماركية. وهذا لقنتهم إيّاه مطاعم الشوارع المنتشرة في جنوب شرق آسيا، لأنها، مع عدد كبير آخر من الحشرات، تُشكّل غذاءً بروتينياً هاماً جداً، قد ينقذ البشرية من المجاعة في الأحقاب القادمة.
بين الأسود وبيني عداوة خاصة، فهو، وبقدرة قادر، مولع بزهور الخضار التي تغري النحل والفراشات في نقل طلعه كي يتسنّى لها التزواج.
في الموسم الماضي قضى، تقريباً، على موسم الكوسا، بنوعيه الأخضر والأصفر، مُنجذباً إلى الزهرة الصفراء الكبيرة المُبهرجة، لتتحوّل بعد ساعات قليلة إلى وُريقات مُترهّلة حزينة مليئة بالثقوب والكدمات البنيّة.
ولا يقتصر الأمر عند هذا فحسب، بل قد يدخل منزلك دون إستئذان .
في الصيف الماضي وضعت وجبة من الخبز الطازج الساخن، الخارج لتوّه من الفرن، في ساعة متأخرة من الليل على منصة المطبخ وذهبت للنوم، لأنني لم أشأ أن أنتظره ليبرد، في تصرّف ظهر أنه غبي للغاية.
صباح اليوم التالي كانت أرتال تعدّ بالآلاف منها يذهب ويجيء في رتلين عسكريين: من باب الشرفة المُغلق جيداً، الأول يدخل ويأخذ مشوار خمسة أمتار يتسلّق خلالها الأدراج وبقية العقبات، والثاني العائد أدراجه بعد أن اقتطع قضمة ميكروسكوبية لا تتناسب مع كل هذا العناء.
لا خلاف على المسار، والكل منهمك بالعودة أو يحثّ خطاه لنقل أجزاء من رغيف الخبز إلى ملكته النهمة.
هو أيضاً أحد أسباب إنتشار حشرة المنّ على مزروعاتنا. في الخريف ينقل بيوضها إلى موطنه تحت الأرضي، وفي الربيع، بعد أن تفقس، ينشرها بصبر معروف على أوراق النباتات والخُضار.
مُكافأة النمل، بعد كل المعاناة، أنّه يأتي لزيارة المنّ الذي ساعده من قبل، فيضرب بنعومة على مؤخرة الحشرة، مُستعملاً قرن إستشعاره، فتقوم الحشرة بفرز مادة لزجة دبقة شديدة الحلاوة، يتغذّى عليها النمل، لا بل يعشقها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى