ثقافة

الحاكم الصالح

الحاكم الصالح
عبد الرزاق دحنون

الصالح في اللغة: خال من الفساد، مُتسم بالبرّ والخير، مُستقيم، سليم. يُقال
ماء صالح للشرب، عذب فرات. والصالح المستقيم المؤدي لواجباته. ومن
مستلزمات الحاكم أن يكون صالحاً مستقيماً. ولو عدنا إلى المفكر العراقي
هادي العلوي-طيَّب الله ثراه- حيث يقول: هناك قاعدة فكرية خطيرة ترجع
إلى كونفوشيوس وتوسع فيها أهل الفكر في الحضارة الإسلامية: إن أخلاق
الناس تتبع سلوك الحاكم، فإن كان صالحاً مستقيماً، منصفاً عادلاً، عدلوا
واستقاموا، وإن جار وسرق جاروا وسرقوا.

زياد الرحباني يغني مع أفلاطون:
https://www.youtube.com/watch?v=lBBE8TdYbUM

هل هناك شَرط يجب أن يتوفر في الإنسان ليكون حاكماً صالحاً بغض
النظر عن عمره أو جنسه أو عرقه أو دينه؟ أغلب الظن بأن اختيار
مجموعات بشرية تعيش في دولة مستقلة أحد أفرادها ليكون حاكماً تخضع
في عصرنا الحديث لشرط موضوعي. ما هو هذا الشرط؟ شرط في اللغة:
اسم، والجمع: شُروط. الشرط: ما يوضع ليُلتزم به. والشرط في الفقه: ما
لا يتم الشيءُ إلا به، ولا يكون داخلاً في حقيقته. بلا قيد أو شرط: على
نحو مُطلق تام غير مشروط، ما هو الشرط الذي وضعه أفلاطون ليكون
الإنسان حاكماً صالحاً؟

يشكو أفلاطون من أننا في المسائل التافهة مثل صناعة الأحذية نعتمد على
المختصين في صناعة الأحذية لصنعها لنا، أما في السياسة فإننا نفترض
أن كل شخص يقدر على احراز الأصوات يستطيع أن يكون حاكماً. عندما

نصاب بالمرض فإننا ندعو لمعالجتنا طبيباً حاذقاً في صنعته، حصل على
شهادة علمية محترمة، ولا ندعو في هذا الحال أوسم طبيب-من الوسامة
أي الجمال- أو أكثر الأطباء فصاحة وزلاقة لسان، وعندما تُصاب الدولة
كلها بالمرض ألا يجدر بنا أن نبحث عن أحكم وأعقل الحُكَّام؟ وأن نعمل
على إيجاد وسيلة لمنع عدم الكفاءة والمكر من الوصول إلى المناصب
العامة، ونختار ونعدّ أفضل البشر ليحكموا لمصلحة الجميع، هذه هي
مشكلتنا الحقيقية في السياسة. ولكن وراء هذه المشاكل السياسية تكمن
طبيعة البشر. ولنفهم السياسة يجب علينا، لسوء الحظ، ان نفهم علم النفس.
وكلما زاد أفلاطون تفكيراً في هذا كلما زاد فزعة ودهشته. وهو يصف
تصوره للدولة التي يريد أن يقدمها لنا، فيقول:

“دعونا نتأمل أولاً كيف تكون حياة الناس في هذه الدولة. إنهم ينتجون قمحاً
وخمراً، وملابس وأحذية، ويبنون منازل مريحة لأنفسهم، يشتغلون في
الصيف في صفوف مشتركة وأقدام عارية، وفي الشتاء لابسين ومنتعلين،
ويعيشون على القمح والشعير، يطحنون القمح ويعجنون الدقيق، ويخبزون
الفطائر وأرغفة طازجة في التنور يقدمنها على أطباق من القش والقصب،
وهم متكئين على سرر من السدر أو أغصان الريحان، يأكلون ويتمتعون
هم وأولادهم، ويشربون النبيذ الذي صنعوه بأيديهم. وبالطبع يستوردون
بهاراً وملحاً، وزيتوناً وجبناً، وبصلاً وملفوفاً وخضاراً، من بلاد أخرى
تناسب الطبخ والغلي. وتقدم لهم حلوى من التين والقرع الرومي وحب
الآس والجوز والكستناء التي يشوونها على النار. تغطي رؤوسهم أكاليل
الزهور، ولا تفتر شفاههم عن حمد الله وشكره”.

جمهورية أفلاطون:
https://www.youtube.com/watch?v=7nQlpDI4KWM&
t=27s

هذا الدولة الشيوعيَّة دفعت أفلاطون ليتساءل: لماذا لم تتحقق هذه الجنة
البسيطة في حياة البشر وتبرز في خريطة العالم؟ لو ذهبنا مع أفلاطون
أبعد من ذلك لوجدنا أن المسألة أعقد كثيراً مما يتصور البشر. هل يميل
البشر بطبعهم إلى الاقتناء والمنافسة والغيرة؟ هل هو صراع البقاء الذي
حملوه معهم من فترة توحشهم وعيشهم في الكهوف والغابات؟ الأمر أبعد
من هذه الرؤية أيضاً، لأن المجتمعات البدائية تنافست فيما بينها وقامت
الحروب على موارد الأرض واقتسامها. وهذا ديدن البشرية حتى يومنا
هذا، لم تتغير الصورة كثيراً يا أفلاطون. وهذا الأمر يبرز اليوم بروزاً
واضحاً ويُعتبر من أكبر تحديات الفلسفة المعاصرة، ونحن ننتظر منها-أي
الفلسفة- أن تُجيب عن السؤال الذي ينغص عيش البشر في عصرنا
الحديث بين من يملك ومن لا يملك. ويكون كان كارل ماركس محقاً في
تسميته هذه الظاهرة البشرية المقلقة “الصراع الطبقي” لأنه لم يجد سبباً
آخر لهذا التملك المجنون للثروة، والتي من المفترض أن تكون مشتركة
بين البشر على هذه الأرض، لتسهيل حياتهم في عيش آمن في ظلِّ حاكم
صالح يتدبر أمر الدولة بفطنة ودراية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى