كيف يفكر رؤساء الدول و رؤساء الحكومات ؟

د. صادق السامرائي
الدراسات الإجتماعية التي تصدت للسلوك في مجتمعنا، قد أغفلت الكثير من المفردات التي لها دور أساسي في إطلاق السلوك الفردي والجماعي، وتأليف الحالة الإجتماعية بظروفها وتحولاتها وعطاءاتها القائمة في حياتنا وعلى مدى العقود.
وقد تم التركيز على البداوة والواقع الحضري والزراعة ودورها في تحقيق صيغ التفاعل والتعامل البشري.
كما تطرقت إلى النظريات التي ما أعطت جوابا واضحا وتفسيرا معقولا لما يجري في المجتمع، وتمحورت معظمها حول نظريات التحليل النفسي القديمة، واستندت على أمثلة قليلة أو مفردة لتبني استنتاجا عاما، تحاول أن تفسر به ما يجري على الساحة السياسية،التي هي جزء من النشاط الإجتماعي والفردي.
ولم تتطرق الدراسات اإلى دور الكرسي في بناء ملامح الشخصية، وكيفية تأثيره على السلوك، رغم أننا نرى ذلك بوضوح ونعيشه كل يوم، فنتأثر به ونكون ضحايا أو غنائم له أو غانمين له ومستفيدين منه.
علاقتنا بالكرسي
الكرسي يؤثر بقوة في تفكيرنا ويحدد مسيرتنا، ويدفعنا إلى السلوك الذي يتواءم وإرادته في الحياة القائمة، وفقا لنظامه وسلطته.
وهو جزء مهم وفعال في ديناميكية شخصيتنا، إذ يمنحها خصائصها ويبرمج ذهنيتها وإستجاباتها للمنبهات المحيطية، فيكون السلوك الحاصل عبارة عن إنطلاق لرد فعل قائم أصلا فيها ومستعدة له.
ووفق رؤيتنا الجمعية السائدة، كلٌ منا يسكنه كرسي وقوة تدفعه إلى أن يتحقق من خلاله!
ولدينا قناعة ثابتة بأن الحياة لا يمكن صناعتها والتقدم بها إلا بالكرسي!
فلا قيمة للأشياء إن لم تكن مقرونة به، ولا قوة تعلو عليه، ولا إنجاز حضاري فردي أو جماعي إلا بواسطته.
ولهذا ترانا لا نعطي قيمة في حياتنا وعلاقاتنا الإجتماعية للموضوعات الأخرى، مثلما نعطي للكرسي وأصحابه.
فالجالس على الكرسي يتحول في نظرنا إلى رغبة تداعب خيالاتنا وأحلام يقظتنا، وتدفع بنا إلى حيث لا نريد بكامل وعينا ومحض إرادتنا.
وقد سقطنا ضحايا في شِباك رغباتنا وضعفنا وأوهامنا، المتألقة في فضاءات خيالنا وأعماق نفوسنا، ودياجير طموحاتنا الكرسوية الدفينة.
وهذا يجعلنا نضفي عليه صفات لا تمت إليه بصلة، بل هي نتاج ما فينا من تداعيات الفنتازيا فنمدحه ونبجله، ونحسب أننا نمدح أنفسنا ونعززها ونحققها، من خلال هذا الذوبان المنعش في أوهام الكرسي.
ومَن ينظر من حوله سيجد أن الكثير من سلوكياتنا محكومة بإرادة الكرسي، وأنها تبنى وتتهذب وتتعقد وتتبسط، وفقا لدوره وقوته الضاربة في كياننا الإجتماعي والثقافي والتراثي البعيد.
وكأن الكرسي الآلة التي تعصر المجتمع، وتصبه في قوالبها التي تريد.
فهو يمثل أعلى قيمة نفسية وسلوكية في واقعنا، الذي يستحوذ عليه ويسحقه سحقا شديدا، وسلوكنا على مختلف المستويات والنشاطات يسترشد به ويتحقق وفقا لرؤاه.
وهذا ما يميزنا عن مجتمعات الدنيا.
ويبدو أن لهذه العلة السلوكية جذورا تاريخية وثقافية ونفسية، مستفحلة ومؤثرة في ذهنيتنا الجمعية عبر الأجيال.
الكرسي والسلوك
الكرسي يمنحنا نمطا من التفكير السلبي المنغلق، الذي لا يسمح بأي تفاعل إيجابي مع الآخر. ولهذا لا يمكن للجالسين عليه أن يتفقوا على شيئ، إلا فيما ندر، لأنهم يتحولون في إجتماعاتهم إلى كراسي متصارعة لا ترى إلا نفسها وما فيها، ولا ترغب بالآخر ولا تراه ولا تسمعه، إلا بقدر تعلق الأمر بما يضيفه إلى قوائم كرسيّ الذات من قوة وحجم وبهاء زائف.
ولا يناقشون شيئا وإنما يتناطحون بكراسيهم البارزة فيهم، والمبتلعة لمعظم كياناتهم الإنسانية .
فينسى كل منهم موضوعه لغياب القدرة على الفصل ما بين الذات والموضوع.
فصاحب الكرسي لا يمكنه أن يغيّر رأيه، لأنه يحسب ذلك إهانة وجرحا كبيرا لذاته.
وجميعنا نشترك ببعض أو جميع هذه الصفات، والواحد منا قد يمتلكها بدرجات متفاوتة، لكنه ما أن يجلس على الكرسي حتى يطلقها مدوية متوحشة شرسة لا ترحم حتى صاحبها، لأن الكرسي يصيبها بذهان العظمة وجنون العدم.
ولا يمكن لأي إتفاق أن يتحقق في غاب الكراسي، إلا بضغوط الأسود المتواصل، وإلا فلا يمكن أن يتحقق هذا ما بين الكراسي الفاعلة.
وإن لم تصدقوا، فاسألوا القرن العشرين عن سلوك الكراسي وصراعاتها وحروبها ودمويتها، التي فاقت كل التصورات، والتي نضرس بسببها اليوم ونأكل الحميم المسعور.
فالصراع على الحكم عندنا عبارة عن كراسي تقاتل كراسي، لأن البشر قد تماهى بالكراسي، وخرج من آدميته إلى جماد الخشب وجفافه، وهكذا ترى النيران تأكله أكلا عنيفا.
وما يجري –إن صح تفسيره- عبارة عن كراسي في أجيج احتراقها الذي سيحولها جميعا إلى فحم أو رماد.
وتجدنا- خصوصا الساسة منا- وكأننا كراسي تتبارى بعيدا عن كل ما يرتبط بالحياة من معايير وقيم ومبادئ نقولها ونكتبها، وعندما يأتي وقت الفعل، يكون الكرسي هو المعيار وليس المبدأ أو العقيدة أو الدين.
وواحدنا يلتصق بالكرسي إلتصاقا عجيبا، وينتمي إليه إنتماءا شديدا حتى يكون الكرسي ممثلا لشخصه ووجوده وكيانه بالكامل.
وكلنا عاش تجربة تغير سلوك ومواقف وشخصيات العديد ممن نعرفهم، بعد أن أمسكوا بالكرسي أيا كان نوعه ودوره في الدولة والحياة .
الكرسي والنكوص
وقد دفعت الرهبة والرغبة إلى أن يمتلك الكرسي الفردَ ويستعبده، ويكون محور حياته وغاية دوره وأسمى هدف له وكأنه أمه، وربما يكون لضعف الأمومة والحرمان من حب الأم أو التنافس عليه، تأثير على علاقتنا بالكرسي، وتحوله إلى رمز للحب المفقود في الصغر.
كما أن الجلوس على الكرسي يذكر ببعض ملامح وضعيتنا في أرحام أمهاتنا.
وكما هو معروف فأن حياة الأرحام، تعني حياة الأنانية والطمع والجشع من أجل البقاء والفوز بالحياة.
ويبدو أن الفرد كلما عانى حرمانا شديدا من أمه في طفولته، يكون تمسكه بالكرسي أعظم وأشد من غيره، كسلوك تعويضي عما حرم منه ولا يمكن إعادته.
وقد يعبر عن نكوص سلوكي مرضي بحاجة إلى علاج.
كما أن هذه النوازع تساهم في إنكاره كعامل مهم في سلوكنا وتمنعنا من الإشارة إليه ودراسة تأثيراته.
كما تفاعلت عوامل متراكمة وعقد متورمة في آليات الأعماق والذهنية، لكي تؤسس للسلوكيات الدامية في تأريخنا المعاصر، الذي أفنى القرن العشرين بصراعات فائقة الدموية والإيلام والقهر والتدمير، وتسبب بالمصائب والكوارث المتوالية في الساحة الإجتماعية المحتدمة.
فما هو الكرسي؟
الكرسي مدمر المبادئ والقيم والأهداف والأحزاب والتطلعات، والساعي أبدا إلى سفك الدماء وتحقيق الجور والإمعان بالفتك والدمار البشري.
وهو القوة المتحررة والإمساك بأمر الآخرين، والتلاعب بالقيم والقوانين، وامتلاك ما لا يمتلكه الغير، والتعبير المطلق عن كل البواعث والرغبات الدفينة.
ويعني لحظة السعادة الفردية، والفرصة للإنقضاض على الحياة، وأخذ منها ما يمكن أخذه دون التفكير بالغد وبالناس، وإنما هو تعبير مطلق عن أنانية منفلتة ورغبة لا حدود لها، وإرضاء لحاجات نفسية معقدة وصعبة.
ويعني الخروج من حالة الكبت والإنكباس الرغبوي، إلى حالة التعبير الشامل عن رغبات مخزونة، وأخرى متجددة ومولودة من رحمه ، وما يوفره لمالكه من محفزات ومسوغات ودوافع ونشاطات، تأتي إليه بالكثير من الخيرات والشبهات والشهوات.
والمصاب بداء الكرسي يحسب نفسه واحدا أوحدا لا مثيل له بين الناس، وعنده ينتهي الرأي.
ولا يحق لك أن تقول له بأن هناك من يوازيه بالكفاءة والقدرة. فهو العارف بكل شئ وعليك أن تطيعه ولا تبدي أي رأي يعارض ما يراه. لأن في ذلك تهديد لقوائم الكرسي، وتطاول على مقامه الرفيع.
وعليك أن لا تنسى أن تنظر إليه ورأسك منكس، فإن نظرت إليه بإستواء نظر فأنت تزدريه وعليه أن يقتص منك وينفث غضبه فيك.
تحليل السلوك
في هذا السلوك امتداد لنمط التفكير الأبوي وامتلاك الحق في تقرير مصير الآخرين.
الكرسي وفقا لمنظور الفرد المصاب بدائه، هو الحياة والصيرورة والفرصة، التي عليه أن ينتقم بها من الحياة، ومن الآخرين بالإستحواذ على حقوقهم وما بين أيديهم، فهو يريد كل شيء ولا يقنع بشيء لديه أبدأ.
الكرسي يعني أنك الآمر الناهي، وأنت على حق وغيرك على باطل، لأنه يريد الكرسي منك، وأنت صاحب القوة والقرار والمتحكم بمصائر الذين يجلسون تحت قوائمه، ويقفون أمامه في غاية الخوف والإرتعاش ما بين الإخفاق والأمل.
والجالس على الكرسي، أيا كان يدرك جيدا أنه ليس ملكه الشرعي، وأنه يغتصبه ويستأثر به على حساب الآخرين، ويدرك أيضا بأنه مهدد، لأن الآخر يريده ويطمع فيه أشد الطمع، فيعيش في حالة شك وقلق وخيم.
وبما أنه لا يمكنه أن يبقى في كرسيه طويلا، فعليه أن يحقق ما يريده من رغبات ومنافع شخصية إلى أقصى ما يستطيع، ويتركه وقد أفرغ كل ما بجعبته من تفاعلات ومشاعر وعواطف وأمنيات، وكأنه ينتقم من الكرسي ومن الذي سيجلس عليه من بعده، فيوفر له كل أسباب العناء والقهر، ويحسب أنه بذلك يعيق متعة الطامع به من بعده.
فهو لا يعرف إلا أن يكون الكرسي له وحده حتى لو كلف ذلك حياته، فلا قيمة عنده ولا معنى للوطن والمجتمع عندما يتعلق الأمر بالكرسي.
الثعلب والكرسي؟
ما دام الكرسي مغتصبا وقلقا فلا بد أن يكون الجالس عليه ثعلبا لكي يدوم بقاءه فيه.
إن من الصفات التي نعرفها عن الثعلب هي الخداع والمكر والتضليل، ومواصلة الصيد ودفن الفريسة لكي يأكلها فيما بعد، فهو لا يهدأ من مهاجمة الفرائس كلما توفرت له الفرصة، لأنه يحسب لغده ويريد أن يوفر كل شيء في يوم واحد، وهذا يعني أنه طماّع وشره ولا يأبه إلا لمكره وأمان طعامه.
والثعالب تضحك على الآخرين لكي تفترسهم، وتبدو أمامهم بسلوكيات تمويهية لتنقض عليهم، وتقضي على أحلامهم وتحولهم إلى زادٍ لها ولجمعها المتآزر معها.
ولا يخفى أن الثعالب أيضا تتحين الفرص لأكل فضلات الحيوانات المفترسة الأخرى، وهي تتعامل مع الأقوياء بخبث من أجل أن تحقق مآربها وأحلامها المريضة، وتحرض الأسود على الغزلان والذئاب على الحملان، لكي يتوفر لها الطعام وتفوز باللذة وتتمتع بالخبائث وتفخر بشطارتها.
وكم تكاثرت الثعالب وأغوت الأسود بالإفتراس، فأخذت ما أخذت وهربت إلى مخابئها تتلذذ بما كسبته من مغانم على حساب الذي يعاني من الويلات المتفاقمة.
ولا زالت الكثير منها تتوالد، وهي غير قادرة على الحياة من غير أسد يحميها وتتعامل معه بكل قدرات مكرها وخداعها وتضليلها، لكي تبقى آمنة في كراسيها.
والثعالب قد تنوعت وتكاثرت وتفاعلت مع الكراسي بطريقة مريضة، وبرؤية خارجة عن العصر ومعاني ما تدعيه من الأقوال، التي لا تفقه إلا بترديد حروفها وتتبرأ من معانيها ودلالاتها وما فيها.
فالكرسي لا بد أن يجلس عليه ثعلب شديد المكر لكي يبقى أطول ما يمكن، وربما ما جلس عليه في القرن العشرين أسد قط.
فكل الأفعال التي قام بها الكرسي هي أفعال مؤذية للناس والبلاد، وتتميز بصناعة الحبائل والدسائس للإيقاع بالآخرين.
وقد طغت على أساليب المكر الثعلبي دعوى المؤامرة والتآمر والتواطؤ والتجسس، والتي قضت على الآلاف من غير ذنب أو مسوغ قانوني أو جريمة يحاسب عليها أي قانون أرضي.
بل أن خديعة أو مكر المؤامرة قد أخذت من الواقع السياسي الكثير جدا من الجهد والوقت والتفكير، وصارت هي العمود الفقري للكراسي، وعقيدة الحكم أو الحزب الحاكم.
فاجلس على الكرسي وتعلم الخداع والشك وسوء الظن بالآخر، والحذر من أخيك والإجهاز على كل مَن تراه لا ينظر إليك بعين الإطمئنان، واصنع له دسيسة أو تمثيلية تحت عنوان المؤامرة، وما شابهها واقضي عليه وعلى الآخرين ممن تعتقد أنهم معه.
وأصبحت خدع الكرسي ذات مسميات عديدة في الوقت الحاضر، لأن خديعة المؤامرة ما عادت تنفع ولا قيمة لها، ومضت الكراسي تأتينا كل يوم بمكرة وخدعة غايتها قتل الآخر والفتك به، ومواصلة سفك الدماء حتى تسقط قوائم الكرسي، وتعاد الكرة من جديد.
إنها حلقة مريرة مفرغة لا بد من قطع دابرها، وإلا فان الضحك على الذقون سيتواصل ويتعاظم، والقاموس الجديد قد وفر لنا الكثير من المفردات، التي نستخدمها لكي نصون الكرسي بأساليب متفوقة بإمتياز على ما سبقها.
الخاتمة
إن غاية كل كرسي أن يكون الجالس عليه ثعلبا، والجالس عليهم خرافا، وهذا الثعلب يتفاعل بمكره مع الذئاب والأسود، من أجل إفتراس أعظم وخبث أوفر، فالثعالب لا تقنع ولا تشبع بل تريد أن تدفن كل الخراف والدجاج ولا تهدأ.
والمشكلة أن الكرسي يجرد الجالس عليه من معاييره الأخلاقية وتراثه ومعاني حياته، ويُكسبه ملامحَ لم تتوفر في سلوكه من قبل، فتستغرب منه وأنت تنظر إليه بعد أن أصابه داء الكرسي وأخذ منه ما أخذ.
فعلينا أن نقضي على شأن الكرسي في حياتنا، ونتحرر من طغيانه لكي نكون، وإلا ستمضي عجلة المآسي والفواجع بنا إلى أصعب حال ومآل.
وانظروا ما نعيشه اليوم وعلى جميع الأصعدة، أليس الذي يجري صراعات وإرادة كراسي تريد أن تسلب وتتغلب وتحقق دوافنها الرغبوية، وتعبر عن شأنها الزائف وتأثيرها المؤذي وتفوز بمتعة الكرسي .
د. صادق السامرائي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى