ضوابط الحرب الأهلية

محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

الحروب الأهلية دليل على أن الناس المرتبطين مع بعضهم بالعرق والدم والثقافة والتاريخ والجغرافية لديهم اختلافات عميقة ومصيرية ودليل على أن الإنسان رغم تاريخه الطويل على الكرة الأرضية ما يزال فاشلا في تحقيق واثبات إنسانيته . وقد ارتبط مفهوم الحرب الأهلية في الكثير من الحالات بالتطهير العرقي والقتل على الهوية والدين وباسم الدين وتحت رايات تحمل اسم الله ورسله كما ارتبطت الحروب الأهلية بالعار الإنساني والخزي والفشل في تحقيق إنسانية الإنسان . يقول المفكر فرانسوا فينولن : ” جميع الحروب حروب أهلية ، لأنها تجري بين الإخوة .” وفي هذه المقالة سندرس بعض الحروب الأهلية المشينة التي عرفتها البشرية في تاريخها:

الحرب البوسنية (1992- 1995)

كانت الحرب البوسنية من الحروب الوحشية القاسية والقبيحة والمعقدة التي حدثت عقب سقوط الدول الشيوعية في أوروبة .

في عام 1991 انضمت البوسنة والهرسك إلى العديد من جمهوريات يوغسلافيا السابقة وأعلنت الاستقلال وهذا الاستقلال جرها إلى حرب أهلية استمرت أربع سنوات . لقد كان سكان البوسنة مزيجا من البوسنيين المسلمين والصرب الأرثوذكس والكراواتيين الكاثوليك .ألقى الصربيون البوسنيون المدججين بالسلاح والمدعومين من جارتهم صربيا الحصار على مدينة سراييفو في أوائل نيسان من عام 1992 واستهدفوا السكان المسلمين بشكل رئيسي وقتلوا الكثير من الصرب البوسنيين والكروات بالصواريخ وقذائف المورتر والقناصة واستمروا بهذا العمل المشين قرابة ثلاث سنوات ونصف .

وأثناء سقوط القذائف والدمار في العاصمة البوسنية مارست القوات الصربية والكرواتية هجمات تطهير عرقي بشعة على طول البلاد وعرضها . وأخيرا في عام 1995 ساعدت الهجمات الجوية التابعة للأمم المتحدة والعقوبات الاقتصادية الدولية في إجبار الأطراف المتحاربة لتوقيع اتفاقية سلام بعد معارك عبثية ضارية راح ضحيتها بين تسعين ألف وثلاثمائة ألف مواطن .

الحرب الأهلية النيجرية ( 1967-1970)

هذه الحرب المشينة تسمى في بعض الأوساط الحرب النيجيرية البيفرانية وكانت نتيجة التوترات الدينية والثقافية والعرقية والاقتصادية التي حدثت بين مكونات الشعب النيجيري . وكما نعلم ، لقد كانت نيجيريا صنيعة الدول الاستعمارية والامبريالية وخاصة البريطانية التي رفضت الاعتراف بالفروقات الدينية والعرقية واللغوية عندما رسمت حدود البلاد الجديدة .
بدأت الحرب النيجيرية في 6 تموز عام 1967 عندما تقدمت القوات النيجيرية في صفين في عمق أراضي بيافرا التي حصلت على الاستقلال من بريطانية عام 1960 وكان عدد سكانها في ذلك الوقت ما يقارب ستة ملايين نسمة وتتألف من حوالي ثلاثمائة مجموعة عرقية وثقافية مختلفة . كلفت هذه الحرب نيجيريا الكثير الكثير من الأرواح والمال والسمعة الدولية . ويقدر عدد الذين ماتوا في الحرب حوالي ثلاثة ملايين مواطن قضوا بسبب صراع عبثي لا قيمة ترتجى منه بسبب الفقر والمجاعة والفاقة والأمراض السارية والأوبئة . لقد كانت الحرب النيجيرية أسوأ حرب يشهدها العالم على مدى عقود .

حرب الألف يوم ( 1899 -1902)

جرت حرب الألف يوم في كولومبيا بين الحزب المحافظ والحزب الليبرالي وفروعه اليسارية ونجم عن الحرب ضحايا كثر يقدر عددهم بمائة ألف قتيل بالإضافة إلى الأضرار في الممتلكات العامة والخاصة ودمار هائل في بنية الاقتصاد الوطني .

كان الحزب الليبرالي يمثل مالكي مزارع القهوة والتجار الأغنياء الذين يفضلون الاقتصاد الحر . وبعد فوز الحزب المحافظ في عام 1885 تم إقصاء الحزب الليبرالي عن السلطة وتم مضايقته عن طريق تخفيض أسعار القهوة في السوق الدولية . وفي عام 1899 بدأ الكثير من مزارعي القهوة المعاناة والخسارة المادية الفادحة .

وخلال ثلاث سنوات تالية عمت الفوضى وانتشرت الجماعات المسلحة والعصابات في الأرياف حيث عاثت في الأرض فسادا وتدميرا وسرقة للممتلكات العامة والخاصة . ولم تستطع حكومة الحزب المحافظ السيطرة على الوضع بقوة السلاح لذلك عمدت إلى إصدار العفو العام والوعد القاطع بالإصلاح السياسي في البلاد عام 1902. وبحلول كانون الأول من نفس العام قام القائدان الليبراليان رافائيل يوربي وبنيامين هيرارا بتسليم نفسيهما للسلطات في إطار اتفاق سلام بين المتحاربين لحقه عفو سياسي وانتخابات حرة وإصلاح سياسي.

الحرب الأهلية في سيرلانكا ( 1983-2009)

في شهر نيسان من عام 2011 أصدرت الأمم المتحدة تقريرا حول انتهاكات حقوق الإنسان خلال حقبة استمرت 26 عاما من الحرب الأهلية السيريلانكية . وقد ذكر التقرير أن حوالي مائة ألف شخص قضوا في الحرب. لقد جرت الحرب بين حركة تحرير نمور التاميل من منطقة تاميل ايلام وبين الحكومة المحلية ويقدر عدد الذين قضوا نحبهم مئات الآلافخلال الخمسة أشهرالتي سبقت نهاية الحرب في أيار عام 2009 ، وهو العام الذي استسلم فيه نمور التاميل .

قابل الكثير من الناس نهاية الحرب بين الحكومة ونمور التاميل بالترحاب والتهليل ولكن ورغم توقف القتال بين المتحاربين لم يتم استعادة النظام وقوة القانون ولم يجر تحقيق عادل ونزيه بأسباب الحرب والاعتداء على الحريات والمدنيين الذي ارتكبه الجانبان المتحاربان . وفي الثاني عشر من شباط عام 2013 صرحت رئيسة المفوضية العليا لشؤون حقوق الإنسان السيدة نافي بيلاي بأن الحكومة السيريلانكية أخلت بوعدها في تحسين واقع الحريات العامة وحقوق الإنسان كما فشلت حتى الآن في البدء بتحقيق نزيه حول الجرائم التي حصلت زمن الحرب .

الحرب الأهلية الأنغولية ( 1975-2002)

لقد حارب الشعب الأنغوليالاستعمار والنظام الدكتاتوري بشجاعة نادرة بهدف الحصول على الاستقلال من الحكام المدعومين من القوى الإمبريالية . ولكن لسوء الحظ وبعد حصول أنغولا على الاستقلال استعر السباق بين الأحزاب المحلية للوصل إلى السلطة في بلد ضعيف واهن متحرر حديثا من الاستعمار الإمبريالي فبدأت الحرب الأهلية بينها وبدت وكأنها قدر محتوم .

كان السبب الرئيسي للحرب هو ما أعلنته الأطراف المتحاربة في نهاية الحرب بأنها تتهالك للوصول إلى السلطة وخاصة بين حركة التحرير الأنغولية(يونيتا ) والاتحاد الوطني للاستقلال التام في أنغولا . لقد كانت سنوات الحرب الطويلة من أكثر الحروب شناعة وبشاعة وطولا في التاريخ الحديث فقد استمرت لمدة /27/ سنة .

بدأت الحرب بعد أن استقلت أنغولا من الاستعمار البرتغالي في عام 1975 وانتهت بعد مقتل يوناسسافنبي قائد حركة يونيتا على يد القوات الحكومية في عام 2002. عندها اتفق الفريقان المتحاربان على وقف إطلاق النار ونظمت بعده انتخابات عامة . خلفت الحرب وراءها خمسمائة ألف قتيل واقتصادا مدمرا وبلدا متخلفا منهكا نتيجة الحرب.

الحرب السرية ( 1953- 1975)

كانت الحرب السرية في لاوس جريمة حقيقية ارتكبتها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ( وهذا ليس رأيا شخصيا لكنه بالذات ما وثقه التاريخ الإنساني).

وقد تفردت الحرب السرية في لاوس بالتخطيط السياسي المسبق الذي انحدر ليصل إلى مستوى الجهل والغباء السياسي والخداع والمراوغة والتلاعب بالمصير والتعجرف والصلف وكانت الحرب بعيدة جدا عن المشكلات الحقيقية للشعب.

لسوء الحظ كانت الحرب لعبة شريرة قادها أشرار تلاعبوا بمصير شعب بائس ولم يُنظر فيها للبشر والإنسانية كقيمة وإنما كأرقام لا قيمة لها . وقد وصل عدد الضحايا في لاوس ما يقارب / 450/ ألف قتيل وحوالي / 600/ ألف قتيل في كمبوديا. وقد زادت أرقام اللاجئين عن المليون شخص .

بالإضافة إلى ذلك ، تم استخدام الأسلحة الكيميائية السامة على نطاق واسع وهذا خلق مشاكل صحية جماعية كثيرة وخاصة على الأطفال والأمهات المرضعات والمسنين والمرضى وتستمر أثارها المدمرة حتى اليوم . الحرب السرية التي جرت في لاوس هي بحق حرب خزي وعار .

الحرب الأهلية الصومالية ( 1991 وحتى اليوم )

لا يسكن الصوماليون في الصومال وحدهم . هناك عدد من الشعوب والأعراق المختلفة في البلاد الذين عارضوا سياد بري الرئيس الدكتاتوري للصومال . بدأ الرئيس سياد بري حربه ضد الشعوب التي عارضته في نهاية الثمانينات فبدأ يهاجمهم بقوات الجيش لكنهم في النهاية انتصروا وأزاحوه من السلطة .

كان الرئيس سياد بري يمتلك شعبية واسعة وسط الصوماليين فبدأ ثورة جديدة لإعادته للسلطة . وبعد عودته للرئاسة أعلن قسم كبير من شمال الصومال الانفصال والاستقلال عن البلاد رغم عدم الاعتراف الدولي بالانفصاليين .

واليوم وبعد هذه السنوات المريرة من الحرب صارت الصومال مثالا في الاقتصاد السياسي ودخل مصطلح ” الصوملة ” إلى القاموس السياسي الدولي . الصومال حاليا بلد مدمر لا يمتلك مقومات الحياة وتستمر الأمم المتحدة في إرسال قوات حفظ السلام الدولية لتسهيل عمليات توزيع المساعدات للمحتاجين والمساعدة في بناء المجتمع الصومالي بعد عواصف مريرة من الحرب العبثية التي دمرت كل شيء. وتقدر الإحصاءات أن عدد الضحايا بلغ حوالي مليون شخص فقدوا حياتهم في لعبة نكراء ليس لها هدف يرتجى .

التمرد في تايبي ( 1850- 1864)
يعد هذا التمرد من أسوأ أنواع الحروب التي شهدتها البشرية وأكثرها دموية إذ لم يعرف التاريخ قسوة أكثر من الذي حدث في تمرد تايبي. بدأت الشرارة الأولى من أحد القادة في جنوب الصين هونغ ذوكوان الذي فشل في عام 1847 في الاختبارات الملكية للمرة الثالثة فسقط في حالة هيجان لمدة ثلاثين يوما متواصلة .

وعندما استعاد وعيه ، اعتقد أن الإله اختاره ليغزو الصين ويؤسس فيها حكم تايبيتيانغو ، وهي كما رآها مملكة سماوية في تآلف عظيم . جمع الرجل أتباعه من الطبقات الكادحة واستأجر الكثيرين لبناء جيش عظيم وقوة سياسية عقائدية تدير العمليات الحربية ثم بدأ في اجتياح الصين . وفي نهاية عام 1850 ، سيطروا على ثلث البلاد. و كانت هذه الحركة قوية وشعبية لدرجة أنها استنزفت من الحكومة المركزية ملايين الدولارات وخمسة عشر عاما من الحروب حتى تتمكن من هزيمتهم . وفي عام 1864 ، تم قمع التمرد بوحشية مطلقة ويقدر عدد الضحايا الذين قضوا في الحرب حوالي عشرين مليون مواطن .

حرب الزهور ( 1455-1485)

كانت حرب الزهور من أهم الأحداث التاريخية التي جرت في العصور الوسيطة . لقد كان تأثيرها كبيرا على انكلترا . وقد جرت هذه الحرب الأهلية بين أعضاء برلمان لانكاستر الذين يحملون الوردة الحمراء شعارا وأعضاء برلمان يورك الذين يحملون الوردة البيضاء شعارا . وكان كلا البرلمانين أعضاء في برلمان بلانتاجينت وكانا يدعيان أنهما من سلالة الملك إدوارد الثالث .

بدأ التنافس بين البرلمانين في عام 1399 عندما خُلع الملك إدوارد الثاني من العرش على يد ابن عمه هنري بولنغبروك دوق لانكاستر. لكن الحرب لم تندلع فعلا إلا في عام 1455 عندما استطاع ريتشارد دوق يورك هزيمة الجيشاللانكاستري في أول معركة في سانت ألبان.

انتهت حرب الزهور بوصول الملك هنري السابع إلى العرش وعندما أسس سلالة تودور التي رمزت لاتحاد الزهور البيضاء بالحمراء لخلق زهرة التودور.

تمرد أن لوشان ( 755- 763 )

هذه الحرب غالبا ما يتم إهمالها وتجاهلها عند الحديث عن الحروب الأهلية ، وتحاول الصين أن تنساها للأبد لكن الحقيقة الدامغة هي أن هذه الحرب هي الأكثر دموية وعنفا في تاريخ البشرية فقد حصدت دوامة الموت ضعف العدد الذي مات في تمرد تايبي وضعف العدد الذي مات نتيجة الحرب العالمية الثانية وبلغ العنف في الحرب ما يعادل حربين عالميتين من نوع الحرب العالمية الثانية .

حدث تمرد أن شي في عهد حكم سلالة تانغ بين عامي 755- 763 ميلادية وامتد التمرد حتى شمل حكم ثلاثة أباطرة من سلالة تانغ . ومن حسن حظ سلالة تانغ أنّ أنلوشان قد انفصل عن سلالة يان فبدأ بالضعف بسبب الصراع الداخلي والتنافس والتفكك .
في شهر كانون الثاني عام 757 ميلادية حدث أن غضب أن لوشان من والده بسبب تهديده المستمر لأصدقائه في البلاط فقتله. وبعد فترة قصيرة جدا من الوقت قتله شيسمنغ أحد أصدقائه المقربين وحاول صديقه أن يستمر في برنامج أن لوشان المتمرد لكن ابنه قتله في عام 761. ورغم أن سلالة تانغ هزمت تمرد أن لوشان فقد بقيت الإمبراطورية أضعف من ذي قبل . يقدر المؤرخون عدد الضحايا الذين قضوا نتيجة هذه الحرب القذرة المشينة بحوالي 35 مليون شخص

خاتمة

الحروب الأهلية حروب مشينة وأثبت التاريخ الطويل للبشرية أن الإنسان فشل حتى الآن في إثبات إنسانيته لأنه يعتمد الحرب وحمامات الدم وسيلة للتفاهم وهي بكل تأكيد طريقة غير راقية في الحوار بين البشر وخاصة عندما تكون بلا هدف يرتجى منها . وفي كثير من الحروب يفقد المتحاربون إرادة الحياة في التوقف عن الحرب وتصبح إرادة التوقف بإرادة الآخرين والآخرون في غالب الأحيان هم الجحيم بعينه. عندما تدخل الشعوب في الحروب الأهلية تصبح كمن يجلس في أرجوحة عالية يدفعها بسخرية من يصل إليها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى