حــديـــث حـــول جـــوربـــاتـــشــوف
أحمد الخميسي
توفي في 30 أغسطس 2022 ميخائيل جورباتشوف آخر الزعماء السوفيت في التجربة الاشتراكية التي استمرت ثلاثة أرباع قرن كاملة. وقد اشتد الجدل مع وفاته عما إن كان جورباتشوف مجرد عميل أمريكي فكك دولة عظمى لمصلحة الغرب أم أنه كان كما تقدمه وسائل الاعلام الغربية حكيما، متيما بحب الانسانية حتى الدموع، حتى يكاد أن يكون قديسا نورانيا رفعه الغرب إلى أعلى المراتب بينما وصفه الشعب الروسي بأنه ” المسيح الدجال”؟. قال في رثائه الرئيس الأمريكي بايدن : ” لقد قام بإصلاحات ديمقراطية خلال قيادته بعد عقود من القمع السياسي الوحشي”. والمقصود أساسا بالإصلاحات تفكيك الدولة السوفيتية وفتح أسواق روسيا للرأسمالية العالمية، وخصخصة الملكية العامة التي بيعت فيها أضخم المصانع الروسية بتراب الأرض لزعماء العصابات ورجال السوق السوداء، وإنهاء الحرب الباردة وتقليص نفوذ روسيا الاقتصادي والسياسي في محيطها وخارج حدودها. هذا بينما عبر الشعب الروسي عن تقديره لجورباتشوف ساخرا به في النكت ومنها أن مواطنا روسيا سأل صديقه:” ما الذي تعنيه بالنسبة إليك سياسة جورباتشوف؟ تقدما أم خداعا؟ “، فأجابه : ” تقدما للخداع “!
وصل جورباتشوف إلى الحكم عام 1985 وراح في سنواته الأولى يدعو إلى اشتراكية ذات طابع إنساني، ديمقراطي، تزيح أخطاء التجربة الاشتراكية جانبا، وتتقدم في بناء عالم المساواة، مما حرك لدي الكثيرين الأمل في تطوير التجربة لكن ليس هدمها، وسرعان ما تبين أن تلك كانت كلمات عبور المرحلة المؤقتة نحو هدم التجربة من أساسها. ورغم عدائه العميق للاشتراكية، فقد سجل الأديب الكبير سولجينتسين رغم أنه عاني من السجن والنفى تقديره لإصلاحات جورباتشوف بقوله:” لقد فعل الديمقراطيون الروس بروسيا ما لم تفعله بها سبعون عاما من الشيوعية”! كان للتجربة الاشتراكية أخطاؤها التي لا تخفى على عين وفي مقدمتها غياب الديمقراطية وقمع المعارضين، وتبلور فئة حزبية بيروقراطية تنهب ما تشاء مالا وامتيازات، والعجز الاقتصادي عن توفير احتياجات المواطنين وأحيانا الأساسية منها. وقد لخص الشعب هناك تلك الأخطاء والتناقضات في النكتة التالية” المعجزات السبع للسلطة السوفيتية هي : أولا – ليس لدينا بطالة لكن لا أحد يعمل. ثانيا: لا أحد يعمل، لكن يتم تنفيذ خطة الانتاج الخمسية. ثالثا: يتم تنفيذ الخطة لكن لا شيء تشتريه في الأسواق. رابعا:لا شيء تشتريه لكن الطوابير في المحلات. خامسا: لا شيء في المحلات لكن الثلاجات عامرة في البيوت. سادسا: الثلاجات عامرة لكن الناس غاضبون. سابعا: الناس غاضبون لكنهم جميعا يصوتون في الانتخابات بنعم! “. ولم يكن لجورباتشوف أن يصعد إلى الحكم وأن يقوم بذلك التحول العاصف إلا باستغلال أوجه النقص في التجربة الاشتراكية والنفاذ منها إلى سياسة أخرى، ذلك أن الخصم الرأسمالي لم يكن لينفذ إلى الاتحاد السوفيتي إلا عبر نقاط الضعف، مثلما أن المياه التي تحيط بالسفينة ليست هي التي تغرقها، لكن تغرقها المياه التي تنفذ إلى داخلها من الثقوب.
هل كان جورباتشوف عميلا أمريكيا كما يصر البعض أم نبيا كما يصر الغرب؟ سؤال لا يمكن الاجابة عنه قطعيا إلا بعد عقود حين ترفع السرية عن ملفات المخابرات الأمريكية، لكن حكما بما قام به فإن سياساته لم تخدم سوى مصالح الرأسمالية العالمية وفي المقدمة منها المصالح الأمريكية التي تحرص وسائل إعلامها الآن على تقديم جورباتشوف بصفته نبي الإنسانية، مع أن جورباتشوف نفسه لم يكن حريصا على صورته حتى أنه لم يترفع عن تقديم إعلان عن” بيتزا هت” عام 1997 مقابل حفنة من الدولارات!
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري