أخبارثقافة

غربة في الوطن

إعصارٌ عذب
الاغتراب داخل حدود الوطن والارتحال للبحث عن الـ “البديل” والـ “مغاير” في
الخارج؛ هو ما تحاول رصده الروائية السورية شادية الأتاسي في “إعصارٌ عذب”؛ الرواية
التي تأتي على إيقاع التطور الدرامي الذي شهدته بلادها بين السلطة والجماعات المناهضة
للحكم في مرحلة عصيبة من تاريخ الوطن؛ ليأتي بحث سليمى – بطلة هذه الرواية – عن
وطن بديل؛ قرين البحث عن ذاتها كأنثى؛ ومحاولة لكتابة تاريخ موازٍ، تاريخ البلاد والناس،
محاوَلةً تأخذ من الحدث السوري مادة لنقد الواقع ومساءلة جميع السوريين: أي وطن نريد.
هي قصة حياة سليمى، الكائن الأنثوي المتعدد المواهب، والمثقفة العضوية الواثقة
بنفسها، وبقدراتها، ابنة سجين سابق توفى بعد الإفراج عنه في ثمانينيات القرن المنصرم
والذي تركت ذكراه جرحاً عميقاً في قلبها، فكان بالنسبة إليها الأب الحاضر/ الغائب أورثها
قبو كتب شكَّل ذاكرتها الأولى، فتعرفت بالقراءة إلى روسو وكافكا وكامو، العقاد ونجيب
محفوظ وحنا مينة، وتشربت منهم أفكار الحرية والحق والعدالة، فكتبت عن كل ما يؤرقها،
كتبت عن كوابيس ليالي الشام الطويلة، وما أقربها حين قراءتها إلى “كوابيس بيروت” غادة
السمان أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وكأن قدر المدن العربية أن تتجرع من ذات الكأس.
ولأنها انتقدت الواقع لوحقت من قبل قوى الأمر الواقع ولم تجد غير طريق السفر ملاذاً
يوصل صوتها إلى العالم. مشت سليمى درب جلجلتها مكرهة إلى الخارج. حتى على
المستوى الشخصي هاجرت بعد قصة حبٍّ معقدة مبتورة، ليفاجأها القدر في بلاد الغربة
بقصّة حبٍّ أخرى تشارك بها رجلاً مفعماً بتاريخه وقضيته الكوردية، شغلته قضيته عنها،
ودفع لأجلها الثمن غالياً، فالحب هو أيضاً حرب، حرب تخاض من أجل بقاء الحب
وانتصاره، لقد بحثت سليمى عن حب بديل، مثلما بحثت عن وطن بديل، لتجد نفسها تتردى
في متاهة يصعب الخروج منها، فكانت الكتابة هي قدرها الجميل، وطريق الحب الحقيقي
الذي تاهت عنه، كتبت عن سورية، وعن شعبها، وعن أبيها، وحققت كينونتها كأنثى.
“إعصارٌ عذب” عمل إبداعي يمثل الاتجاه الواقعي في الأدب السوري المعاصر، تحمل
الرواية هموماً اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية، وتفرد حيزاً واسعاً لحق الحرية
والتعبير والعيش في وطن آمن. سعت خلالها الروائية شادية الأتاسي إلى جعل الرمز
الأنثوي مفارقة درامية لكل ما يؤثث المحيط حولها، فهذه الرغبة في تحقيق الذات، هي جزء
من الرغبة في إعادة بناء الإنسان وحركة الحياة ومسيرة الوطن في آن معاً.
من أجواء الرواية نقرأ:
“لا أعرف متى بدأت أعي ما أنا فيه، نهضت ذات صباح، وفي حين كنت أشرب فنجان
قهوتي، كنت أفكّر فيما يحدث معي هل يمكنني الاستمرار في هذا التشبُّث والشراسة.
سواء كان الجواب نعم أو لا؟ كلاهما مرّ. عذَّبني الأمر، عذَّبتني خيالاتي المحمومة.
كأن ذاتي خرجت عن ذاتها، أدركت أن روحي مريضة، كنت أحتاج إلى عون ما، لأنهي
كل هذا الجنون. عدت إلى الصلاة التي انقطعت عنها لأول مرة، منذ أن وجدت نفسي في
أتون ذلك الإعصار الذي هزَّ حياتي. وفي وقت تساءلت لماذا يحدث معي ما حدث؟ لم
أرغب في التوغُّل في ذلك العالم النائي من روحي، لماذا عليّ النبش في العمق، أنا إنسانة
أحبُّ البساطة في الحياة. قلت لنفسي بل أقنعتها أنها كانت عتبة لا بدَّ لي من أن أطأها،
تجربة لا أنفي حلاوتها وعذوبتها، وفي وقت تمنَّيتها أن تكون حقيقية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى