أخبارالحدث الجزائري

المفاوض الجزائري والمفاوض الفلسطيني

غايتي من هذا المقال أن يستفيد منه المفاوض الفلسطيني -فيما أزعم- من خلال نقاط التشابه، والاختلاف، والتّذكير، والمقارنة بين المفاوض الجزائري، والمفاوض الفلسطيني، ومنها:

اللّغة المستعملة، ومشكل التّرجمة:

يعاني المفاوض الفلسطيني مشكلة التّرجمة حين يترجم المصطلح إلى اللّغة الإنجليزية، أو اللّغة العربية. ومعناه لدى هذا الطرف، أو ذاك. وربما فرض بالقوّة لمن يملك حسن تسيير الدولة. وقد سبق أن احتلّت أراضي عربية بسبب الاختلاف حول فهم، وشرح مصطلح “الأراضي العربية”، أو “أراضي عربية”.

لم يكن المفاوض الجزائري أثناء إتّفاقية إيفيان يعاني مشكل اللّغة. لأنّ اللّغة الفرنسية هي اللّغة المشتركة بين الطرفين. وكلاهما يحسن فهم الآخر، وببساطة، وسهولة، ويسر ودون تأويل. مع الإضافة أنّ المفاوض الجزائري كان بارعا، وضليعا، ومتمكّنا في اللّغة الفرنسية. ولذلك لم يحدث -فيما قرأت وأتذكّر- أنّه طرحت مسألة تأويل المصطلح، أو سوء فهمه، أو اختلاف فيما يخصّ اللّغة. ولم تكن هناك ترجمة إلى اللّغة العربية، أو لغة ثالثة. وارتضى الجميع استعمال اللّغة الفرنسية كلغة تفاوض. مشكلة الوسيط، وقوّة المفاوض المباشر:

يعاني المفاوض الفلسطيني مشاكل مع الوسيط العربي المتمثّل في المصر، والقطر. لأنّهما لايملكان القوّة اللاّزمة لفرض واقع لصالح الفلسطينيين، وغير متحمسين لذلك، ويميلان لرغبات البيت الأبيض وإن لم يعلنا عن ذلك. ولا يمكنهما أن يذهبا أبعد من الخطوط التي رسمت لهما سلفا.

في المقابل، لم يعتمد المفاوض الجزائري على الوسيط. إنّما تفاوض بشكل مباشر مع المفاوض الفرنسي المحتلّ. وطاولة المفاوضات ضمّت المفاوض الجزائري، والمفاوض الفرنسي المحتلّ ولم تضم أيّ وسيط عربي، أو غربي. ولم يقترح أيّ منهما -فيما قرأت، وأتذكّر- وسيطا لدى كلا منهما.

ولا بدّ من الاعتراف أنّ انعدام الوسيط لدى المفاوض الجزائري كان عاملا من عوامل قوّة المفاوض الجزائري.

المحيط المؤيّد، والمحيط المعادي:

لاأبالغ إذا قلت أن دول العالم العربي، والغربي تضغط على المفاوض الفلسطيني بشكل مستمرّ، ومزعج، ومقلق، وعلني ليستسلم، ويقدّم للمحتلّ المغتصب تنازلات بالمجان، ويتعرّض في سبيل ذلك إلى كلّ أنواع التّهديد بما فيها القتل، والنّسف، والتّدمير، وتشويه الصورة بما ليس فيها، ولا منها.

وفي المقابل، لم يتعرّض -فيما قرأت، وأتذكّر- المفاوض الجزائري أثناء إتّفاقية إيفيان إلى ضغوط عربية، ولا غربية باستثناء ضغوط المفاوض الفرنسي، وضغوط المفاوض الجزائري قبل، وبدايات، وأثناء المفاوضات. وهذا جانب آخر يميّز كلّ المفاوضات، ومن الطبيعي أن يسعى كلّ طرف للضّغط على الآخر فيما يراه جلبا للمكاسب، ودفا للخسائر.

حسن تسيير ملف الأسرى:

من أقوى عناصر القوّة التي يملكها المفاوض الفلسطيني أنّه يملك عددا ليس بالقليل من الأسرى الصهاينة. وقد أحسن المفاوض الفلسطيني، وباحترافية عالية جدّا تسيير ملف الأسرى. وفشل الصهاينة فشلا ذريعا، ومهينا من إطلاق سراح أسراهم بالقوّة النّارية، بل كانوا سببا في قتل أسراهم عبر محاولات يائسة، ومضحكة. ويعلمون جيّدا أنّ إطلاق سراح أسراهم لايكون إلاّ بالمفاوضات، وعبر شروط يحدّدها المفاوض الفلسطيني.

لم يكن للمفاوض الجزائري أسرى فرنسيين مجرمين محتلّين يتفاوض لأجلهم. ولذلك لم يطرح ملف الأسرى الفرنسيين المجرمين المحتلّين في مفاوضات إيفيان. لكن كان هناك تفاوض حول الأسرى الجزائريين الأبرياء لدى الاستدمار الفرنسي. ولذلك كان من شروط المفاوض الجزائري إطلاق سراح السجناء الخمسة أوّلا، والأسرى الجزائريين فيما بعد. وتمّ الاتّفاق على ذلك، وبالكيفية التي اتّفق عليها الطرفان.

ونجح المفاوض الجزائري في إطلاق سراح الأسرى الجزائريين لدى سجون المحتلّل المغتصب.

للمفاوضات سقف لايمكن التّنازل عنه، وسفح يمكن التّساهل فيه:

تكمن قوّة المفاوض الفلسطيني في كونه لم يتنازل عن شروطه العليا التي وضعها لقبول المفاوضات رغم الدّمار، والإبادة الجماعية المنظّمة التي يعانيها. وتساهل -أو تنازل- في بعض الشروط التي وضعها من قبل والتي لاتعتبر جوهرية، وفرضتها ظروف تتعداه، وقوّة نارية لاطاقة له بها.

وضع المفاوض الجزائري سقفا عاليا جدّا لايمكن بحال من الأحوال مسّه، أو التّنازل عنه كوحدة التّراب الوطني، والرّفض المطلق لإقامة دولة المستدمرين، والخونة الحركى داخل الدولة الجزائرية، وعدم قبول الخونة الذين تلطّخت أيديهم بدماء الجزائريين الأبرياء، والإصرار على عدم فصل الصحراء عن الجزائر. وفي المقابل، أبدى المفاوض الجزائري مرونة بالغة فيما يخصّ استعمال اللّغة الفرنسية، والإبقاء على مصالح فرنسا المادية بالجزائر، والتّعاون الثّقافي، والاقتصادي مع فرنسا في عدّة مجالات. وظلّ المفاوض الجزائري متشبّثا بشروطه، وهدّد أكثر من مرّة بالعودة للسّلاح إن لم تلبى شروطه. وفي الأخير، رضخ المجرم ديغول، والمفاوض الفرنسي.

المفاوضات بعد الدمار، والاحتلال غير المفاوضات قبله:

يدخل المفاوض الفلسطيني المفاوضات وقد تعرّض للإبادة الجماعية، والتّهجير، والجوع، والعطش، والرّدم، والنّسف، والخنق، والغلق، ومنع الهواء، والدواء، والغداء.

ودخل المفاوض الجزائري المفاوضات وهو تحت 132 سنة من الاحتلال، وطمست هويته، وحورب دينه، واستبدلت لغته العربية بالفرنسية، وهجّر، وطرد من أرضه الخصبة ليستولي عليها المستدمرون، واستعملت ضدّه كلّ الأسلحة المحرّمة دوليا، وتمّ الغلق على الجزائريين عبر خط المجرم موريس، وخطّ المجرم شال، وواجه ثاني قوّة أطلسية، واعتبرت الجزائر ولاية فرنسية، وشأن داخلي لاحقّ للجزائري أن يطرح قضيّته في الهيئات الدولية.

المعرفة الجيّدة للعدوّ المفاوض:

واضح جدّا أنّ المفاوض الفلسطيني يعرف جيّدا المفاوض الذي يريد أن يتفاوض معه، ويعلم بنقاط قوّته التي لاينكرها، ويقرّ بها. ويعرف نقاط ضعفه الكثيرة العديدة التي يحسن تسييرها لصالح، وتفوّق عليه في كثير من النّقاط رغم الفارق الكبير جدّا في القوّة التي تميل للمحتلّ المغتصب.

وواضح جدّا أنّ المفاوض الجزائري كان يعرف جيّدا المفاوض الفرنسي المحتلّ، ويعلم نقاط قوّته التي لاينكرها، ويقرّ بها. ويعرف أيضا نقاط ضعفه والتي أحسن تسييرها لصالحه وبمهارة فائقة أثناء مفاوضات إيفيان رغم ميزان القوّة الذي يميل لصالح الاستدمار الفرنسي.

الأربعاء 22 شوال 1445هـ، الموافق لـ 1 ماي 2024

الشرفة- الشلف- الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى