تعاليقرأي

استمتعوا بالحياة

من عادة الخطاب الديني تسليط الأضواء على الدنيا المذمومة والتنفير منها والتركيز على الآخرة، إلى درجة أن يفهم المتلقي أنهما في الواقع على خطين متوازيين لا يلتقيان، فكانت النتيجة أن حرم كثير من المتدينين أنفسهم من طيبات الدنيا حرصا على الآخرة، في حين انخرطت الأغلبية في ملذات الدنيا وهي تستصحب – بدرجات متفاوتة – الإحساس بالذنب من هذا السلوك، لذلك كثيرا ما أقول لمن يحضرون دروسي: معظم الخطباء يقولون لكم اتركوا الدنيا، أما أنا فأقول لكم: استمتعوا بها، واجعلوها حياة في سبيل الله، فقبل الموت هناك حياة خلقها الله لنعيشها لا لنتركها أو نذمّها أو نتأثم من الاستمتاع بها.

من مشكلات الأمة الكبرى أنها ما زالت إلى اليوم لم تحسم هذه المسألة الجوهرية ولم تتسق حياتها مع معادلة الدنيا والآخرة رغم أن حقائق القرآن والسنة ماثلة واضحة جلية: الحياة ليست كلها مذمومة، المذمومة هي المنقطعة عن الله، المستغرقة في الحرام، وهي التي أبدأ القرآن والسنة في التحذير منها وأعادا، فينبغي إدراك أبعاد المعادلة جيدا: نحن المسلمين لسنا مخيرين بين الدنيا والآخرة بل نحن مأمورون بالعمل للباقية بواسطة حسن التعامل مع الفانية تسخيرا وامتلاكا وارتفاقا واستمتاعا، إنما أوصانا الوحي بعدم الاستغراق فيها إلى درجة تقديمها على الآخرة، كما أوصانا بعدم الاغترار بها كما هو شأن الغافلين الذين يعميهم حجاب المعاصرة عن إبصار أمارات الدار الآخرة فيعيشون حياة دنيوية بحتة لا علاقة لها بدين ولا خلق.

وقد أنتج الخطاب الديني لدي المسلمين منذ عصور الانحطاط شعورا بالقبول بالهون والدون واستمراء التخلف، وارتبط الدين فيه بمفردات الفقر والزهد وترك الدنيا للآخرين، فلم ينعكس ذلك على الأفراد وحدهم – إذًا لهان الأمر – بل أثّر في تصوّر الأمة والدولة والمجتمع بحيث استمرأ الجميع حالة التخلف، ولم يعبأ الخطاب الديني بالتراجع الحضاري إلا قليلا، حتى أصبح بناء المساجد يغطي على إهمال المؤسسات الحيوية في المجتمع لأن الدين محفوظ ما دامت الشعائر تقام !!!

كم قلت في دروسي وكتباتي: أنا لا أحبب إليكم الفقر ولا أدعوكم إلى الزهد المادي بل أقول لكم اكتسبوا الأموال، استمتعوا بالسيارات الفخمة، اسكنوا البيوت الواسعة المجهزة الجميلة، ارتدوا اللباس الفاخر، تعطروا كما شئتم، سيحوا في مختلف البلاد مع زوجاتكم، اغتنموا أعماركم ولا تميتوها ببطء….فنعم المال الصالح للرجل الصالح، وقد عدّ الرسول صلى الله عليه وسلم المنزل الواسع والمركب الهنيء من سعادة المرء (في حديث رواه الإمام أحمد وصححه الشيخ الألباني)، وكلنا نعرف الحديث النبوي عن حبّه للنساء والطيب، أي الاستمتاع بالزوجة الصالحة في البيت وخارجه، وأنواع العطر، وطبّق ذلك الصحابة رضي الله عنهم، فهذا ابن عباس يقول: إني لأتزين لزوجتي كما تتزين لي، وخصّ نفسه بنوع معين من المسك، فكان النساء يجدنه ريحه في بيوتهن فيقلن:” أمرّ ابن عباس أم المسك؟”.

وهناك شبهة قديمة لا بد من إزالتها هي موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الدنيا، فقد غلب على ظن الناس أنه عاش فقيرا ومات فقيرا، حتى غدا عيش المسغبة سنة نبوية وهذا غير صحيح، فبعد أن أقام الدولة في المدينة واشتد عودها صارت تُجبى إليه أموال الدنيا على اختلاف أنواعها، وقال له تعالى “ووجدك عائلا فأغنى” – سورة الضحى 8، وإنما كان ينفق ولا يترك لنفسه وأهله إلا قليلا لأنه ليس كأحد من الناس، لكن ثبت أنه أكل أحسن أنواع الطعام، وارتدى أحسن أنواع الثياب، واستمتع بالطيبات كلما أتيح له ذلك، وقد فصّل ذلك من كتبوا في الشمائل المحمدية، ومن أحسن الكتب في هذا المجال “زاد المعاد” للإمام ابن القيم فقد عد فيه فصولا شافية كافية…أي كان غنيا يتميّز بالإيثار، وكذلك كان جمهرة من أصحابه رضي الله عنهم مثل أبي بكر وعثمان وعبد الرحمن، فقد كانوا أثرياء منعّمين.

قال تعالى “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا” – سورة البقرة 29…لاحظوا كلمة “لكم” أي كل شيء لتستمتعوا به، وقال “قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟” – سورة الأعراف 32…لماذا نحرم ما أحل الله؟..استمتعوا بحياتكم، تعلموا فقه الحياة…فقط لا تقربوا الحرام (الرشوة، السرقة، أكل الأموال العامة والخاصة بالباطل، الملذات المحرمة بالقرآن والسنة والإجماع)، واتركوا الإسراف والتفاخر، وعيشوا حياتكم وأنتم تؤدون واجبات العبودية لله ومهامّ الخلافة والعمارة…واجعلوا الدنيا في أيديكم لا في قلوبكم.

وبسبب استواء عقلية التقليد و التحريم على أكثر العقول أصبح المسلمون المتمسكون بدينهم يتحرجون من ممارسة الرياضة وأنواع الهوايات من جمع الطوابع البريدية إلى تسلق الجبال، مرورا بالشطرنج والمسرح، ولم تقتصر المشكلة على الأفراد بل امتدت ظلالها إلى الجماعات والتنظيمات ومشروعات الدول ويتحمّل الخطاب الديني قسطا كبيرا من المسؤولية لأن التركيز على الزهد والتقلل من الدنيا وتحبيب الفقر للناس يصلح حين يكون المتلقون هم كبار الأثرياء والسياسيين واللاعبين والإعلاميين ونحوهم ، فهم في حاجة إلى هذا الحديث ليحدث التوازن في حياتهم، أما وجلّ المتلقين من الطبقة المتوسطة والضعيفة فإنه يفقد مصداقيته إلى حد بعيد.

عبد العزيز كحيل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى