رأي

في عصرنا هذا

د. محمود عباس

في عصرنا هذا

لم تعد تجدي نفعا الثورات المسلحة، لاعتبارات عدة، إنسانية واجتماعية تخص الشعوب المطالبة بالحرية قبل الأنظمة الدكتاتورية، التي تستند على الهيمنة العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، دون أن تعير أهمية لمفاهيم الطغيان والاستبداد وغيرها.
لذا يتوجب على حركات التحرر القومي، التخلي عن الصراع المسلح ضد أعدائها، خاصة عندما تنعدم المقارنات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية بينهم.

كما وأصبح من ضرورات العصر، التخلي عن منهجية التضحية بشعوبهم والتمسك بالشعارات الثورية العسكرية التي سايرت عقود القرن الماضي، والتي زالت قيمها وتأثيراتها على المجتمعات قبل الحكومات أو حتى التي تدعي الحضارة.

ظروف العصر وطفرات التطور الحضاري، تفرض عليها أن تنتهج منطق الصراع السلمي، السياسي، والدبلوماسي، أو تخترع أساليب تتلاءم وعصر التكنولوجيا الانترنيتية، والتي هي بذاتها ثورة على الطغاة والأنظمة العنصرية والفاشية.
فعلى سبيل المثال قادة حركة حماس بأساليبهم ومعركتهم الناجحة والحرب الفاشلة، أخروا حل القضية الفلسطينية نصف قرن آخر، وأحلوا الحرب مكان المفاوضات، وأي حل قادم فسيكون ناقصا ومشوها، كما وأنقذوا نتنياهو المتهم من قبل محاكم إسرائيل، من احتمالات السجن.
هذا الحكم ينطبق على أطراف من حراكنا الكوردستاني، الذي لا يزال يستخدم الصراع المسلح كأسلوب لردع طغيان الأنظمة المحتلة لكوردستان، والتي بإمكانها، بل وعلى استعداد، القضاء على نصف الشعب الكوردي تحت منطق الدفاع عن الأمن الوطني، وتاريخ كوردستان تشهد على مثل هذه الجرائم ولمرات عديدة.

ولديهم أساليب متنوعة:

1- قد تكون بشكل مباشر، يستخدمون فيها قواتهم المسلحة، مثلما فعلها نظام أئمة ولاية الفقيه في إيران بدء من ثورة الخميني إلى اليوم. ومعظم الأنظمة التركية منذ أتاتورك إلى أردوغان، باستثناء ما أقدم عليه الأخير قبل عدة سنوات، والتي باءت بالفشل، إما لنيات خبيثة، أو على خلفية أيادي عبثت بالمسيرة السلمية. والجرائم التي أقدم عليه جيش أنظمة العراق، منذ نشوئها إلى اليوم، والتي لم تقف مع انهيار حكم صدام حسين، بل بدأت تظهر النيات ثانية مع تزايد قوة بغداد. ومثلهم الأنظمة في سوريا والتي كان بإمكانها الإقدام على نفس الجرائم لولا تمسك الحراك الكوردستاني في غربي كوردستان بالحلول السلمية.

2- أو عن طريق خلق أدوات سياسية-عسكرية وأذرع مرتزقة تمدها بالسلاح والمال، وأحيانا بخلقها لحركات اجتماعية-ثقافية توليها مهمة العبث بثقافة الشعب الكوردي، وقد فعلتها تركيا في عدة أماكن في بدايات القرن الماضي، وخير مثال ما فعلته بمنطقة عفرين تحت شعار التكية الإسلامية، وفيما بعد خلقها لأحزاب راديكالية إسلامية سخرتها للقيام بالأعمال الإجرامية في كوردستان، كحزب الله، والهدى حاليا وغيرها، والأمثلة عديدة، ومنها أحزاب مشابهة في جنوب كوردستان اليوم. ولا شك إيران منذ الخميني أخبث الأنظمة المحتلة لكوردستان في هذا المجال. وكلاهما كانا خلف ظهور منظمة داعش، وجرائمها، والتي كانت من مهماتها الرئيسة هدم المكتسبات الكوردستانية، وما فعلته هذه المنظمة وبأوامر من الدوليتن، بأهلنا في شنكال وغربي كوردستان خير مثال. ولا شك الأنظمة العراقية والسورية، لم تكن بأقل خباثة منهم، فكلاهما خلقوا أحزاب كانت من مهماتها الطعن في أحزاب حركات التحرر القومي، وتشويه ثقافة المجتمع الكوردي، والتمجيد بالأنظمة.

هذه الجدلية تنطبق على الحركات المناهضة لسيطرة القوى الكبرى على المنطقة، والتي تستغلها الأنظمة الإقليمية لمصلحتها دون مصلحة الشعوب، تحت حجج منع القوى العظمى السيطرة على المنطقة والحد من شركاتها الرأسمالية التغلغل في شريان الحياة، مع بناء قواعد عسكرية مهمتها الرئيسة حماية مصالحها أي مصالح تلك الشركات، أو فرض استراتيجية سياسية- اقتصادية على المنطقة، وفي الواقع المواجهة وخلق حروب في المنطقة هي للحفاظ على الأنظمة الإقليمية قبل طرد القوى الكبرى منها.

فأي مواجهة لا بد وسيكون الشعب هو الضحية، وستخلف الدمار الكارثي للبنية التحتية في المنطقة، خاصة عندما تكون المواجهات عسكرية كالتي تنفذها أدوات إيران وأذرعها وما خلفته من الكوارث، والنتائج الإيجابية شبه عدم بالنسبة لشعوب المنطقة، وديمومة للأنظمة الطاغية، والتي تفاقم من الصراعات الأثنية وتوسع قدر ما تتمكن منه من الصراعات القومية في المنطقة، وبأساليبها هذه رسخت الحصار الاقتصادي للدول الداعمة لتلك الحركات وإيران في مقدمتهم، والتي لا تتأثر كنظام، بل المعاني هي شعوب المنطقة.

الدول المحتلة لكوردستان من مصلحتها استمرارية هذا النوع من المواجهات، لإظهار ذاتها للعالم على أنها تعادي المنظمات الإرهابية التي تعرض أمنها القومي للخطر. وهي بعكس الدول الكبرى، والتي تجد الربح في السلام، والتطور الاقتصادي وتبحث عن أسواق لتصدير بضائعها، واستيراد موادها الخام منها. ولا شك هنا لا نتحدث عن صراع الدول الكبرى وحروبهم الكارثية الذين يضحون بالشعوب من أجل مصالح قوى ظلامية لا ترى، ومخططات لإقامة إمبراطوريات اقتصادية تريد أن تتحكم بالعالم.

فمن الحنكة إدراك جدليات الصراع مع الأعداء أو حتى مع القوى الكبرى، والإمبراطوريات، والتعامل مع الواقع حسب الإمكانيات المتوفرة، والأساليب العصرية، وعدم التضحية بالشعوب المعانية أصلا من الدمار والتدهور المعيشي-الاقتصادي. فالطرق السلمية اليوم أصبحت أقوى سلاح من العنف، والسياسية- الثقافية والإعلامية أحد من فوهة الرشاشات، في عصر الكلمة إما من الشارع أو من خلال الإنترنيت وضمن الأروقة الدبلوماسية، في عصر لم تعد الرصاصة تبلغ هدفها وإن بلغت فنتائجها ستكون كارثية بعكس نتائج صدى الكلمة.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى