أخبارثقافة

اخترع الإنسان اﻵثام ليهرب من قلقه الوجودي…

الصّراط اللّعينّ
اخترع الإنسان اﻵثام ليهرب من قلقه الوجودي…
“أن أكون كاتبة، يعني أن أكون وحيدة فاشلة، أرصد عوالمي الدّاخلية حيال العالم والأشياء؛ ويعني أن أقرأ كتبا كثيرة، وأترصّد مشاعر فاشل آخر مثلي عجز عن أن يكون في خِضمّ الحياة! “
كنت في المدرسة أرقب ما ومن حولي؛ في الحقل ، أرقب الضفادع والزّهور، والهواء؛ أرقب الشّارع والمارّة؛ أرقب أمّي وحدها وأبي وحده وأرقبهما معا في السّرير!
كنت أرصد أمّي وحكاياها المكرّرة مع جارتنا عن زواجها المبكر، وعن عفّتها، وبراءتها… لم أكن أعي أنّي سأكتب يوما ما أراه وما أسمعه؛ رغبت أن أعرف وأن أفهم وأن أقلّدهم حتّى يكفّوا عن نعتي بالخرقاء!
الغريب، أنّي عندما راقبتهم وجدت أنّهم أبعد ما يكونون عمّا يطلبونه منّي! تقول أمّي: “لا تكذبي!” وتكذب دوما. وتقول: ” حذار من السّباب والشتائم!” وتشتم وتسبّ. كانت وصيّتها الكبرى الحرص على عدم العرّي، وها هي اليوم عارية تماما والمشهد كامل أمام عينيّ!
كنت أتلصّص على العالم من شاشة التلفاز، أشاهد فيلما مصريا، العالم فيه كما أتمنّاه: منازل نظيفة جميلة مرتّبة، حكايات حبّ ساحرة، ثياب أنيقة؛ عالم حتّى البكاء فيه مبهج! فجأة استيقظ أبي، كانت غرفته هي عينها غرفة الجلوس حيث التلفاز. صرخ:” ماذا تفعلين حتّى هذا الوقت المتأخّر؟ تشاهدين أفلام ” الزعرنات”؟ هيّا إلى النّوم!
كان تبقّى من الفيلم المشهد الأهمّ الأخير. دخلت المطبخ لأفتّش عن شيء آكله وإذا بي أسمع صوت التلفاز. لقد فتحه أبي من جديد؛ ها هو الفيلم عينه بمشهده الأخير!
مشيت على أطراف أصابعي، وقفت قبالة النافذة التي تطلّ مباشرة على التلفاز، وكلّي حماس ورغبة لرؤية المشهد! مشهد آخر دون أن أشعر سحب عينيّ: أبي عار تماما بعينين حمراوين، وأمّي عارية تماما، جسديهما متلاحمان! لا أدري… كأنّي شممت رائحة عرق، رائحة سوائل غريبة، رائحة خطيئة، رائحة صداع، رائحة دوار… كيف أنهض؟ كيف أغادر؟ جسدي الضئيل بات ثقيلا، أثقل من كلّ هواء الكرة الأرضية! شعرت أنّي أختنق.
كيف وصلت إلى فراشي الذي يكاد يكون متساويّا مع أرضية الغرفة؟ كيف أسدلت رجليّ ويديّ على الأرض؟ كيف نظرت إلى السّقف المنخفض فوقي؟ كيف جفّ لعابي وكيف تطابق المشهد في مخيّلتي مع العقاب الشّديد الذي نلته من أمّي يوم خلعتُ سروالي مع بنت الجيران؟ أمّي خلعت ثيابها كاملة! لم ألمح أمامي حبّا، لم أر قبلات كما في الأفلام، لا بل رأيت أجسادا تندلق، تتوه، تتداخل تضيع! ورأيت أنّي الطفلة الأكثر إثما في العالم!
لا أعرف إن نمت بعدها، أو حلمت، لا أذكر؛ لكن مأ أذكره جيّدا أنّي ابتلعت لساني، وأنّي في اليوم التالي أصبحت كمشدوهة: سكات وشبه كلام وحدي مع وحدي، مع عمود على الطّريق، مع نجمة، مع سماء المفترض أنّ الله يملأها بجسده ويديه وعينيه، فهو يرى… ويرى.
لمَ لا يراني؟ لم لا يلحظ أنّي تعيسة جدّا؟ لم لا يعرف أنّي تائهة أبحث عن طريق؟ لم لا يعرف أنّي أعاقب على سذاجتي وبساطتي وعلى عدم إتقاني الكذب والنّفاق؟
هل تكفي البسملة ليذهب الخوف؟ عليّ أن أتطهّر! أحتاج مطرا غزيرا يغمرني ويطهّرني!مشيت تحت المطر وأنا أشهق قطراته التي امتزجت ودموعي وأفكاري وهواجسي. أحدّ في العالم لم يلحظني! أنا دوما خارج العالم! أين ذاك المطر الذي أعاد لي الشّعور أنّي حيّة؟
وفاء أخضر
من رواية ( أنا أخطئ كثيرا…)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى