ثقافة

أركون…أسئلة واستمرارية

أركون…أسئلة واستمرارية

كان للبروفيسور أركون مشروع شامل متكامل نذر حياته لإنجازه وخدمته، يدور حول تجديد الإسلام وفق مقاربة تستدعي الرؤية الغربية للدين والحياة، وتستعمل الوسائل التي انتهى إليها الفكر الغربي كالتاريخانية واللسانيات والبنيوية والانتروبولوجيا، ومشروعه لا يقف عند تناول الخطاب الاسلامي الذي يرى أنه “لا يزال بعيدا جدا عن تاريخانية القرن التاسع عشر الأوربية التي توصلت إلى تهميش العامل الديني والروحي المتعالي”، بل يتناول النصوص المؤسسة للدين الإسلامي بالنقد، فلا ينقد العقل المسلم المعاصر ولا عبر العصور بل يتناول نقده القرآن ذاته على أساس أن علماء المسلمين لم يقوموا بهذه المهمة بسبب انبهارهم به الذي حجب عنهم الرؤية الصحيحة…لكن هل طرح كل الأسئلة؟ لماذا يتمسك المسلمون – مثقفون وأمة – بالفهم السلفي للدين؟ لماذا يرفضون الانصياع لدعاة التنوير بل يتهمونهم بالاغتراب المكاني؟ في طرحه لأسئلته المعرفية لم يكتف أركون بالإجابات الجاهزة بل اختار طريق السؤال والشك والنقد والتمرد، نقد بكل جرأة وظل مسكونا بهاجس التجاوز، فكان سؤاله الأكبر: كيف يمكن أن نكون مسلمين جديرين بلحظة الحداثة بشقيها المادي والعقلي وبتجلياتها السياسية والعلمية والفنية؟ كيف يمكن إعادة ربط المسلمين بماضيهم و بحاضر غيرهم المتطور؟ كان المشروع الفكري نقد العقل الإسلامي أو الإسلاميات التطبيقية لكن إذا كان قد انتصر للحداثة هل أنصف التراث؟ هل قرأه قراءة موضوعية أو منحازة؟ هل طرح الأسئلة الصحيحة وهل انتهى من الإجابات؟

مطالعة كتابه “البناء الإنسي للإسلام” La construction humaine de l’Islam (صدر بعد وفاته) تلقي أضواء كاشفة عن هذه الأسئلة، وتبين أنه تجرأ على طرق موضوعات تثير المسلمين في عاطفتهم الدينية وتستفزهم في قناعاتهم التصورية، فخلافا للصور التي درج عليها التفكير الإسلامي اعتمد أركون المنهج المادي الذي يكون فيه التعامل مع النصوص الشرعية بإلغاء دلالتها واعتبارها كأنها غير موجودة، والحصول على المعرفة من مصادر أخرى مثل التاريخ وأحداث الكون، مما يستدعي إلغاء المقدس والاعتماد على القوانين الطبيعية والاجتماعية، وإعطاء تفسير جديد لمفهوم الوحي والرسالة، والاعتماد على قوانين تطور الطبيعة والمجتمع في سلم الدلالات الموضوعية، وهذا هو منهج المدرسة المادية التغييرية، استخدم فيه أركون السيمولوجيا أي علم الدلالة أو العلامة والإيحاء ليتحوّل مشروعه الفكري إلى التركيز على النص، الشكل، التركيب، البنية، الرمز، الأسطورة …، فهل يستقيم هذا مع النسق الإسلامي وهل خدم مشروع أركون أم تسبب في رفضه؟ فالعلماء رفضوا استعمال لفظ “الأسطورة” في حق القرآن لكنه تمسك برأيه ودعاهم إلى إعادة قراءة فكره لأنهم لم يفهموه.

رفع أركون القداسة عن القرآن والسنة وأضفاها على الفكر الغربي ما بعد الثورة الفرنسية الذي أخرج أروبا من التخلف ومكّنها من الرقي المادي والأدبي، وهو ما لم يفعله المسلمون بتمسكهم الأسطوري العاطفي بالدين، وفي سياق مشروعه طرح أركون أسئلة كثيرة، محرجة ومقلقة لكن تفادى أسئلة المسلمين المتمسكين بدينهم المستندة إلى المرجعية الدينية المقدسة لديهم، والآن وبعد مرور سنوات على وفاته لنا أن نسأل: هل طرح أسئلة معرفية أم استفزّ حملة الفكر الإسلامي فقط؟

مهما يكن أين وصل مشروعه؟ هل هو مستمر أم توقف بموته؟ مشروعه الفكري له استمرارية من قبل المهتمين بالشأن الفلسفي والفكري خاصة على يد “مفكري الإسلام الجدد” الذين استفادوا مما فيه من ثراء وتعقيد، ومما طرحه في ساحة التداول من مفاهيم ومناهج، وما تضمنه من أشكلة وإعادة مفهمة لموضوعات عدت في السابق من قبيل المعلوم الواضح البين.

عبد العزيز كحيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى