ثقافة

الوجه الآخر للحرب

سناء فهد هلال

“قومي يا مريم” مجموعةٌ قصصيّةٌ للكاتبة والقاصة السوريّة “رباب هلال”، صدرت عن “دار التكوين” (٢٠٢١) بدعمٍ من الصندوق العربي للثقافة والفنون _آفاق.

في فم “رباب هلال”ماءٌ كثيرّ، تجمهر وربّما تخثّر في دمويّة العيش في طور الحرب، لكنّه ليس سوى مآلات نزفٍ طويلٍ تسجّيه في ذاكرة الوجع المديد، وبدمها السوريّ الخالص.
تعلي “رباب” من شأن الفرد والإنسان المهزوم في خضّم الأوطان المأزومة، ممسكةً بالتداعيات النفسيّةِ والتحوّلات السلوكيّة، وخلخلتها العميقة في الوعي الناشئ تحت وطأة الحرب، بانشغالات قصوى بالهمّ الفردي الإنساني، الذي يطرح نفسانيّة إنسان الحرب وخصوصيّاته وتشظيّاته، في مرويات
ربّما لن يوقظ وقعُها المؤلم الخدرَ الذي تقادم في كنف الحرب، لكن حسبها أن تجمّد الزمن كي تصف العناء، ولا يتحوّل الإنسان فينا إلى هباء. فهي إذ تكتب، لتؤسطرَ محنة السّوريّ بما لم تبح به الجبهات، ولم تتعرّف إليه المذابح، الأمر الذي لن يجفّف عقابيل القهر لكنّه لا بدّ سيلقي سلاماً أبديّاً على قبور النائمين هناك في ذمّة الحرب، وتبعث في الجوار تعريفاً للحبّ كحاجة قصوى في زمن الحرب العبثية، لتسكن إليه النفوس وترتاده القلوب المحطّمة.
بدايةً، لا نستطيع إغفال العنوان ورمزيّته، بما يحفّز من فعل النّهوض الكليّ قيامةً، ليست تخفّفاً من المعيقات الهدّامة، بل بالتّطاول على الخوف، وجداريّة القهر المقيم، وطرح حريّةٍ لا بديل عنها في درب الخلاص، تلك التي هي ثورة استدعت قيامة “وفا” وهي تتلمّس نشوة الحريّة، والتي أشارت إليها الكاتبة في قصّة “قرصة برد”، وثورة “ريم” على الخيانة الزّوجية في قصّة “سكر بنات”، تلك المحطات وفق “رباب” لا تحتمل الغبن والتّعايش المرّ، حتّى لو أُجلست زمناً على طاولة الحوار المستدام، كما تبدع السّياسة يومياً، في الخيانات والزبانيّة وطمس الهويّة والكرامات الفردية، تحت شعارات تدجّن فعل النهوض، وتتّخذ من الملاذات الآمنة والعيش المشترك ذريعة كبرى . في “قومي يا مريم” أيضاً استشرافٌ لأنوثةٍ هي الأصل، في تقويض استطالات الحقد والتّجبر والقتل، أنوثةٍ تستثير المعاني المهدورة على وقع المظالم والاقتتال. وقومي تلك لا تبرّر الخيانة، وتصرّ على الحبّ الجامع معتقداً والانتماء إليه مذهباً، لا يتزيّا بالخواء ولا يقرّ بالعطالة. كما في قصّة “سكّر بنات”ص 36 *(وكأنّ الألم يموت حين يصل إلى ذروته. الألم يشبه الحبّ. حين يصل العشّاق الذّروة؛ يفقدون سحر الطّريق ولذّتهِ، ألغازهُ وأسرارهُ، وفرح الاكتشافات والدّهشة. المشقّة والسّعادة. حيث ينتهي الطّريق تمكثُ العطالة).
في قصّتها الافتتاحيّة (إنّهم هنا) والأمّ العاجزة المذعورة في ليلٍ بهيمٍ عاصفٍ وهي تكرّر: (أخرجيهم من هنا)، من هذه ال “هنا” تطرق “رباب” باباً كنّا نحتاجه للاستيقاظ من غفلتنا، وفتحه على حاضرٍ منوَّم، باباً يتيح للعقل استيعاب أن يصبح الواقعُ أشدَّ قسوةً وغرابةً ووحشيّةً من الكوابيس، ليتداخل الزّمن لديها بين الحقيقة والخيال، وتتجسّد المظالم والجثث ماثلةً أمامنا، تستلقي على أسرّتنا ولندرك أنّنا لسنا نوَّماً، وأن موتاً بهذه المجانيّة والبشاعة ليس مرويّة من مرويّاتٍ تزجيها الجدّات من مخازن التّاريخ، ولا أحلام يقظة في مرايا ليلٍ عاجزٍ، وليست خيالاً جامحاً بالهلوسات، حيث يتدافع في قصّتها الموتى والشّهداء والغرقى والمنقذون من كوّة الضوء، ومن نوافذ غرفة الأمّ العاجزة، ويحتلّون صدر المكان، كما احتلّوا حيّز إقامةٍ دائمةٍ في لاوعينا القادم من تباريحِ ذاكرة الدم وتصاريف العدم، لتقول لنا: إن بيوت السوريّين واحدةٌ، وعائلتهم ممتدّةٌ، وأيّامهم متشابهةٌ، وأن ذنوبَهم من فصيلة دمٍ واحدةٍ، وأن من ماتوا برميَة نردٍ أو صلية رصاصٍ حاقدةٍ، ماتوا بالصدفة أو ماتوا عنّا، أو لأجلنا، وهم يعبرون من صمتنا المريب وأحلامنا اللّيليّة المذعورة، نحن النّاجون بالصّدفة أيضاً…

  • في القصّة الثّانية بعنوان (غاردينيا بين الأصابع)، تتلألأ الغاردينيا في الشّرفة على وقع تيّار السقاية، مشهدٌ يفتح في الأذهان الخصب السّوريّ ورمزيّته وامتداده، ويشرحُ باللًّمعان وجهجهة الضوء على وريقاتها روحَ السوريّ الخضراء المتشبّثة بالمكان، وجماليّاتٍ معمَّمةً على أسيجة منازلهم، اتّفق عليها السّوريّون حتّى حين اختلفوا. وتذهب “رباب” إلى مشهد الانفجار في ذات البناء الذي تقطنه، وتكون ضحيّته هي وزرّيعتها، بعد ممرّات تستحضر خلالها الهلع، تنبش عميقاً في الوجوه التّرابيّة والرّماديّةِ، في جفافنا وصمتنا وقلّة حيلتنا، وتعرّج على إقامة الموت مع اعتيادهِ واستساغتِهِ، ص 15(انحشرت عادة الموت واسترخت ضمن عاداتنا)، وتؤسّس لسؤالها الوجوديّ: عن انفعالات أناس الحرب التي نضبت تجاه الموت، ولمّا ينضب إحساسهم بأنّهم بعيدين عنه! لتهمس في سرّنا: في غواية الحياة نسيانٌ للموت أو حتّى تحاشيه بالتّناسي، بالتّجاهل المرّ، واستبدال الأحبّة بأحبّة آخرين. ص 18(“يجتاحني شعورٌغريبٌ، شعورٌ طارئٌ ذلك الذي معه تمّحي أحاسيس بالغة الثقل خلقتها الحرب”….”هل أن ذاتي العاجزة الضجرة والمنهكة تولد من لعبة التشابيه القديمة الممتعة حيلةً، عبرها أستبدل بوجوه من رحلوا، وجوهَ من لا يزالون هنا على قيد البقاء”… “الحرب تعجِزُ التّفاسيرَ وتربِكُ الفهم”).
    لكن وفق “رباب”: الغاردينيا السّوريّة زهرة حياةٍ بين الرّكام، وقفت في وجه الفناء شاهدة عصرٍ على من كانوا هنا أبناء وبنات حياة، وأثناء السّقاية وقبل أن تجف قطرات الماء على الغاردينيا، عبروا من تحت الأنقاض إلى ضفّة أخرى، وانتفضت حواريّة الموت الأخيرة على وقع دويّ الانفجار، والتقى الوافدون الجدد من الهول والدّمار بالعائدين من الموت، في مشهدٍ برزخيٍّ اختلطت فيه الوجوه والأنساب والدّماء والأسماء، وهم يحدّقون بوجوههم المتشابهة بمنأى عن تعدّد انتماءاتهم، كانوا يتعرّفون إلى بعضهم بالعيون قبل أن يرحلوا ثانية، ويغتربوا إلى الأبد. هؤلاء الغاريدينيون الأحبّاء المتشابهون الذين تتفتّح قلوبهم السّوريّة على نوافذهم المتنائية، كانوا جميعهم متّفقين على حبّهم للغاردينيا وسقاية أحلامهم، لكنهم ليسوا متفّقين على توقيت موتهم.
  • في قصة “الحاجز” تروي “رباب” رواية الرّعب على الحواجز، ص23(طوارئ الحرب غريبةٌ ومؤلمةٌ تتفنّن يوميّاً، وتبدع في خلق أساليب لقتل الحياة)، ذلك الطّود الإسمنتيّ المدعّم بالرّصاص الحيّ، الشّاهد على الاستخذاء المُذِّل والمَهانة، على العيون المذعورة، والحافلات بمقاعد تصبح شاغرةً أثناء الرّحلة، وأولئك المدجّجون بالسّلاح، الذين يترصّدون كل حركةٍ أو نأمةٍ حين يتطلّب الأمر، بَيْد أن الأمر قد لا يتطلّب الاعتقال، لا سيّما حين تكون الفريسة عجوزاً ثمانينيّاً متثاقلاً يعاني مرض السّرطان، ويكاد لا يستطيع المشي، ففقط في لغة الاستبداد تراجم مبتكرة، تحيل المواطن إلى نزيلٍ والوطنَ إلى نُزلٍ، وتصبح حجّة الغائب ليست معه حتّى يحضر…إنّما بالتّنكيل بذوي القربى على ذمّةِ الغائب حتى يحضر. الحاجز ورفاق الدرب المتعبين، الوجوم، الرّيبة، الحذر المخزي من الآخر، كلّها طودٌ آخرٌ يَرفع بين أبناء البلد الواحد جداراً من الصّمت، ويصيّرهم نعامات حرب، يفرغ الكلام من معانيه خلف الستائر التي حجبت وجوههم زمناً، والرّعب الذي كمّ أفواههم، وكرّس بالتّقادم عيوناً متربّصةً لا تشبه العيون.ص ٢٦(جاري الغريب في مقعده، غمر وجهه في طاقيّته وغفا. تساءلتُ في سرّي: هل غفا أم أنّه صيّر نفسَه نعامةً، هو الآخر؟).
    تحت راية الآن – الوقتُ حربٌ- يعلو الحسّ الوطنيّ بالخطر …الخطر من ماذا؟ خطر أن نكون معاً! خطر أن يصبح أحدنا كلّنا، وكلّنا أحدنا، خطر المذلَّون على المذلِّون.
  • ثم تطرح “رباب” سؤالها الشاغر بانتظار إجابات كبرى: ماذا بعد؟ ص24*(وماذا عن تلك الغرفة الأمنيّة؟ هل ستدَّك، ويُبنى مكانها استراحةً للمسافرين، مثلا؟ أم أن كلَّ شيءٍ هنا سيتحوّلُ إلى روضةٍ تطفح بالأشجار والورود والأطيار، كي تجمّل ذاكرة المكان بالنّسيان؟) :وهنا تحديداً تطلّ من بين الحواجز سوريا المُصغَّرة، التي تحوّلت إلى بضع أراضٍ قائضةٍ ومعتقلةٍ، مرّ عليها طوفان الدم باهضاً، وهي تناظر عصفوراً على قائمة الأشجار الرّاكضة وتنتظر الأوان.
  • في قصّةٍ عنونتها “رباب”ب “صباحٌ يختلف قليلاً”، صباحٌ وصباحاتٌ عايشت الفقر والضّنك والمرض والرّعب والرّصاص والتفجيرات، تتقدّمها مفرداتٌ سوريّةٌ خالصةٌ، يعرفها السّوريّون بدمغة الحرب والشّقاء، تماما كتلك ال “يِلْعن”.”يلعن كل شيء”. “يلعن أبو العالم”. “يلعن من كان السّبب”. ص٤٣(يلعن كلمةٌ تلزم لمواجهة بائسةٍ، لاقتناص حفنة هواءٍ لا أكثر). “يلعن” وكفى بها، وهي تختصر فاعلها ومفعولها عندما تقال بكثافةِ الرّوح على بابٍ أخيرٍ، وتفرّدٍ يؤرّخ يوميّات الخراب. ص٤٤(يلعن ليست أكثر من سلاحٍ كرتونيٍّ، يطلقه أطفال الجوع، يطلقون عبره رصاصاً شفويّاً لقتل آكلهم المنتصر منذ أوّل التاريخ )،و”يلعن” تلك التي تختصر قواميس اللّعنات، تلك اليتيمة والمبتورة والمضمرة والمسدَّدة ضمناً، “يلعن” تلك الكناية التي لا حاجة لشرح تأويلها، والمجاز الذي لم يعد للمجاز منه موطئ لعنةٍ، هي التي خاضت مرارات الدّنيا وتخثّرت قبل النّطق على الشّفاه الخرساء، تلك ال “يلعن” كمقذوف استعصى في حجرة الانطلاق تقف على فم سوريّ كرصاصةٍ أخيرةٍ، ص٤٥*(أقعت في الشفاه مثل كلبٍ هرمٍ واهنٍ يختتم حياته الذّابلة وشجاعته الآفلة باستسلامٍ مقيتٍ).
    في المجموعة على مدى ثلاث وعشرين قصّةٍ الكثير من المكابدات والأحداث والأسئلة على لسان شخصيّاتها المُصاغة بإحكامٍ ودرايةٍ فنيّةٍ جمالية ووفاءٍ واتساقٍ مع عوالمها، تعيد دوزنة معزوفات الوجع النّبيل وتطلقُ هواجسها في صرخة االحريّة، النّزوح، التسلّط ، الطّفولة المستلَبة، اليتم، العنوسة، الهجرة، الانغلاق الديني، الجهاد والمال السياسيّ، ورواسب الحرب، والكثير من المضامين الحيّة والملحّة والصاعدة لملاقاة الجمال الإنساني، وفي كلّ قصّةٍ وجعٌ ووجهٌ آخر للحرب، تعانده”رباب” بالبقاء حيث تلتقي بالمكان والهويّة والإنسان، وبالوجع وجهاً لوجه.
    ص٢٣”سألتني لمَ لمْ أغادر البلد. سؤالٌ يُوجّه إليّ باستمرار. أجبتها أنّ ثمّة أسباباً كثيرةً لبقائي. واّنني لن أغادر ما دامت هذه الحرب تلتهمنا.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى