أخبارتعاليقرأي

ضريبة الطيبة

د. محمود عباس

يقول السياسي الناجح لذاته، لا تكن طيباً، أبتسم في العلن، وأحذر من الذي تتعامل معه، لأنها من ركائز التقدم. فمن يدرك بأنه لا يملك هذه السمات يجب ألا يدخل عالم السياسة، فحتى ولو أقتحمها لن يحقق نتيجة، بل سيفشل. جدلية السياسة وتناقضها مع الطيبة موضوع تناوله العديد من علماء النفس، والمفكرين، وكتبت فيها المئات من المقالات وفي أوجه مختلفة.

السياسيون لا يهمهم ما يصفهم به المجتمع ولا يريدون محبة الناس بقدر ما يهمهم كيف تتحدث الألسنة عنهم، وكيف يسيطرون على أدوات التحكم في العامة. الخباثة سيماؤهم، يعيشون عالم لا مكان فيه للطيبين، يهللون لظهور الأنبياء والمصلحين على أنه من أجل محاربة المنافقين وتبيان مناقب الطِّيبة، وهم خير من يدركون أن تقدمهم مبني على النفاق وبها يحققون مطالبهم. وكم نتمنى أن تمتلئ الساحة السياسية الكوردستانية بالسياسيين الكورد القوميين للتغلب على الأعداء، وخدمة المجتمع والقضية حتى ولو بعد تعويم المصلحة الذاتية والحزب.

الممجدون في التاريخ، والذين سادوا وطغوا أو يسودون اليوم، في الواقع جينة الطيبة من أضعف جيناتهم، معظمهم منافقون، وطغاة، وخبثاء، وخونة، ومجرمون، لم تكن لهم قيم ولا معارف أو أصدقاء حميمون. يستثنى من هذه الجدلية البعض من قادة الثورات الذي عاشوا مع آلام الشعب، والأدباء والفلاسفة والفنانين المبدعين، الذين ذاقوا الويلات، وقضوا حياتهم في القهر والعوز، وتم إذلالهم من قبل الشريحة المنوهة إليها، أغلبهم طيبون بالفطرة. والطيبة حالة سلبية لصاحبها وإيجابية لمناوئة، خلقت مع الإنسان لإذلاله وليس لإكرامه وأجلاله، كما تقال في الأديان.

طوال التاريخ عانى الطيبون من هذه الصفة، كثيرا ما تحولت دماؤهم إلى دموع انسابت بصمت وفي العتمة، استندوا على كبريائهم لكتم القهر أمام الأخرين، غطوا الذات المعانية باللامبالاة، لكنهم في الواقع ومع الزمن والصراع الداخلي يتحولون إلى هياكل متحركة؛ بأدمغة تلتهب كالجمرة، ومنهم المبدعون خاصة في المجالات الفكرية والعلمية سقراط خير مثال.

ولغرابة عالم السياسة، تمنيت أن أحمل سمات السياسيين، ليس لأن أروقتها وساحاتها تغرق في الرفاهية، بل لأن منصاتها سلطة وقوة، بالإمكان تسخيرها لخدمة الوطن والقضية، لذلك حاولت طوال العقدين الماضيين تنمية جينة العنف، والقساوة، والتدمير، وعدم الرحمة، على أمل أن تصبح سائدة على الطيبة المدمرة للذات. لكن وللأسف، في الواقع العملي كنت أضحل من أن أتمكن ولوجه، والقدرة على تطبيق أول بنوده وهو الخبث والغدر عند الضرورة. واصطدمت بنقيض المطلوب، وكانت النتيجة بأنه من شبه المستحيل التغيير، فجل الصفات جينات وراثية، حتى لو أن بعضها تتطور مع المران والتربية الاجتماعية أو العائلية، لكنها لا تنتج.

بعكس عالم السياسة المرصدة أبوابها، عالم الطيبة بوابتها مشرعة يستغلها الخبثاء لبلوغ غاياتهم، الناس يوصفون الإنسان الطيب بالبسيط واللطيف (على البركة) لا يؤذي أحدا فيهمل، بعكس السياسي الذي يعبث فيما لو شعر بالإهمال، فالطيبة خاصية كارثية لأصحابها ومضرة حتى ولو كانت جينة متطورة من الله، لأنها جينة مريضة، وجدتها، ولمرات عديدة، بأنها السبب في إضعاف، بل تدمير العديد من البشر، نفسيا وأبعد، وسهلت النجاح للمنافقين بالمقابل.

تحزنني إن كانت هذه هي العدالة الإلهية أو من طفرات الطبيعية، والحزن أرهب من الموت، علما أننا لا نعلم أيهما الأكثر سعادة بقدر ما نعلم أيهما الأكثر حظا في النجاح.

السياسي الناجح يموت من الجبن مرات، وهي السمة التي لا يملكها الطيبون، رغم أن البسطاء يتمرغون في القهر والأسى ولا يأتيهم الموت، فالحلم الذي يستندون عليه تطيل مسيرتهم نحو النهاية المطلقة (جدلا) حتى ولو عاشوا عمرا زمنيا أقل من السياسيين، لكنهم يموتون مرة واحدة.

لا أعلم فيما إذا كنتُ من الشريحة الطيبة النفس أم لا، وأنا هنا أتكلم باسم شريحة واسعة من الناس، لكنني أعلم بأن الحياة لم تكن مسرة كما يقولها السياسيون، ولا ترهبني الموت مثلهم، ولا أتكالب على الله لإبعاد العدم، وأؤمن بأن الهروب من الصراع مع الحياة بالطيبة جبن في الواقع، لم أشعر بالرهبة من القادم، ونادرا ما أحسست بالخوف من المفاجئات في الماضي، عرفت طبيعتي اللامبالية هذه لأنني واجهت خطر الموت مرات عدة بابتسامة وهدوء، ربما لأن قناعاتي متينة بأن الوجود كالعدم، ففي الأولى الزمن يمر ببطيء، وفي الثانية يعدم الزمن الحضور بسرعته أو يزيل من بين الحضور أحدهم، ويظل الحضور في أثقال ذكرياتهم.

لا أعاني من مخلفات تقادم العمر، كالكآبة والحزن، والأمراض المزمنة، وسرعة التعب الجسدي أو وهنه، أمارس رياضة المشي ساعات، وأحيانا أتابع المسلسلات أيام وأيام، أقرأ لساعات أحيانا لهدف أو دونه، ولم أنقطع عن الكتابة منذ بداية السبعينات من القرن الماضي أي في السنوات الأولى من الجامعة، وجدتها وسيلة لتطهير النفس، وهي من بين الممارسات التي لا أود أن أحيد عنهم كالرياضة، ترسخت أكثر عندما توضحت الغاية في العقدين الأخيرين.

حياة الناس مليئة الأخطاء، لكنها تتفاقم على الطيبين والشريحة هذه لها أوجه ومستويات عديدة، معظمهم يتعاملون مع الظروف بما تقتضيه، ومع الناس بما جبلوا هم عليه، كلما برزت في الذاكرة أحدى أخطائي، أحاول أن أتذكر كلية المجتمع الطيب المعاني، رغم معرفتي بأنه من المفيد عملياً أن أعي بأن من الفضائل التي وهبتنا الطبيعة هي تناسي الماضي المؤلم، وعدم التخلي عن الطيبة للرد على كل فعل خبيث.

أتذكر كثيرا مقولة ماركوس أوريليوس ” كلما أساء إليك شخص وقح فإن عليك أن تبادر إلى سؤال نفسك: إذن أكان من الممكن ألا يكون في العالم وقحون؟ غير ممكن؛ فلا تطلب غير الممكن. فهذا الشخص مجرد واحد من الوقحين الذين لا بد من وجودهم في العالم. والأمر نفسه ينسحب على الأوغاد، والخونة، وكل صنف من الآثمين. وإدراك أن هذه الطائفة من الناس لا بد من وجودها حري أن يجعلك أكثر رفقاً بكل فرد منهم.” فتمدني ببعض الهدوء والراحة النفسية.

مع ذلك أتناسى هذا المنطق وألوم ذاتي، على عدم تسخير قدراتي العقلية على معرفة ما سينتج من علاقتي مع شخصيات من هذه الشريحة التي يذكرها أوريليوس، ولربما معظم الذين يصطدمون بالحياة أو يفشلون رغم العطاء الفكري والأدبي والفني هم من حملة السمات الطيبة، تنقصهم جينات السياسيين.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى