الصحافة الجديدةدراسات و تحقيقاتفي الواجهة

مذكرات سيمور هيرش .. الاستقصاءات الصحفية لـ سيمور هيرش

د سعيد مضية سيمور هيرش في استقصاءاته الصحفية


1- زيوف ديمقراطية الليبرالية
تنطوي مذكرات سيمور هيرش، “مذكرات صحفي استقصائي”، على كم هائل من البينات، حيث بزغ المحافظون الجدد ينشرون فاشية الليبرالية الجديدة. تعقب هيرش كل ما تخفيه دعاية الليبرالية، ليكتشف التضاد بين جوهرها- الليبرالية ( نظام التفاهة حسب وصف الدكتور ألان دونو) وواجهتها البراقة. ترجم كتاب المذكرات الدكتور محمد جياد الأزرقي وصدر بالعربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون، أيار / مايو 2019 في478 صفحة. أهدى المترجم الكتاب “للذين ينحازون للوجع الوطني والإنساني”.( كتب المترجم أسماء بالعربية مستبدلا حرف غ مثلا بحرف كاف تعلوها فتحةكما في كينغ، و”تش” في ريتشارد ثلاث نقط تحت ح ، نو بدل نيو في كل اسم يرد بالمذكرات). وخلال تقصيه أزاح هيرش النقاب عن شروخ وثقوب في نظام الليبرالية تعشش فيها الديدان والصراصير، والميكروبات المولدة لمختلف الأوبئة والعلل. مجتمع الليبرالية عليل .
في طيات الكتاب يعبر هيرش عن رجل لا تنطلي عليه الزيوف، عاشق للحقيقة يتعاطف مع المقهورين ، ضحايا التزييف والتلفيقات. يسرد أكداس الأكاذيب التي فض غشاوتها، وفي حلقات قادمة سوف نأتي على صنوف المعاناة التي يتكبدها كي يمسك بالحقيقة وبالعدالة. ذلك ان شعاره “لا أصدق أن امي تحبني حتى احصل على البينات المادية”. مذكرات صحفي استقصائي تضمن بدوات هيرش يتقصى العلل التي تسببت فيها الدبلوماسية الأميركية محليا وخارجيا.
كيف توجه هيرش الى مهنة التقصي؟
في بداية عمله الصحفي سمع هيرش في مركز للشرطة أحدهم يتباهى بقتل رجل أسود، رصاصات بالظهر! طلب نسخة من تقرير المحقق في الحادثة، ووجده مغايرا لما سمعه باذنيه، وطبيعي ان ينفي الشرطي ما قاله، لو تابع القضية ؛ كتب في مذكراته: ” ملأني الحزن لضعفي وضعف مهنتي، التي قيدت نفسها بالرقابة الذاتية بحجة المرونة. لقد كرهت هذين المفهومين منذ تلك اللحظة، واخترت الطريق المغاير لذلك تماما “. اختار هيرش التقصي لكشف ما تخفيه السياسات الرسمية، مع الحرص على التوثيق .
الصدفة فتحت ذهن هيرش أولا على الحالة المزرية لسكان البلاد الأصليين -علة العنصرية بالمجتمع الأميركي. أورد المترجم في مقدمته نقلا عن المؤلف، “كانت ولاية داكوتا الجنوبية الموطن الأصلي لحوالي تسع قبائل من سكان أمريكا الأصليين…يذكر هيرش أنه يوجد عدد محدود من سكان البلاد الأصليين ممن يعملون في عاصمة الولاية، وليس هناك اهتمام يذكر للمجلس التشريعي للنظر في ظروفهم، ويا لها من محنة في أواخر العام 1962، كانت الأوضاع في مناطق تجميعهم القسري سيئة للغاية (يبدو أن إسرائيل نسخت التجربة لتجميع عرب النقب داخل إسرائيل!) بلغت البطالة في حالات نسبة 90 بالمائة، اشتداد الفقر وارتفاع حالات الانتحار وكذلك ارتفاع نسب الإصابة بمختلف الأمراض، منها الإفراط في شرب الكحول. كانت المسألة تبدو له ممارسة للعنصرية، وان ضحايا هذا التمييز خلافا لواقع الحال في شيكاغو ، بعيدين عن الأنظار” [10] . هناك حقائق يطمسها الإعلام الرسمي ، او إعلام التيار الرئيس. إن محنة صحفي التقصي ، جوليان أسانغ، شاهد على اضطهاد سلطات كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لصحافة التقصي.” اوباما بدأ يضيق الخناق على من يسرب معلومات سرية أكثر من اي رئيس سابق”[468]. وقبل إدارة أوباما كانت إدارة بوش الابن، تعاقب من يسربون الأسرار. “برز تشيني كقائد لنخبة من الليبراليين الجدد ابتداءً من 11 سبتمبر( أيلول 2001 )، عمل كل ما بوسعه لتقويض رقابة الكونغرس على الحكومة” [438]”. يضيف هيرش: ” علمت بالمزيد من المعلومات من مصادري الداخلية حول مدى سيطرته على البيت الأبيض. ولكن للمرة الثانية كانت قدرتي محدودة للكتابة عما اعرفه لخوفي على سلامة مصادري، وهو عبءٌ أثقل كاهلي” [438].
وأسلوب آخر لتمنيع حصانة “بيت الأسرار”. بعث مراسل مجلة تايم ، هاريسون سولزبري، من فييتنام رسائل صحفية “عن مشاهداته لأدلة على قصف أميركي واسع لهانوي استهدف بشكل واضح المدنيين. كان رد البنتاغون مباشرا وقاطعا بالإنكارالتام لأي قصف داخل حدود مدينة هانوي، وانطلقت إشاعات كررتها العديد من الصحف مفادها ان سولزبري ومجلة تايم يقومان بدور العمالة للعدو.[114] هنا نستذكر الدكتور ألان دونو وكتابه “نظام التفاهة” يسوق التفاهة في استجابة وسائل إعلام وأكاديميات العلوم لتجنيدها في خدمة الطبقة المحاكمة ، تزور الحقائق وتشيطن من يسرد الحقيقة. وما زالت التفاهة تتوارد في تصريحات راهنة.. واتهم هيرش أيضا بأن عمله الصحفي “ليس إلا محاولة متعاطفة مع الجهات الشيوعية، ويجب مقاطعة ما يكتب وعدم نشرهأ و دعوته للمشاركة”.[206] لكن الحقيقة تسطع كالشمس. “كنت في طريقي لحضور مؤتمر صحفي ‘لمسئولين أميركيين’ ، في العادة شخص او اثنان من رفيعي المستوى ذكرا فيه جهلهما بما تحدث عنه سولزبري، وان الضرر الذي أصاب المنشئات المدنية ناجم عن سقوط الصواريخ المضادة للطائرات التي تطلقها دفاعات فييتنام الشمالية لاستهداف القاصفات الأميركية, وهذه بالطبع كذبة يسهل ‘هضمها’”[114]. ثم يقول: “تناولت العشاء مع أدميرال رفيع المستوى ويشغل منصبا حساسا في البنتاغون، أدركت تضارب مشاعره تجاه الحرب وعبرت له عن مخاوفي من قلة الأمانة لدى القيادة في البنتاغون. كان واضحا انه اتفق معي بالرأي ، لكنه لم يرد عليه… لقد مل هو نفسه من الأكاذيب. أخبرني (في لقاء آخر معه)انه توجد صور التقطت بعد قيام إحدى الغارات يسمونها في البنتاغون بي دي أيه، لتقييم الأضرارالتي أحدثتها الغارة، وتظهر الخراب الذي لحق بالمواقع المدنية التي كشفها سولزبري في تقاريره…”[115] .
لفت هيرش اهتمام العديد من الضباط وكبار المسئولين، بجرأته وصدقه، لفت اهتمام العديد من الضباط وكبار المسئولين الأميركيين، نظرا لجرأته وصدقه ومحافظته على مصادر معلوماته، وراحوا يزودونه بالأخبار. ومع هذا كانت تقاريره الصحفية تدحض بوقاحة ، وأحيانا يخفيها هيرش مخافة ان يكشف مصادر معلوماته، ويعرضهم للعقوبات القاسية. الإدارة الأميركية وسائر أجهزة الدولة بيت أسرار مسيّج بإلإرهاب. ومع هذا تجد الدعاية الأميركية الجسارة الوقحة باتهام مجتمعات غيرها انها ” مغلقة”.
تسلم هيرش وظيفة مراسل بوكالة الأسوشييتدبرس لتغطية قضايا الحقوق المدنية في شيكاغو، وتعاطف منذ البداية مع المقهورين ضحايا التمييز العرقي ، مأ تجلى في جميع كتاباته, أتاحت له مهمته فرص لاتصال واللقاء بالقس مارتن لوثر كينغ.” كان كينغ عبقريا في معرفة نوايا الصحفيين واستطاع ان يميزني وغيري ممن اظهروا الولاء للقضية…كان يذكر دائما ان الجماهير هي ‘المحرك الأساسي لحركة الحقوق المدنية.’.. في ليلة متوترة الأجواء في شيكاغو ، تحدث ووقع بصره علي فقال : ‘كم هو صعب ؟’ ولوى بإصبعه نحوي، وقصد أن أنتظره لأنه يريد أن يفضي الي بالمزيد…وبعد حوالي عشر دقائق انتحى بي جانبا واعطاني المزيد من المعلومات. ومن بعض تلك الاقتباسات اللاذعة، خيبة امله بإدارة جونسون لجعل شعلة القضية تتقد ليوم آخر ” [99].
كشف هيرش عن مذبحة ماي لاي بفييتنام بعد جهود بذلها للالتقاء ببطل الجريمة، الملازم وليام كالي. كان الصمت يلف الدوائر الأميركية ،الرسمية والإعلامية، التي بدت غير مبالية بما جرى أو سارعت لنشر الأكاذيب لتغطية الحدث المرعب. صدمت القصة الكثيرين وجعلتهم يفكرون بطريقة لا عقلانية. “اتصل بي قبل ساعات من بزوغ الفجر بيتر برسترَب، ليقول لي انني ابن عاهرة كاذب، لا يمكن ان يقتل عسكري واحد 109 مدنيا ؛ اعتقدت انه مخمور لكن لم استطع بعدها العودة الى النوم…كان رقم هاتفي موجودا في دليل التلفونات ، وترتب على ذلك انني تلقيت خلال الأشهر التالية سيلا من المكالمات والشتائم والتهديدات الرخيصة من أشخاص غاضبين.”[205]بعد مذبحة ماي لاي برزت فضيحة مختبرات الأسلحة الكيماوية، وتصدى هيرش لإماطة اللثام عنها. في وسط شهر ينايرمن عام 1967كتبت صحفية موهوبةظن اسمها إلنرلانكر، مقالة من جزاين حول مخاطر برنامج البنتاغون لتطوير بحوث الأسلحة الكيماوية والجرثومية، الذي زيدت ميزانيته 300 بالمائة خلال الفترة 1961-1964.”عهد للجيش بهذا البرنامج وكان مسئولا خلال إدارة جون كندي عن الاستعمال المتزايد للمواد الكيماوية التي تقتل الزرع وتجرد الأشجار والنباتات من أوراقها في فييتنام الجنوبية”.[126] علم هيرش من تحرياته الدؤوبة ممن عملوا في البرامح أن “البرنامج تجاوز بعيدا اهدافه المرسومة لتأمين الدفاع ضد الهجمات السوفييتية”[126] ولأسفه الشديد ذهبت تحريات هيرش أدراج الرياح؛ “في منتصف شهر إبريل تحولت سلسلة مقالاتي حول السلاح الكيماوي الى قصة واحدة اقتصرت على ما يقارب الف كلمة، دون التشاور معي، نشرت بعد منتصف ليلة الأحد، وهو أسوا وقت ’لدفن‘ أية أخبار صحفية”[129]. انتقل الى صحيفة أخرى ” نشرت مقالة في مجلة نيو ريببلك وضعت لها عنوانا مثيرا ‘قطرة واحدة كافية للقتل’ ضمنتها قائمة بأسماء52 جامعة ومركز بحوث حصلت على عقودعسكرية ارتبطت بحرب فييتنام… حركت مقالتي المشاعر ، فانطلقت مظاهرات الطلاب داخل الأحرام الجامعية للتنديد بذلك التعاون”[130]. انتقل هيرش لتقصي استخدام مواد كيماوية لإحداث العواصف لعرقة تحركات العدو وعدم كشف الطائرات المغيرة… كما بدأ يتابع التقارير عن قيام وكالة المخابرات المركزية الأميركية بتأسيس شبكات لتهريب المخدرات في جنوب شرقي آسيا، وتابع أيضا الغارات الجوية لتدمير السدود في فييتنام الشمالية وانطلاق تلك الغارات من مطارات سرية في لاوس.”[27]ثلاث قضايا شغلت وكالة المخابرات الأميركية حملت بصمات كيسنغر، وينكر معرفته بها، “الرجل يتنفس كذبا ” [292] القضايا هي “القصف السري لكمبوديا، ونشاطات فريق البيت الأبيض من السباكين ( السطو على مكتب الحزب الديمقراطي وعرفت بفضيحة ووترغيت) وعمليات وكالة المخابرات المركزية ضد الرئيس الليندي بتشيلي ” [293]. فضحت قضية قصف كمبوديا من الجو ، في حين سجلت كذبا غارات على فييتنام . افتضح أمر تزييف سجلات الطيران بواسطة رائد في سلاح الجو تقاعد حديثا واسمه هال نايت، وهو ديمقراطي مناهض للحرب.” [293] في مقابلة مع نايت أخبرني ” كانت بعض الطائرات تحمل رؤوسا نووية وتقوم بدوريات متتابعة على حدود روسيا والصين . كان طيارو بي52 على أهبة الاستعداد بانتظار أن يتلقوا امرا مباشرا من الرئيس لإطلاق جحيم من القنابل النووية على روسيا وبدأ الحرب العالمية الثالثة” [294]. من عادة هيرش أن يبلغ المسئول عن القضية التي يود نشرها . ” اتصلت بالوزير ومستشار (الأمن القومي)، هنري كيسنغر …وذكرت له ما أعرف مما تذكره هال نايت .. غير أن ما حصلت عليه منه لم يكن أكثر من سلسلة من الأكاذيب.” [294].
في الفصل الأخير تتبع هيرش تعاون المخابرات الأميركية مع حركات الإرهاب في الشرق الأوسط.”أصبحت مهمتي في حماية مصادري أكثر تعقيدا بتزايد سلطة تشيني . وكالعادة كنت أعرف أشياء لم أقدر على الكتابة عنها في حينها ، خشية انكشاف مصادري من قبل العاملين في داخل الحكومة.أعرف على سبيل المثال ان قرارا قد اتخذ أواخر عام 2001 بدافع من الجمهوريين من المحافظين الجدد داخل الحكومة وخارجها بسحب العديد من القوات الخاصة العاملة في أفغانستان ، والتي مهمتها تصيد ابن لادن . السبب هو الاستعداد لبناء القوات العسكرية من اجل غزو شامل للعراق… نشر هيرش خلاال 15 شهرا القادمة، وحتى بدأت أميركا حرب الخليج الثانية (مارس 2003) المقالات الواحدة تلو الأخرى حول تشويه المعلومات المخابراتية والتلاعب بها والاكاذيب الرسمية عن أسلحة الدمار الشامل. ” [437]. كيسنغر استبدل بديك تشيني يسيطر على البيت الأبيض. على المدى القريب ، فإن كافة ما أخبرت به وما اعتقدته هو صورة قاتمة لإدارة بوش –تشيني ، واقتنعت ، كما حدث في فضيحة ووترغيت أن القادم سيكون أسوأ.”[439] .تحول انتصار أميركا في العراق الى احتلال شامل ومقاومة تنمو وتتسع يوميا .كان رد أميركا هو الضرب بعنف أشد وزيادة عمليات الاغتيال السياسي والسجن والتعذيب….والذين يموتون نتيجة التعذيب لا يتم دفنهم ، بل تتم إذابة جثامينهم باستعمال المحاليل الكيماوية”.[440] اثنان من الحزب الديمقراطي في لجنة الاعتمادات التابعة لمجلس الشعب (يبدو ان المقصود مجلس النواب) ديفيد أوبي رئيس اللجنة وجون مرثا ، سبق ان خدم ضابطا في البحرية وله علاقات طيبة مع البنتاغون. ” فوجئت من مرثا انه يعرف (عن تشيني) أكثر مما أعرف، وكان حذرا للغاية. .. أخبرني أوبي أنه التقى بتشيني وأبلغه انه “يخالف الدستور حين لا يحصل على تفويض من الكونغرس حول كيفية الحصول على التمويل وصرفه. كان جوابه ان لدى الرئيس بوش كافة الصلاحيات لتنفيذ ما يراه ضروريا خلال وقت الحرب . كانت خلاصة الرسالة التي خرج بها أوبي كما أخبرني‘ إذا كنت لا تحب ما نقوم بعمله فبإمكانك تقديم الشكوى ضدنا في محكمة فيدرالية’ “[440]“بعد مرور أشهر قليلة على غزو العراق استلمت خلال مقابلة خارج البلاد مع جنرال كان مسئولا عن عمليات التجسس الأجنبية لبلاده، نسخة من خطة الجمهوريين من المحافظين الجدد حول سيطرة أميركا على الشرق الأوسط. الجنرال المذكور حليف قوي لأميركا ؛ لكنه كان مستاءً من السياسة العدوانية لإدارة بوش – تشيني… الوثيقة (التي تسلمها من الجنرال)توضح ان الحرب ستعيد تشكيل خارطة الشرق الوسط… ستمكن أميركا من فرض سيطرتها على المنطقة… النصر على العراق سيقود الى إعطاء إنذار نهائي لدمشق “التابعة” لإرادة إيران وحزب الله وياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية وكافة الجماعات المعادية لإسرائيل‘ انهم سيقاتلون من اجل حياتهم. السيطرة الأميركية قادمة لا محالة ، وهي تعني إبادتهم جميعا’. اتفقت والجنرال الأجنبي ان المحافظين الجدد يشكلون تهديدا للحضارة الإنساانية”.[441] “عرفت فيما بعد طلبا من قيادة الجيش الأميركي المتواجدة في مدين شتوتغارت في ألمانيا .. أن تبدأ وضع الخطط لغزو سوريا . رفض جنرال شاب القيام بتلك المهمة/ وهو الأمر الذي استحسنهأصدقائي العاملين داخل المؤسسة العسكرية ، رغم أن الرجل قد خاطر بمركزه”[442].
ضابط طيار عراقي اكتسب ثقة فريق المفتشين الدوليين نظرا لنزاهته . بعد سقوط بغداد اتصل يطلب العون من الفريق، ومن بينهم سكوت ريتر ، الرائد في البحرية ، وكان قد “خلق ضجة عامة إثر هجمات 11 سبامبر بإصراره على أن العراق لا يملك أسلحة نووية[444]. قدمني سكوت للطيار اتفقنا بواسطة الانترنت على اللقاء في دمشق حين يكون بمقدوره السفر بالسيارة. “كانت لدى الطيار أخبار محزنة عن أهوال الاحتلال الأميركي، بما فيها الغارات التي قام بها الجنود الأميركيون على البيوت وقيامهم بسرقة الأموال والمصوغات الثمينة”[445]…. أخبرني عن عرفاء يقومون بحملات تفتيش منزلية وإلقاء القبض على المواطنين وطلب الأموال مقابل إطلاق سراحهم. كما كان الضباط الكبار يتلقون الرشاوى مقابل الحصول على العقود المحلية والأجنبية . في شهادة لأحد المترجمين العراقيين” ان الجنود كانوا يسيئون معاملة السجناء ويبتزون بشكل مستمر الأموال من المواطنين عن طريق التهديد باتهام الأميركيين لهم أنهم يتعاونون مع العدو” [445]. في شهادة المترجم، ” تم الاتفاق مع بعض السجناء بإطلاق سراحهم مقابل انضمامهم الى المقاومة، لكي يكونوا جواسيس … ” كما أنني تمكنت من الحصول على شيء أهم ، وهو تقرير داخلي عن تحقيقات جنائية عما جرى في سجن أبو غريب أعده ضابط برتبة لواء اسمه انتونيو تاكيا”. كانت محطة سي بي إس تنشر بعض الصور ضمن برنامج 60 دقيقةعن التعذيب ، إلا أنها كانت تمارس رقابة ذاتية ، تتعمد عدم إغضاب المراقبة . وهذا تصرف الانتهازيين من الإعلاميين كي لا يفقدوا ثقة الجمهور يقدمون على النشر بتصرف. محطة سي بي إس عرضت مرتين في الأسبوع برنامج 60 دقيقة . ” … أقنعت رَمِنك (رئيس التحرير )بعدم حاجة مجلة نيويوركر أن تعتمد شيئا من برنامج 60 دقيقة ، وأن نشرنا لتقرير تاكوبا سيوفر ملايين الدولارات من تكاليف الدعاية للمجلة”[446 ]. ، “اتصلت بمنتجة البرنامج واخبرتها ان بحوزتي صورا لم يعرضوها وتقريرا ، وإذا متنعت المحطة (سي بي إس)عن نشر الصور في الأسبوع القادم فلن يكون امامي خيار إلا أن أكتب في مجلتنا ان المحطة تمارس الرقابة الذاتية على ما تعرضه. .. اضطر دان راذر مقدم البرنامج للقول “ان سي بي أس مضطرة لعرض الصور لأن وسائل إعلام أخرى تنوي فعل ذلك… ما كان من الصعب أن أخمن أنه امر بأن يأتـي بمثل هذا العذر الأبله لعرض قصة بمثل هذا الأهمية” [447] . ذكر سيمور في هامش (صفحة447و48) مرت سنتان حين التقيت بالجنرال تاكوبا. أخبرني أن رامسفيلد(وزير الحرب الأميركي) كان على قناعة ان تاكوبا قد زودني بنسخة من تقريره. قال أنه طُلِب منه مقابلة الوزير بعد نشر التقرير، وقوبل بالسخرية والاحتقار‘ ها قد حضر الجنرال المشهور تاكوبا …صاحب التقرير المعروف’، قال رامسفيلد اما م عدد من كبار الجنرالات” …. التقينا مرارا، ” ما زلت مأخوذا بأمانته وصدقه وصراحته . أخبرني بألم انه كان مرة بعد ( فضيحة أبو غريب ) في سيارة ليموزين مع الجنرال جون ابي زيد الذي أنيطت به قيادة الحرب المتخبطة في العراق. رفع أبو زيد زجاج السيارة الذي يفصل ما بينهما وبين السائق ، وحذر تاكوبا أنه ذهب بعيدا وعميقا في تحقيقه. ‘ أنت وتقريرك ستخضعان للتحقيق’، أضاف تاكوبا ‘ وهذه هي المرة الأولى التي أشعر فيها وانا أخدم في الجيش مدة 32 عاما أنني ‘ أعمل مع عصابة مافيا’. قال تاكوبا انه أجبر على التقاعد دون الحصول على ترقية ترقية “.[448]أما حقيقة أمر حصول سيمورعلى الوثائق فكانت كالتالي: في مقابلة إذاعية طلبت ممن يسمعني ويعرف شيئا عما جرى في أبو غريب عليه الاتصال بي، وأعطيت رقم هاتف مكتبي…”تلقيت مكالمة من إحدى النساء، والدة إحدى المجندات اللواتي ساهمن في فضائح ابو غريب، ذهبت مباشرة للالتقاء بها… استردت جهاز كمبيوتر كانت قد أهدته لا بنتها قبل ذهابها للعراق بغية تسهيل الاتصالات بينهما. تركت البنت الجهاز في بيت امها حين انتقلت الى سكنها الجديد. قررت الأم بعد أن قرأت فضيحة ووتر غيت ان …تنظف الجهاز فطالعها ملف بعنوان العراق. فتحته فلاحت امامها المئات من الصور الفوتوغرافية لسجناء عرايا وتحت التعذيب. وقف في إحداها سجين مذعور اما زنزانته عاريا وقد غطى بيديه أعضاءه الجنسية، وعلى مسافة قدم منه وقف كلبان بلجيكيان مستعدان لنهشه وقد أمسك بهما جندي مكلف بمهمة التعذيب… وافقت الأم على إعطائي الصور كي أنشرها بمجلة نيويوركر بعد الحصول على عدم معارضة ابنتها المضطربة. [448]

.


توحش الامبريالية أو عار اميركا
“… ثم سُمِع صوت طفل يبكي، وراقب جنود كالي طفلا كان في الثالثة او الرابعة، حمتْه امه بجسدها وغطته حتى لا تصيبه الإطلاقات . زحف الطفل الباكي المغطى بالدماء وخرج من الخندق، فتلاقت عيناه بعيني ميدلّو، وبدأ يركض في حقل الرز. طلب كالي من ميدلو ان يرديه؛ لكن ميدلو الذي اغرورقت عيناه بالدموع حين رأى الطفل وجها لوجه، رفض الأمر. ركض كالي خلف الطفل واطلق النار عليه من مسدسه، فتفجر رأسه وخر صريعا في اوحال الحقل”…
“جنون اصيب بها الجنود وضباطهم وهم يجدون متعة في تمزيق أجساد الأطفال الغضة بحراب بنادقهم الحادة جدا، واستعمال القنابل شديدة الانفجار ، التي تبعثر أشلاءهم المتطايرة في الهواء.”
اختزل جنديان من المفرزة التي قادها الضابط وليم كالي واقترفت جريمة ماي لاي بالفييتنام. نسل جرائم المستوطنين الأوروبيين بالقارة الجديدة . الأرض البكر والثراء الموعود حوّل “المتطهرين” القادمين من إنجلترا الى وحوش كاسرة. هكذا تغير الحرب طباع البشر. وهذا ما استله، من خلف القرون، الدكتور محمد جياد الأزرقي، مترجم مذكرات سيمور هيرش الى العربية، حفر في أعماق المجتمع الأميركي الراهن ، عن جذر التوحش في السياسات الأميركية: “حين وصل كريستوفر كولومبوس عام 1492 كان عددهم [ السكان الأصليون]ما بين 40 و90 مليونا، وحين جاء الإسبان وجدوا 50 قبيلة هندية في الغرب بما فيها شعب بيبلو وكومانتشي وبيمان ويمان، وكانت لهم لغاتهم المتنوعة. جلب الأوروبيون معهم الأمراض كالجدري والحصبة والطاعون والكوليرا والتيفوئيد والدفتيريا والسعال الديكي والملاريا وبقية الأوبئة التي كانت تحصد أرواح السكان الأًصليين. فمثلا كانت السلطات البريطانية توزع عليهم الأغطية الحاملة للأمراض عمدا بهدف نشر الأمراض بينهم.[11] .هؤلاء هم “المتحضرون” يخصون للعرق الأبيض حق الحرية والسيادة.بهذا التاريخ غير المشرف ترفع الإدارة الأميركية جهيرتها دفاعا عن الحرية ، ولكن في اكرانيا!
يكتب هيرش: ” علمت ، وانا أعد تحقيقي الصحفي عن مذبحة ماي لاي ـ أواحر 1969بأن قتل المدنيين (الفييتناميين) الغاشم قد بدأ في وقت مبكر ، بالضبط خلال أيام من وصول قوات مشاة البحرية الأميركية لشواطئ دانانغ ، مارس 1965. آنذاك حدثت مذابح جماعية لم يخبر عنها في حينه. “إن نشر قصة من موقع الحدث عن قتل المدنيين غير المبررأواسط عام 1965 نظر إليه وكانه إشارة لعدم الإخلاص للبلد، وتجاهلته بشكل مباشر العديد من الصحف الكبرى”[218].
قصة خفية دارت حول المحافظة على طياري البحرية في حرب فييتنام . كانت الولايات المتحدة تنفق قرابة المليون دولار لتدريب كل طيار يجيد الهبوط والإقلاع على ظهر حاملات الطائرات. [108]وحين بدا معدل خسارة الطيارين بإسقاط طائراتهم يتزايد لوحظ ان الطيارين يطلبون إحالتهم على التقاعد بشكل متزايد وغير متناظر مع سرعة إعداد من ينوب عنهم.[109]كان آرثر سيلفيستر، السكرتير الإعلامي لوزارة الدفاع، قد أمر كافة الضباط الكبار والمسئولين المدنيين في البنتاغون أن يشعروه بأية زيارة يقوم بها أي من المراسلين . يعني هذا من الناحية العملية ، انه لو ذهبْتُ الى جنرال معين يوم الثلاثاء وحصلت منه على معلومات وكتبت عنها في اليوم التالي، فإن مكتب سيلفرستون سيكون على علم بذلك، سواء ذكرت اسم الجنرال ام لم أذكره، وسيعرف مصدر معلوماتي لكتابة تقريري… بات عليّ أن أزور عددا من الجنرالات والأدميرالات لعدة أيام بأعذار واهية لغرض التعتيم على مصدر معلوماتي[113].
جهدت الصحف لتبرير جرائم الحرب الأميركية.”جرت مناقشة حامية في البرلمان البريطاني حول جرائم كالي، التي توسعت مجلة تايمز بنشرها والتعليق عليها. في الحقيقة أن تايمز كانت المنبر الإعلامي الوحيد الذي أرسل مراسلا الى قرية ماي لاي والقرى المجاورة، التي كانت قبل الحرب منطقة حقلية زاهية بتجمعاتها الفلاحية على ساحل بحر الصين الجنوبي. يبدو أنه نقل بالطائرة الى منطقة لتجميع الناجين من المذبحة، وكتب تقريرا مطولا نشر يوم الحميس 13 نوفمبر / تشرين ثاني، أتى فيه على شهادات الناجين الذين اكدوا مقتل 567 ضحية من الشيوخ والنساء والأطفال على يد القوات الأميركية. برزت شكوك واسعة حول قصتي اثارتها بعض الصحف ، بما فيها واشنطون بوست، التي اتت على المصاعب الجمة التي يواجهها الجنود الأميركيون، وهم يخوضون حرب عصابات ضد عدو “يتظاهر بأنه يضم فلاحين خلال النهار ومقاتلين في الأوقات الأخرى”. [207].
” نيل شيهان ترك وكالة أسوشييتدبرس ليعمل بصحيفة تايمز اللندنيةعام 1964.عيّن لأشهر قليلة مراسلا في البنتاغون.، توطدت العلاقة فيما بيننا…لم أكن أتصور مبلغ ذهوله ، باعتباره مراسلا حربيا لا يخشى مجابهة تصرفات حكومته، حين وجد ان “الصحفييين في قاعة إعلام البنتاغون ضعفاء متخاذلين”[118]. اولئك الصحفيون يجدون الجسارة لكي يتضامنوا مع حرية أكرانيا!
تحت عنوان عار أميركا – الفصل العاشر من مذكراته، تحدث هيرش عن مذبحة ماي لاي. يقول انه اتصل بعدة مجلات لنشر قصته عن المجزرة واعتذرت عن النشر .”شعرت بالألم يعصرني للرقابة التي فرضها زملائي عليّ، ويريدون إلزامي على الإقرار بها…شعرت بالحاجة الى محام ليراجع ما كتبت خوفا من أن يقيم علي أحد دعوى ويجرجرني الى المحاكم مطالبا بتعويضات مالية”[200]. اتصل بزميل سابق في كلية الحقوق التي لم يكمل هيرش الدراسة فيها، وهو ناقد لحرب فييتنام. قرأ المحامي القصة واقترح بعض التعديلات الطفيفة ، “وأخبرني أن مكنتب المحاماة سيقف الى جانبي إن تعرضت لأية مشكلة قانونية[200].
تلك هي الدلائل على المجتمع الأميركي “المفتوح” و”الديمقراطي” ، لا يضن على احد الحق في حرية التعبير عن الضمير !!
طبيعي ان تستنفر صحف التيار الرئيس بالولايات المتحدة كل الذرائع لتسويغ جرائم الحروب الامبريالية. لكن ، لماذا نشر الجيش غسيله الوسخ حول جريمة كالي؟ الجواب عند رايدنأور. فمن هو راينأور؟ يقول ديفيد أوبِست، مسئول وكالة ديسباتش وصديق لهيرش: أسرع سيمور الى التلفون وبدا يستقصي عن الشاب…ثم. خطط أن يستقل الطائرة الى لوس أنجلس لمقابلة رون(رايدناور). ويكتب سيمور:
“وصلت يوم الاثنين الى القسم الداخلي لكلية كليرمونت حيث سكن رون أيدناور؛ ذهبنا سوية لتناول لغداء. من المدهش ، وربما ليس من المدهش انني أول صحفي يقابله وجها لوجه…تحدثنا لمدة خمس ساعات. لم يكن مشاركا في الهجوم على قرية ماي لاي ولم يساهم في المذبحة….ذكر انه كان في طائرة مروحية حامت حول منطقة ماي لاي أواخر شهر مارس / آذار 1968، ولا حظ خرابا غير معهود. كتب فيما بعد :‘ لم أسمع تغريدة طائر’. توفرت لديه فيما بعد معلومات مباشرة عن الجريمة حصل عليها من خمسة أفراد من فصيل كالي… كتب رايدنأور رسالة مفصلة من الفي كلمة ضمنها أسماء ورتب الضباط والجنود، الذين ساهموا في ارتكاب المجزرة، وبعثها الى اكثر من 30 مسئولا في واشنطون، منهم الرئيس نيكسون و 15من مجلس الشيوخ وخمسة أعضاء يمثلون ولاية اريزونا في مجلس الشعب والى وزارة الخارجية والبنتاغون ورئيس أركان القيادة الموحدة. أنكر 22 مسئولا ممن ذكروا انهم استلموا رسالة رايدنأور، لكن الرسالة فعلت فعلها. اتصل به ضابط من وزارة الدفاع وقال نحن ندقق في المعلومات. لم ينتظر؛ قرر نشر القصة في عدة صحف ومجلات. أعطاني رون أسماء وعناوين الشهود الذين تحدث معهم. اقترح علي أن أقابل اثنين من هؤلاء ، هما مايكل تَري ومايكل بَرنهارت. تسرح الأول من الجيش، والثاني موجود في ثكنة عسكرية داخل الولايات المتحدة .
ودعت رون وتمكنت من حجز مقعد على طائرة ستغادر في وقت متأخر من المساء الى صولت ليك سيتي . أدركت انني عثرت على صديق مدى الحياة ، شجاع وكريم اسمه رايدناور، الذي أصبح فيما بعد صحفيا ونال جائزة جورج بَولك عام 1987[210] . يود هيرش مقابلة مايك تَري ، الذي يقيم يصولت ليك سيتي.
هنا يختبر معدن الرجل: شجاع يتجشم المخاطر بحثا عن الحقيقة ، لا يردعه مانع أو عقبة دون ان يلاحق إجحافا بإنسان او شعب، بغض النظر عن العرق أو اللون او الدين. التقصي الصحفي لديه نضال متواصل ضد الظلم والعدوان. مثابر لا يكل او ييأس في التقصي. كتب عنه الدكتور الأزرقي بمقدمته للكتاب: انطلق هيرش من عبارة وردت في تقرير صحفي التيمز الراحل ‘ إن عصابات الجريمةالمنظمة يقودها 9 إيطاليين ويهودي واحد’، “وهذا ما جعل هيرش يعد تحقيقا صحفيا ينشره في أربعة أجزاءعن ذلك اليهودي المسمى كورشاك. ‘ ما كنت أتابع ضابط مخابرات رفيع المستوى، بل شخصا مدفونا بعمق داخل الدوائر الرسمية الأميركية في واشنطون…كان هدفي أبعد من المحامي كورشاك ، صانع الصفقات لدى الشركات الاحتكارية ، التي ساعدته ووفرت له الحماية “[36و37].
استأجر هيرش سيارة من المطار وتوجه الى حيث يقيم تري في مدينة تبعد45 ميلا الى الجنوب.”هبت عاصفة ثلجية شديدة وانا أقود سيارة استأجرتها في المطار على طريق مظلم متعرج تغطيه الثلوج في منطقة جبلية لا أعرف عنها شيئا. حين وصلت المدينة بعد جهد جهيد كانت الأضواء مطفأة. قدت سيارتي على غير هدى حتى عثرت على محطة وقود ، فحصلت على معلومات حول كيفية الوصول الى العنوان…. كان تصريح تري لي قد تصدر السطور الأولى على الصحف حول العالم. قال:‘ يمكن القول انني كنت شيئا أشبه بحندي نازي”. قال ذلك وهويصف الخندق الذي رموا فيه النساء والأطفال والشيوخ، وبداوا بإطلاق النار عليهم وإبادتهم جميعا . سجلت ملاحظاتي لفترة ساعات ، وهو يستعيد ما جرى ذلك الصباح الحزين”[211].
رجع سيمور الى مدينة صولت ليك ومنها طار الى فيلادلفيا واستأجر سيارة توجه الى قاعدة دكسي في نيو جيرسي، لمقابلة مايكل بَرنهارت. “كذّب ، كما فعل قبله رايدناور، وتَري قصة رستي كالي المفبركة حول هجوم مزعوم . كشف الثلاثة تفاصيل مرعبة عن الحادت جنون اصيب بها الجنود وضباطهم وهو يجدون متعة في تمزيق أجساد الأطفال لغضة بحراب بنادقهم الحادة جدا، واستعمال القنابل شديدة الانفجار ، التي تبعثر أشلاءهم المتطايرة في الهواء.”[212] .
كنت على ثقة بأنه توجد قصة أخرى ، كما اعتقدت ستضع حدا لمقاومة الحقيقة حول ما جرى في ماي لاي. برز اسم باولو ميدلّو أثناء الحديث مع تري وبرنهارت ، يعيش في قرية بولاية إنديانا.، والذي افرغ مخازن رصاص بندقيته الأوتوماتيكية مرة تلو أخرى بامر من كالي، في أجساد النساء والأطفال الذين تم تجميعهم على الطريق الفاصل بين حقول الرز، ثم تم الإجهاز عليهم جميعا… داس ميدلو في صباح اليوم التالي على لغم تسبب في بتر قدمه اليمنى، أخذ يولول ‘لقد انتقم الرب مني وسينتقم منك أيضا ، أيها الملازم كالي’…”[213].
يكتب هيرش : “أمضيت ساعات طويلة وانا أتصل بمكتب معلومات ولاية إنديانا؛ بدأت بمدن الشمال بحثا عن اسم ميدلو، فوجدوا اسما مشابها في قرية، اتصلت بالرقم مباشرة فتبين انه فعلا منزل ميدلو، وأن المراة التي ردت على المكالمة هي امه، قالت انها لا تمانع ان أحضر لزيارتهم…. لا أذكر كيف وصلت؛ أعتقد انني طرت الى إنديانَا بوليس عن طريق شيكاغو، وقدت لمدة ساعتين سيارة استأجرتها وتوجهت شرقا. وصلت الى حقل ميدلو في منتصف النهارتقريبا.[213] . كوخ متداعي مسنود سقفه بألواح متداعية.
استقبلته الأم وقالت :‘أرسلت لهم ولدا يافعا غرا، فجعلوا منه قاتلا’. “بدا لي باول وكانه آلة تبدأ الحركة بالضغط على زر وتتوقف بالضغط على الزر ثانية…قال انه قتل العدد الأكبر(تلقى الأمر من كالي) وأفرغ مخزن بندقيته الذي يحتوي على 17إطلاقة أربع او خمس مرات حتى خيم الصمت على كل من كان بالخندق. ثم سمع صوت طفل يبكي، وراقب جنود كالي طفلا كان في الثالثة او الرابعة، حمتْه امه بجسدها وغطته حتى لا تصيبه الإطلاقات . زحف الطفل الباكي المغطى بالدماء وخرج من الخندق، فتلاقت عيناه بعيني ميدلو، وبدأ يركض في حقل الرز. طلب كالي من ميدلو ان يرديه؛ لكن ميدلو الذي اغرورقت عيناه بالدموع حين رأى الطفل وجها لوجه، رفض الأمر. ركض كالي خلف الطفل واطلق النار عليه من مسدسه، فتفجر رأسه وخر صريعا في اوحال الحقل”[214-15].
امضى هيرش بقية الليلة في كوخ ميدلو، يسجل ما سمعه. سمع من زوجة ميدلو ان الحياة اصبحت صعبة بعد رجوعه .استيقظت في إحدى الليالي على صراخ طفلها الذي ولد أثناء غياب والده. اندفعت الى غرفته ووجدت بول ممسكا به ويهز الطفل المرعوب هزا عنيفا. وتكررالحادث اكثر من مرة . لم يضيع الوقت اتصل هيرش بصديقه ديفيد أوبِست، بوكالة ديسباتش وتم الاتفاق على إجراء مقابلة مع ميدلوعلى شاشة محطة سي بي إس ، على ان تدفع الفضائية اجرة سفر ميدلو مع زوجته بالطائرة الى نيويورك وتأمين إقامتهما ليلة واحد بفندق فخم . وافق ميدلو على العرض. وجد سيمور وديفيد أن من غير اللائق عرض مبلغ مالي على ميدلو حفذلك يعتبر رشوة تلقي الشكوك على الإفادة.
” لقد غيرت اعترافات بول ميدلو امريكا بالطريقة التي كنا ، انا وديفد أوبِست نريدها. ظهر بول ميدلو على شاشة تلفزيون سي بي إس يوم 24 نوفمبر، وفي نفس اليوم أعلن البنتغون عن التهم الموجهة الى كالي بقتل109 مواطنا فييتناميا بالعمد.اختار نيكسن ان يعلن في نفس اليوم ان اميركا ستوقف من جانبها استعمال الأسلحة الجرثومية، حتى في حالات الرد الانتقامي”[317].
” كان مقررا أن القي محاضرة في جامعة تولين بمدينة نيو أورليانزفي فصل الشتاء. قبل ذلك التاريخ نشرت صحيفة بيكايون تايمز ، صحيفة المدينة الصباحية على صفحتها الأولى مقالة طبعت عنوانها باللون الأحمر، إشارة الى المتعاطف الشيوعي الذي سيلقي محاضرة بالجامعة بعد أيام. وطبعا اعتبرت ذلك مسألة احتجاج ضد مجيئي الى الجامعة المذكورة. زادت المقالةالاهتمام بمحاضرتي كثيرا، ووجدت نفسي أتحدث الى ‘بحر من المستمعين’،لاحظت بينهم عددا من محاربي فييتنام، لآنهم لبسوا سترات فاقعة اللون وتحمل شارات( في في أيه دبليو)[ مقاتلون سابقون مناهضون للحرب في فييتنام]. خطرت لي فكرة . بدات بسؤال إن كان بين الحضور في وحدة الطائرات المروحية في معارك فييتنام خلال الفترة1968- 69 بالقرب من كوانغ كاي القريبة من ماي لاي. رفع عدد ايديهم وطلبت من أحدهم ان يأتي ويقف بجانبي على المسرح، وشرعت أوجه له الأسئلة:
-أليس حقيقة ان بعض طياري المروحيات في ذلك الوقت، وبعد إنجاز مهامهم، يبداون بملاحقة الفلاحين في حقولهم؟ وإذا شاهد طيار واحدا من هؤلاء هل يبدأ بالطيران المنخفض؟ وطبعا سيبدأ الفلاح المرعوب الهروب من الحقل، وتطير المروحية على ارتفاع منخفض جدا أكثر فأكثر، ويحرف الطيار زاوية طيرانها قليلا لكي تقطع ريش/ أذرع المحرك رأس ذلك الضحية؟ خيم على الحضور سمت مطبق! قال انه لم يفعل ذلك بنفسه. اكدت له ان سؤالي ليس عنه ، بل عما تفعله الحرب بالناس الخيرين احيانا .
قلت هل لديك فكرة عمن يمسح ريش المحرك ويزيل الدم عنها قبل الرجوع الى القاعدة؟
بدأ الرجل يعطي جوابا تفصيليا. …وجدت نفسي أقول يدفع الطيار أو مساعده بعض المال لأحد الفييتناميين لمسح الدم من الريش.. ما أحببت إطلاقا حواري مع ذلك الجندي، الذي كان بالغ الأمانة؛ لكنني أردت بطريقة ما ان أكيل الصاع صاعين لمن كتب المقالة عني في صحيفة بيكايون تايمز [222].
لم تنته مهمة هيرش في هذا السياق؛ لا بد من البحث عن الملازم كالي، الموجود في قاعدة ما . حنكة ورباطة جأش وعناد ساعدت هيرش في مهمته.


مثال استلهمته إسرائيل أم هي الغريزة العدوانية؟
تطالع في مذكرات سيمور هيرش تلك الفقرات المتعلقة بمكافأة القيادات العسكرية على جرائم القتل الجماعي والاغتصاب والتدمير العشوائي بفيتنام، فيتبادر للذهن ما أورده إيلان بابه في السياق ذاته، في كتابه “ألتطهير العرقي في فلسطين”؛ فارق التهجيرواغتصاب الأملاك المنقولة وغير المنقولة هو نصيب الفلسطينيين.كما أن عدد المتعاونين مع بابه في تقصياته أقل من أضرابهم بالولايات المتحدة ؛ وهذا العدد الضئيل كاد يتلاشى في الأوقات اللاحقة بفعل التربية الهادفة.
أورد بابه على صفحة220: “شموئيل لاهيس اعدم خمسة وثلاثين شخصا؛ أحيل الى المحاكمة، وأصبح لاحقا المدير العام للوكالة. القائد العسكري دوف برمياهو ، الذي شارك في التطهير العرقي ما بين أيار ويوليو 1948، كان واحدا من الذين راعهم ما أدركوه لاحقا من عمليات أدت الى التطهير. شرع في الاحتجاج بشدة على الأعمال الوحشية التي كان يشاهدها او يسمع عنها ؛ كان هو من قدم لاهيس الى المحاكمة، وحكم على لاهيس بالسجن سبعة أعوام؛ لكن رئيس الدولة عفا عنه على الفور تقريبا وأعتقه، وارتقى لاحقا الى مناصب عليا في الحكومة”. أخضعت مراكز الاعتقال( لفلسطينيين أثناء الحرب وبعدها) لحراسة جماعة الأرغون وشتيرن( بقيادة الفاشيين بيغن وأتباعه). كانوا لا يتورعون عن أعمال القتل لأتفه الأسباب.”… أدين ضابط سابق في الهاغاناه يدعى بيسكا شدمي يقتل سجينين فلسطينيين، بقي بالجيش لتوكل اليه مهمة إرهابية في كفر قاسم عام1965، حيث أمر بقتل تسعة وأربعين من سكانها، وأدين بدفع قرش غرامة!!…. تكشفت جرائمه عن سمتين ما زالتا موجودتين حتى الآن : من يدانون بارتكاب جرائم ضد العرب من الأرجح ان يستمروا في شغل مناصب ذات تأثير كبير في حياة الفلسطينيين؛ والثانية ان لا يحاكمون على جرائمهم… كتب ضابط في الجيش اقلقه ما شاهده في معسكرات الاعتقال ،‘ ان السلوك البربري الوحشي الذي تكشف عنه هذه الحالات ‘يقوض الانضباط العسكري’.”[230] . يشغله فقط الغيرة على الانضباط العسكري وليس قتل المدنيين الفلسطينيين! تطرق بابه الى حالات الاغتصاب في القرى والمدن المحتلة، وكتب : ” كان بن غوريون يسمع ويكتفي بتسجيلها ، نشرت صحيفة هآرتس في 29 تشرين اول 2003 أن اثنين وعشرين جنديا شاركوا في عملية اغتصاب بربرية لفتاة اختتمت بالقتل، وكان أقسى حكم أنزل بالمعتدين سنتا سجن لمن قتل الفتاة. سجلت الحادثة في مذكرات بن غوريون.[238].
نعود الى ما كتبه هيرش في استقصاءاته، لنجد التماهي بين جرائم الحرب. التقصي الصحفي أو الفكري مهمة كل من يمتهن الإعلام ؛ يتوجب عليه البحث عن الحقيقة وإيصالها الى الجمهور. ونظرا لأن المال يفسد الباحثين عن المعرفة ، والأغلبية الساحقة من المسئولين في جميع بلدان العالم يضيقون بالنقد، فإن الإغراءات تلوح للصحفيين والمثقفين الباحثثين ؛ فيقايضون الحقيقة والوعي العام بامتيازات خاصة أو على الأقل ابتسامة المسئولين، ويرددون كالببغاوات ما يصدر عن المسئولين. فرضت نفسها مهنة صحفي التقصي تتأبى على الإغراءأو الترهيب، تخترق الحواجز المانعة وتكشف ما يحرص المسولون على إخفائه . في هذا الصدد كتب سيمور:
أتصل بي في مطلع عام 1970 ضابط كبير شارك في التحقيق الموسع، الذي طلبه الجيش حول مذبحة ماي لاي. كان مقتنعا بوجود تستر على الجريمة، وأن بإمكان منتسبي فصيل كالي أن يعطوا تفاصيل أكثر عن الأهوال التي يصر العقداء والجنرالات، في خط تسلسل الرتب العسكرية الأعلى لفصيل كالي ، الذين يصرون على إنكار معرفتهم بحصول المذبحة. أخبرني الضابط أن لديه شك قليل في أن التحقيق المبدأي الذي أعقب المجزرة كان حافلا بالأكاذيب، التي تم قبولها دون إثارة أي سؤال على كافة مستويات الفرقة العسكرية، وأنه يريدأن يفصح عن الحقيقة. [227]لقد تم وضع ما توصلت اليه هيئة بيرز للتحقيقات في 40 مجلدا من الشهادات والاستنتاجات وسلمت في مارس / آذار 1970 او وضعت تحت الرعاية السرية، ولم يسمح لأحد الاطلاع عليها . قرر أحد أصدقاء هذا الضابط ان يأتي إليّ بتلك المجلدات من مكتب الطباعة في البنتغون. كانت زوجته تأتي بسيارتها للعمل في مكتبها وسط مدينة واشنطون، ونقلتها اليّ خلال صباحات بعض أيام العمل الأسبوعية في الأشهر القليلة التالية. نقلتها جزءً ا فجزءًا حسب تسلسلها الرقمي. اعيد جزءًا وأتسلم جزءًأ. استأجرت ماكنة استنساخ ورحت أنسخها . فعلت ذلك في نفس الوقت الذي كنت اكتب فيه تقاريري ، وأراجع مخطوطة كتاب ماي لاي. [227-28]قرأت المقالات وازدادت مشكلتي لأن الأدلة واضحة والمحققون لم يقوموا بواجبهم عند اطلاعهم على المذبحة التالية بعد 16 مارس 1968مباشرة. كانت وحدة تشارلي بقيادة مدينا واحدة من ثلاث وحدات تكونت منها فرقة برافو للعمليات السريعة بقيادة باركر ، والتي كانت نشطة في ذلك اليوم . صدرت الأوامر للفرقة بمهاجمة قرية ماي خي 4 . حل بهذه القرية ما حل بالتي قبلها ، ولكن على مستوى أقل. أحرق جنود هذه الفرقة واغتصبوا وقتلوا كيفما شاءوا ، رغم انه لم تكن هناك أدلة على وجود قوات معادية في القرية أو محيطها …. “[228].
أمضيت الشهور التالية وأنا أحاول استيعاب محتويات الأجزاء الأربعين من تقريرهيئة بيرزعن ماي لاي’، التي لم يطلع عليها الرأي العام بعد. استطعت التوصل الى بعض الاستنتاجات المرعبة بعد التمعن بأكثر من 400 شهادة امام الهيئة المذكورة . اوصت الهيئة بتوجيه تهم إجرامية بحق 14ضابطا ، بينهم اللواء صموئيل كستر، قائد الفرقة الأميركية الحادية عشر، فرقة برافو، باعتباره مسئولا عن تصرف القوات التي تحت إمرته، بمن فيهم النقيب أرنست مدينا ، قائد وحدة تشارلي. تمت تبرئة مدينا في المحكمة العسكرية، ورقي الجنرال كستر وأصبح قائد الأكاديمية العسكرية في وست بوينت، وقت بدأْتُ انشر تقاريري في وكالة ديسباتش، وان مشاركته في الفضيحة قد زادت من الكابوس الذي عاشه الجيش والبنتغون ، والرئيس نيكسون، الذي استمر في تصعيده للحرب . الضابط الوحيد الذي حوكم عسكريا وحكم عليه وفق قرار محلفين من أقرانه وقضى وقتا خلف القضبان هوالملازم وليم كالي. حكم على كالي بالسجن مدى الحياة مع الأشغال الشاقة لقتله عمدا 22 مواطنا مدنيا من الفييتناميين. صدر الحكم في يوليو/ تموز 1971. امر الرئيس نيكسون بنقله في اليوم التالي من السجن العسكري في لفننوت بولاية كانزاس الى الإقامة الجبرية في قاعدة بننغ. اطلق سراحه في فبراير1974 من الإقامة الإجبارية خلال النظر في استئناف الحكم. قررت محكمة الاستئناف تثبيت الحكم، فأعيد كالي الى السجن العسكري ذاته بتاريخ 13 يوليو1974، وأطلق سراحه بتاريخ 25 سبتمبر/ أيلول1974، بموجب أمر العفو الصادر من الرئيس نيكسون. هكذا امضى كالي خلف القضبان ثلاثة أشهر و13 يوما فقط جزاء قتل 22 مدنيا بدم بارد.[هامش 233]. لقد فشل نظام العدالة العسكرية ، لأن عددا من الجنرالات الذين أصابتهم شرور الفضيحة استمروا في الخدمة واستمرت حرب فييتنام بعنفها الذي استهدف المدنيين. استمر إحصاء اعداد الفتلى من الجانبين كمؤشر على نجاحها …في شهادة كستر أمام الهيئة نشر مكتبه 7 صفحات احتوت على ‘معايير استخدام الأسلحة النارية واستعمالاتها في مناطق تواجد المدنيين’ ؛ غير أن إصدار تلك التعليمات لم يكن أكثر من تمثيلية سمحت للنظام ان ينظر الى القتل والاغتصاب وحرق الممتلكات وغيرها من جرائم الحرب كمخالفة للتعليمات فقط. اختار القادة في ماي لاي وغيرها من مناطق فييتنام سلوكا واحدا تكرر المرة تلو الأخرى خلال تلك الحرب ، وهو النظر الى قتل المدنيين ليس باعتباره جريمة حرب وتحمل المسئولية المهنية عن تنفيذها… [233] .
البينات تترى على جرائم أخرى بقيت مجهولة . “اتصل بي محارب سابق في فييتنام شغل وظيفة جندي كاتب في مقر الفرقة الأميركية في يوليو1969 ، حين هاجمت طائرات مروحية امريكية قريتين فقتلت 10 مدنيين وجرحت 15 آخرين في منطقة هادئة لم تصلها الحرب. أصدر اللواء لويد رمزي قائد عام الفرقة ، بناء على شكوى من فييتناميين ثلاث رسائل توبيخ لثلاثة من الطيارين الأربعة . لقد ارتكب هؤلاء مخالفة للتعليمات… رقي الضابط رمزي الى رتبة مارشال، أصبح الأن هو الضابط المسئول عن عمليات الانضباط العسكري في كافة وحدات الجيش الأميركي. … كان الجندي قد استنسخ ملفات الجنود الثلاثة وحملها معه الى ولاية ساوث داكوتا . أعطاني الجندي الكاتب نسخ الملفات المذكورة… تطلب الأمر مني عدة أشهر لأصل الى الجنرال رمزي وبعض الطيارين الذين شاركوا في الهجوم. كتبت مقالة في 12 ألف كلمة لمجلة نيويوركر ، ختمت المقالة باقتباس من محام عسكري رفيع قال بأن ضباطا من قبيل رمزي قد وجدوا أنفسهم أسرى ‘ نظام للقواعد والتعليمات ليس لها علاقة بما يجري في فييتنام . إنها أشبه بالوصايا العشرة موجودة ولا احد يريد ان يعيرها انتباها… لقد وقعنا في فخ نظام وضعناه لأنفسنا.”[234] .
من بين شهود هيئة بيرز كان القس كارل إي كروسوَل من الكنيسة الأسقفية، عمل مع الفرقة الأميركية وقت مذبحة ماي لاي، واستقال إثر المذبحة. قال أمام هيئة التحقيق:” لقد اصبحت على قناعة ان القضية قدر تعلق الأمر بالجيش الأميركي ، لا يوجد شيء حول قتل مدنيين فييتناميين. انا آسف لأن هذا الادعاء مثار للسخرية؛ ولكن هذه هي الطريقة التي يجري عليها النظام”. … التقينا في ابرشيته في مدينة إمبوريا بولاية كانزاس. اخبرني أنه نقل أواخر عام 1967 للعمل مع كتيبة مشاة كانت في طريقها الى ساحة الحرب في فييتنام على ظهر سفينة حربية . اضطرت السفينة ان تخفف من سرعتها بسبب الأمطار الغزيرة والرياح العاتية . نادى العقيد المسئول عن الرحلة القس كروسوَل وقال :‘ ابانا ، لماذا لا تطلب من صاحبك ان يفعل شيئا حول هذا الطقس؟ ضحك الضباط الذين كانوا حوله؛ تذكر القس ما قاله في حينه، ‘ لا أعتقد ان الرب في عجلة ليساعدنا ان نسرع في الوصول الى فييتنام كي نقتل البشر’. اطبق الصمت على الحاضرين، وفي ذلك المساء رفعوا اسم كروسوَل من قائمة الحضور الى مائدة العقيد القائد لتناول العشاء”.[247]رأى سيمور ان من الضروري مقابلة الملازم أول كالي ، ولكنه مجهول الإقامة برعاية القيادة العامة للجيش. ادرك أن مجرم الحرب، الملازم أول كالي، موقوف برسم المحاكمة، وأدرك في ذات الوقت ان العقوبة لن تكون بقدر الجريمة. يعرف القضاة ما عرف ب ” تعليمات معايير استخدام الأسلحة النارية واستعمالاتها في مناطق تواجد المدنيين” ، التي لم يلتزم بها أحد. فضل سيمور هيرش طرح قضية كالي على الرأي العام ، كي يعي ما هي الحرب.وكلفه الأمر مشقة منهكة ووقتا من التجوال بقاعدة تبلغ مساحتها قدر مساحة مدينة نيويورك.
” جاء التلميح الأول يوم الأربعاء22 أكتوبر، حين تحدث معي محام شاب كتب مقالا انتقد الحرب بمجلة فلج فويس. قال ان الجيش يستعد بقاعدة بيننغ في جورجيا لمحاكمةعسكرية حول مقتل 22 مدنيا في فييتنام[175]. … كانت محاضرتي عن أخطار الحرب الكيماوية والجرثومية قد مكنتني من الاتصال بقادة الحركة المناهضة للحرب في أماكن مختلفة من البلاد. …تلقيت تقريرا تضمن مقتطفات من الصحف والمجلات الأميركية الصادرة بين عامي 1966و 1967 شملت القتل الروتيني لأسرى الحرب والقتلى من النساء والأطفال والشيوخ برمي القنابل اليدوية عليهم بعد ان يفروا هربا ويلتاذوا بأكواخهم.[176] . بعد إلقاء محاضرتي في بيركلي عام 1969 تقدم مني جو نيولاند ، استاذ الكيمياء العضوية في جامعة كاليفورنيا، كان قد زار فييتنام لصالح محكمة براتراند رسل حول جرائم الحرب التي عقدت جلساتها في كوبنهاغن، والتقى بثلاثة عسكريين اطلعوا على جرائم الحرب. قال أحد العسكريين الشهود “غالبا ما تكون ‘لحظات جنون’ شارك خلالها جنود اميركيون بما فيهم مسئولو المدافع المثبتة على الدبابات بإطلاق النيران على تلك القرى، وصبوا ‘جحيما عنيفا ‘على كل شيء يتحرك في تلك القرى، ‘افترضنا وجود قوات الفيتكونغ بينهم، حتى يثبتوا عكس ذلك’. لم أجد دليلا على أن الإعلام قد بذل جهدا لمتابعة ما ورد في الشهادة واتهاماته . الرد المألوف هو الهجوم السام من قبل سالزبيرغر، المعلق بصحيفة نيويورك تايمز على محكمة رسل/ الفيلسوف وعالم الرياضيات الحاصل على جائزة نوبل والبلغ من العمر 96 عاما. كتب سولزبيرغر ‘إن رسل قد تجاوزعمر ضميره’ بمعنى أنه ‘أصيب بالخرف، هو وأقرانه الذين نصبوا ما يسمونه محكمة’ “[177].
كيف الوصول الى كالي؟ ما بذله سيمور من جهود حثيثة ، وما بحثه في السجلات أو سافر من أجله الى مختلف الجهات يفصح عن رجل معني بالحقيقة ويحترم جمهوره ويقدر مهنته. كان من الأفضل ذكر تفاصيل الجهود لو سمح المجال، على أن تؤجل لحلقة لاحقة إن استدعى الأمر. باختصار غير مخل قام بالمهام التالية:
-مراجعة “المحكمات العسكرية كافة ، التي جرت حديثا في كافة المعسكرات الأميركية حول العالم والموجودة سجلاتها في مكتبة البنتاغون”، بدون جدوى؛
هو لا يبدأ حين الحديث بالقضية التي جاء من أجلها ، ويضبط نفسه وهو يصغي الى حديث يتعتلق بقضيته موضع التقصي، كي لا يشعر المتحدث انه مهتم بالموضوع؛
– صدفة التقى بضابط كبير عرفه سابقا نسب ليكون مدير المكتب العسكري للجنرال ويستمورلند الذي عاد لتوه من فييتنام. التقى صحفي تقصي مع ضابط شريف.
-انطلاقا من حديث الضابط راجع أشرطة الصحف المسجلة فعثر على الصفحة 38 من صحيفة نيويورك تايمزالصادرة يوم الأثنين 8 سبتمبر/ أيلول، معلومات عن ضابط مشاة يبلغ من العمر 26 عاما ، اسمه وليم .ل. كالي، الابن، من مدينة ميامي، متهم بارتكاب جرائم قتل ‘ عدد من المدنيين’ دون أن يثير الخبر اهتمام احد من الصحفيين !
– في مكتب صديقه العامل في مكتب ريفرز، عضو لجنتي الخدمات العسكرية بالكونغرس، تحدث عن كالي فحذره صديقه انها قضية خطرة لا يقترب منها.
– اتصل بمكتب الاستعلامات في قاعدة بيننغ ، وسأل “سؤالا بريئا عن الضابط المسئول عن التوجيه في محاكمة كالي العسكرية” اجيب ب “كذبة مفضوحة”، وشعر بأن “قصة وليم كالي ، الذي أجهل مكان تواجده، سيكون لها تأثير على تغيير قواعد اللعبة. كنت عازما على أن أكون أول صحفي يعثر عليه”
-. توجه الى صديق قديم ، المحامي كوان، تخرج حديثا من كلية القانون بجامعة ييل… . طلب منه اسم محامي كالي. “اتصل بي كوان بعد يومين، وأخبرني ان اسم المحامي هو لِتمر، ولم يزد على ذلك شيئا”.
– وجد محام بذلك الاسم في واشنطون في دليل تلفونات العاصمة، أبلغه عن محام آخر اسمه جورج لتِمر، وهو قاض متقاعد في محكمة الاستئناف العسكرية.
– اتصل به هاتفيا ورد بأنه فعلا محامي للضابط كالي ، وان “قضيته إجهاض للعدالة”. اتفقا على الالتقاء في مكتب المحامي في مطلع نوفمبر .
-.لم يكن بحوزته ما يكفي لسداد أجور السفر، حيث مكتب المحامي على الساحل لغربي؛ توجه الى فِلِب شتيرن، المناهض المعروف للحرب بواشنطون، خصص بعض الأموال لمنح تستخدم لإجراء تقارير صحفية استقصائية. حصل منه على ألف دولار، “منحة مؤسسة الصحافة الاستقصائية”.
-وصل مكتب لتمر في حدود العاشرة. كانت لوحة اتهام الجيش لوليم كالي الإبن ، بالقتل المتعمد لمائة وتسعة أشخاص، “وصفهم من أصل آسيوي شرقي زاد من ألمي”. “طرت عائدا الى واشنطون يتملكني شعور بأنه يجب أن أعثر على كالي والمكان المحتمل هو قاعدة بيننغ”.
-وصل قاعدو بيننغ الكبيرة بحجم مدينة نيويورك وبدأ البحث. كان يدعي أنه يريد مساعدة كالي الواقع في ورطة وهو بريئ . طاف على السجون، ولم يجد اسمه على قائمة ؛ اتصل من هاتف عمومي بأندية القاعدة يسأل، حتى الظهيرة لم يعثر على كالي. .. ساعات قطع خلالها مسافة 100 ميل تقريبا؛ وراجع محطات تزويد الوقود ودليل الضباط في قاعة المشاة ولم يتلق ما يفيد عن كالي؛ قرر التوجه الى مركز الادعاء العسكري، كان خاليا إلا من عريف ، اختفت ابتسامته حين سمع اسم كالي . طلب منه الانتظار ريثما يتصل بالعقيد المسئول . “استدرت وبدأت امشي لكن العريف بدى عليه الاضطراب واخبرني اني لا أستطيع مغادرة المكان. ركضت بأقصى سرعتي الى خارج المكتب باتجاه الشارع، لأنني ما كنت ارغب أن يطردني العقيد من القاعدة قبل إكمال مهمتي”.
– تناول همبرغر وشرب كولا في كافتيريا القاعدة. .تذكَّر ان دليل الهاتف بالقواعد العسكرية يحدّث كل أربعة شهور . اتصل بعاملة الهاتف وطلب منها ان توصله بالمراقب. عرف من العاملة ان اسم كالي ورد بالإضافات وأبلغته اسم كالي ورقم هاتفه ومكان إقامته .
– دخل غرف النوم بالطوابق الثلاثة للبناية ، ولم يجد غير شاب يغط في نوم عميق ، أيقظه وعرف انه ليس من يبحث عنه ، وعرف منه انه يسلم الرسائل الواردة لكالي الى صديقه سمِتي في مقر الفيلق. رافقه في سيارته ليدله على مقر الفيلق، وأعاده هيرش الى موقعه .
-التقي بسمِتي ، الذي تطوع بإحضار ملف كالي.نسخ منه لائحة الاتهام ، ثم توجه الى منزل كالي . وجد ثلاثة ضباط برتبة ملازم ثان أخبره أحدهم المفاجأة : “ضابط صغير متهم بجريمة قتل جماعي متخف في جناح لسكن كبارضباط الجيش!”…وصلت من واشنطون الخامسة من صباح ذلك اليوم، وها اني متعب وجائع في الثامنة مساء. دله الضابط على شقة كالي . تبادل معه الحديث و”عرف موقفي من الحرب ، واعترف بحزن ان حرب فييتنام قاتلة لا يمكن الانتصار فيها ، وهذا ما أضعف ولاءه للجيش، الذي علمه كيف يكون طيارا ماهرا….”.
حضر كالي من رحلة الى البحيرة؛ ” صافحته واخبرته انني جئت لأنقل قصته. رد :‘ صحيح اخبرني المحامي ان اتوقع منك زيارة’. صعدنا الى شقته ، وانا وجها لوجه مع هذا الوحش الذي صرع بمدفع رشاش الأطفال والشيوخ. لكنني وجدت نفسي امام شاب مهزوخائف، قصير القامة ونحيل شاحب الوجه”. سهر معه حتى الصباح “…. ملآت دفتر ملاحظاتي وكانت أكثر الاقتباسات ليست من مصلحته . إن روايته لما جرى في قرية ماي لاي ازدادت تناقضا كلما أطنب في الحديث عنها “.
كان الوقت متأخرا او ربما مبكرا للنوم . قدت سيارتي صوب مطار كولمبوس ، واستقللت اول طائرة مغادرة الى واشنطون. شرعت خلال وجودي في الطائرة بوضع هيكل القصة التي سأكتبها . لدي نسخة منقولة بالضبط من لائحة الاتهام ومقابلة مستفيضة مع اللاعب الرئيس . كنت على وعي بأنه يجب علي ان أضع مشاعري الشخصية حول الحرب جانبا حين اكتب قصتي هذه…. سأحاول الآن أن اروي قصة تقول ان الأميركييين لم يقاتلوا بشرف أو بتعقل أفضل مما فعل اليابانيون و الألمان في الحرب العالمية الثانية. لم أكن متأكدا مما سيحدث ، لكنني اعرف انها لن تكون قصة سهلة.


خوض في الوحول .. نووي إسرائيل و الجريمة المنظمة والاحتكارات
في هذه الحلقة يدخل سيمور هيرش في أعشاش الدبابير، صارع طواغيت المال والجريمة المنظمة وإسرائيل النووية . في اميركا يدوس الجميع بازدراء على القوانين، وتتطاول الأذرع السلطوية على المصلحة العامة، وتكون هذه هي الضحية. تكشف مكمن إفساد الحياة السياسية وتخريب النشاط النقابي بالتعاون بين الجريمة المنظمة ونشاط الاحتكارات والسلطة السياسية ، خاصة انتخابات الكونغرس. في ما يلي مختصر تجربة سيمور هيرش مع أخطر عمليات التقصي كمن يصارع ملك الغاب في عرينه:
خيار شمشون
عنوان كتاب أصدره سيمور هيرش عام 1991، تناول الإذعان الأميركي لقرار إسرائيل بامتلاك السلاح النووي وتصنيعه. “إثر النجاح المدهش الذي حققه ميناحيم بيغن وحزب الليكود في انتخابات 1977بدأ الخارجون من الحكم يتحدثون عن كيفية حصول إسرائيل على القنبلة النووية وكيف أن أميركا لم تفعل شيئا لوقفها.[390] لا يمكنني كشف هوية ضباط المخابرات المركزية الأميركية الذين أصيبوا بالفزع نتيجة معرفتهم بالمساعدة السرية التي قدمتها أميركا للبحوث الإسرائيلية في هذا الشأن… كما يبدو فقد اقتحمْتُ داخل مخطط يتعلق بدور روبرت ماكسويل، الناشر الصحفي البريطاني، بالتعاون مع نيكولاس ديفز وعلاقتهما بجهاز الموساد، ودور ماكسويل في الإيقاع بمردخاي فعنونو، الذي عمل في البرنامج النووي والقبض عليه ونقله الى إسرائيل للمحاكمة بتهمة الخيانة والتجسس. كان فعنونو قد زود صحيفة بريطانية بتفاصيل عن البرنامج النووي الإسرائيلي واختفى عن الأنظار.اوضحْتُ في كتابي أن ديفز قد عمل أحيانا في تهريب السلاح . اثارت الاتهامات موجة إنكار واستنكار وتوجيه اتهامات معاكسة ، بحيث طلعت الديلي مرر( يصدرها ماكسويل) بعنوان كبير ‘ التزوير’ حول إحدى الوثائق التي استعنت بها ، ثم طلعت الصحيفة الأخرى (صنداي مرر) بعنوان اكبر ‘ انت كذاب’ في حين ثبتت صحة وثائقي.[391] رفعت حماعة المِرُر شكوي ضدي، خاصة بعد أن وجد ماكسويل ميتا بشكل غامض في يخته عام 1991، في مياه الكناري. رفضت المحكمة الشكوى ؛ فقدمت بدوري ، ونتيجة لنصيحة محاميّ، مايكل نسبَوم، شكوى معاكسة. تم التوصل الى اتفاق قضى بالاعتذار وتعويض مالي بمبلغ كبير لا أستطيع البوح بمقداره ، بموجب نصوص الاتفاق.[391]كانت لدي آمال عريضة بمبيعات الكتاب في أميركا ، حيث أن ما كشفه حول حجم ترسانة إسرائيل النووية أصبح القصة الرئيسة في صحيفة التايمز منذ أن نزل الكتاب الى الأسواق خريف 1991.لكنه سرعئان ما أصبح واضحا اننا نواجه قوة إسرائيل ونجابهها ، لأن نظرة تحليلية للدور الأميركي منذ رئاسة أيزنهاور ومن جاء بعده من الرؤساء هو الإذعان وتحاشي مجابهة إسرائيل بخصوص سلاحها النووي السري… غمرتني موجة من الدعوات للحديث عن الكتاب في مختلف الكنس اليهودية بمختلف ألوانها ونزعاتها . كان من أسوأها الفوضى، حين انطلق العديد من الحاضرين بالصراخ استنكارا لوجودي، خاصة حين ذكرت كيف ان رؤساء أميركا قد تغابوا، واحدا إثر الآخر، وأشاحوا بأبصارهم بعيدا ، كي لا يروا إسرائيل تنتج الأسلحة النووية. ما عنيته هو نفاق أميركا ومساعدتها المكشوفة في طول الشرق الأوسط وعرضه، وهي تدعي انها تحاول منع انتشار الأٍسلحة النووية وامتلاكها.. اشتدت عدوتنية الحاضرين وانا مستمر في كلامي مما اضطرني في النهاية أن أقطع حديثي واستميح الحاخام العذر كي أغادر قبل دقيقتين من نهاية اللقاء.[393]الكتاب هيأ لي نظرة تبصر في واقع العالم العربي. ظهر الكتاب قبل أيام من انعقاد مؤتمر مدريد-أكتوبر 1991… لقد أعطى كتابي الفرصة المباشرة للشعوب العربية كي تفكر وتناقش العواقب العسكرية والسياسية المترتبة على امتلاك إسرائيل لترسانة نووية. تلقيت دعوات من عدة بلدان عربية للتحدث … اقترحت ان يتفقوا على مكان واحد يختارونه في الشرق الأوسط، ليس لدي الوقت لأناقش الموضوع في خمس او ست عواصم عربية، وعليه لم أسافر هناك [393] الدرس الذي تعلمته انه سيتحقق السلام في العالم في وقت ما بين البيض والسود وبين روسيا واميركا وبين الأغنياء والفقراء قبل التوصل الى اتفاق بين العرب والإسرائيليين[394].

البحث عن كورشاك
التقيت بمحام ذكي يدعى آدم ولنسكي عمل في مكافحة الجريمة المنظمة، وشجعني على أن أكتب مقالة عن محام في لوس أنجلس اسمه سدني كورشاك، صوّره لي على أنه لاعب رئيس في ميدان الجرائم المنظمة ، العصابات. له علاقات عديدة مع العديد من القادة الفاسدين في نقابات العمال ، خاصة نقابة سائقي الشاحنات قبل وقت بعيد من تولي جيمي هوفا لتلك المهمة…. أبلغني ولنسكي أنني إن تابعت موضوعه فمن الأفضل الاستعانة بشخص اسمه جَف غِرث، طالب دراسات عليا بجامعة كولومبيا ، لكنه لم يكمل دراسته هناك ، كان أفضل من كتب لمختلف وسائل الإعلام عن العصابات والمنظمات الإجرامية”[347] . عثرت على غِرث وعرضت عليه العمل معي ووافق…”استطعنا الحصول على ملف سري للغاية عن كورشاك في مكتب التحقيقات الفيدرالية. اظهر الملف كيف تحول صاحبنا من محام صغير في شيكاغو ووسيط، الى شخص له علاقات ولعدة عقود مع شخصيات معروفة مثل لِو واسِرمن ، الوكيل الكبير للأعمال السينمائية في هوليوود، وكذلك زعيم الحزب الديمقراطي في الولاية. كان بإمكان كورشاك أن يوقف إضرابا لسائقي الشاحنات العاملين في نشاطات هوليوود بمكالمة هاتفية واحدة؛ ولديه القوة لإنقاذ سمعة فرانك سيناتراالمهنية وإعطائه دورا رئيسا في فيلم (من هنا وإلى الأبد).. نقل عن صحفي التايمز الراحل جيمي برسلين قوله ان عصابات الجريمة المنظمة يقودها 9 إيطاليين ويهودي واحد.[348]يشير ملف مكتب التحقيقات الفيدرالية ان كورشاك ارتكب خلال حياته المهنية خطأ واحدا ، فقد غدر بأحد رجال الأعمال في شيكاغو بالشهادة ضده في قضية شكوى طلاق. يمتلك رجل الأعمال المذكور عدة مخازن في نيويورك، المدينة التي تمتاز بوجود نقابات عمال قوية ، والذي استعان بصاحبنا هذا في الأربعينات ليقدم رشاوى لنقابة سائقي الشاحنات . حصل قادة النقابة على المال وانخفضت كلفة نقل البضائع، ولم يحصل أعضاء النقابة الآخرون إلا على الفتات”[348]…خيانة قائد في عصابات الجريمة المنظمة ليس بالأمر الهين، لكنني و جَف عملنا ما بوسعنا أن نغطي على هوية مخبرنا ، فقادنا الى أشخاص آخرين مسّهم أذى كورشاك ورغبوا في التحدث عن الموضوع”[349]لم أعرف حتى تلك الساعة عن مدى تغلغل عصابات الجريمة المنظمة في المجتمع الأميركي ، حتى حلول تلك الأمسية من ربيع 1976 حين تلقيت مكالمة هاتفية من جون فان دي كمب، المدعي العام لمنطقة لوس انجلس، الذي كان يحاول مساعدتنا في قضية إعداد تقريرنا: ‘إذهب الى أقرب تلفون عمومي في أحد حوانيت البقالة واتصل بي في الحال. الأمر خطير’ أعطاني رقم هاتفه الخاص….” [349] امتثل هيرش ،” اتصلت بصاحبي اخبرني انه علم من بعض المقربين أن كورشاك حصل على معلومات عن سفري وتنقلاتي وسجلا بأرقام الهواتف التي اتصل بها من مكتب التايمز. وهذا يعني ان مصادري ومصادر جَف السرية قد تم كشفها واننا جميعا في خطر. كنت استعمل بطاقة ائتمان من التايمز لدفع نفقاتي للسفر والتنقل والاتصالات الهاتفية. كانت القائمة الشهرية للبطاقة والتي دفعتها الصحيفة تحتوي على كافة المعلومات المذكورة. كل من تكلمت معهم أو اتصلت بهم عرضة للانتقام. قمنا بتحذير الجميع،…اكتشفنا أن أحد العاملين في مكتب حسابات الصحيفة، وهو المسؤول عن استلام قوائم الصرف ومراجعتها وتسديدها، من شيكاغو وله ارتباطات سرية بتلك العصابات؛ فتقرر فصله ولكن ليس بشكل سريع، كما تم إشعاري. كما وجدوا طريقة أخرى لتغطية نفقاتي .” [349]كان محامو كورشاك في لوس انجلس يبعثون رسائل التهديد الى إيب روزنثال وبقية المحررين. خلال رحلتنا الأخيرة الى لوس انجلس قبل نشر مقالتنا المكونة من أربعة أقسام طرأت لي فكرة ان اجرى اتصالا هاتفيا باستعمال رقم كورشاك المتوفر لدينا في مكب التايمز. رد شخص على المكالمة فقدمت نفسي وطلبت ان أتحدث مع السيد كورشاك. مرت لحظة صمت، ثم عاد المتحدث ليقول بصوت ناعم، ‘ياسيد هيرش لقد شوهت سمعتي في مختلف وسائل الإعلام في طول البلاد وعرضها’، ثم أضاف‘انت شخص متخصص في الكتابة عن المذابح والخنادق الملأى بالدماء’. تحدث لبضعة دقائق أخرى عن الدم والقتل والتعذيب والذبح ، ولم يفتني طبعا ما كان يقصد بذلك الكلام . لقد هددني دون ان يفصح عن ذلك. هزني كلامه وعجبت لجرأته.”[350].
تعرضت المقالة لكثير من المراجعات بسبب ما يمكن أن تثيره من قضايا قانونية. أعيدت صياغة مقاطع باكملها ، ما دفعني عصر أحد ألأيام ، وانا في ذروة امتعاضي ، ان أرمي آلتي الكاتبة عبر شباك مكتبي، والذهاب الى البيت مبكرا. عدت في اليوم التالي لأجد انه تم تنظيف المكتب من قطع الزجاج، كما جرى استبدال الشباك، ولم يقل لي أحد كلمة عما حدث[350]. أصبحت المقالة اخيرا جاهزة للنشر في يوم الأحد في مطلع شهر يونيو. وفجاة ودون سابق إنذار أعلنت نقابة سائقي سيارات الشحن والنقل إضرابا مشكوكا في عصر اليوم الذي سبق النشر، فلم تصل نصف مليون نسخة من الجريدة الى خارج نيويورك لعدة أيام. يبدو ان شخصا ما داخل الجريدة ما زال على اتصال بتلك ‘الجماعة، وعرف بموعد النشر فأُعلِن الإضراب. من سخرية القدر ان ذلك العدد من المقالة لم يحتو على الجزء الأول المتعلق ب كورشاك ؛ سحب في اللحظة الأخيرة ليلقي مكتب أيب والمحامون عليه نظرة اخرى. نشر المقال بعد أسبوعين فبدات المشاكل مع نقابة السواق. شعرت ان أيب وكبار المسئولين في الإدارة لم يعتقدوا أن تلك السلسلة من المقالة استحقت المال والوقت اللذين صرفا عليها، بما فيه وقتي ووقت المحررين الذين قاموا بالمراجعات المتكررة . دعاني أحد كبار المحررين بالصحيفة الى مكتبه…أبلغني أن ‘اللاعبين الكبار’ في الشركات الاحتكارية ممن يلتقي بهم عادة للعب التنس يوم الأحد في جنوب ولاية كنتكت كانوا سعداء وأثنوا على المقالة، التي أستهدفت إسقاط كورشاك.”[351]” كان احد هؤلاء هو المدير التنفيذي لشركة كبرى تضم استوديوهات هوليوود. كانوا يعدون لإنتاج فيلم فحدث نزاع مع نقابة العمال أدى الى توقف الإنتاج… من يقدر على حل المعضلة هو كورشاك.أخبر كورشاك بالموقف…. اتصل جماعته والغي الإضراب خلال وقت قصير جدا…. تحاشى كورشاك السؤال عن الأجور المطلوبة… اتصل كورشاك بالمدير التنفيذي بعد عام تقريبا ليخبره أنه في نيويورك ويريد ان يزوره في مكتـبه…قال انه يحب ان يكون عضوا في مجلس إدارة الشركة، كان المدير التنفيذي يعرف من هو كورشاك ومن يمثل ، كما يعرف استحالة ضمه لمجلس الإدارة. أصيب بالرعب ، وفي النهاية بعث شيكا بمبلغ 50 أو 100 ألف دولار، حسب قول المحرر الذي لم يتذكر المبلغ جيدا ، الى الفندق الذي أقام فيه كورشاك. وكانت نهاية القصة.”[352] امتنع الصحفي عن ذكر اسم المدير التنفيذي. “اخبرته ان زميله في لعبة التنس قد خالف مجموعة من القوانين حول مكافحة الابتزاز والقوانين المناهضة لرشوة النقابات، ويجب كشف ذلك… الفساد يعني الفساد ، ويجب كشفه وعدم التستر عليه. كانت لحظات حرجة ازدادت تعقيدا حين واصلت حديثي بالإصرار على طلبي، وهو الأمر الذي جعل المحرر أن يامرني غاضبا بمغادرة مكتبه”[352-53]لقد غمرتني سعادة بالغة لإعداد مقالتي عن كورشاك ونشرها …ما كنت أتابع ضابط مخابرات رفيع المستوى ، بل شخصا مدفونا بعمق داخل الدوائر الرسمية في واشنطون، ولا يتوقف عند نشر موضوع ينتقده ، بل يسعى لإيجاد طرق أخرى لممارسة نشاطاته.
في الحقيقة كان هدفي أبعد من كورشاك، انه الصفقات لدى الشركات الاحتكارية، التي ساعدته ووفرت له الحماية. كنت آمل أن المقالة بأجزائها الأربعة ستحرج العاملين في مجال الإعلام في لوس أنجلس الذين لم يجرأوا على قول الحقيقة. الصحفيون الذين تابعوا عصابات الإجرام المنظمة عرفوا ما حققناه ، انا وغرث. كتب سدني زايون ، الصحفي من نيويورك والذي له معرفة بأن الوضع غير طبيعي، مقالة عام 1996 لصحيفة نيويورك ديلي نيوزصور فيها كورشاك بأنه لا يمكن المساس به وسماه ‘رجل الغموض’. افاد زايون أن أحد منتسبي مكتب التحقيقات الفيدرالية قد حذره مرة من التعرض لكورشاك. ‘ ‘قام قبلك لوبي كندي ووزارة العدل والصحف ومجلس الشيوخ بمحاولات ؛ فلم تثمر محاولاتهم شيئا. إن كورشاك لديه مناعة فلا تضيع وقتك’. قال ذلك خلال حفلة في منزل لِو واسرمن في لوس أنجلس جرت يوم نشر الجزء الأول من مقالة كورشاك. اختتمت الجزء الرابع من المقالة.[353] “لا احد يريدان يتكلم عن قصة التايمز حول سدني؛ لكن الحاضرين كانوا يتبادلون الهمس . وحين دخل سدني الباب فجاة ، عم صمت مطبق على المكان لحد ان باستطاعتك سماع صوت إبرة . تقدم واسرمن نحو سدني وفتح ذراعيه واحتضنه بحرارة . تنفس عندها الحاضون الصعداء واستمرت الحفلة’” [353-54] اختتمت الجزء الرابع من المسلسلة بالقول ، ‘ إن المهمة الأساس للصحافة في رأيي هي ان تطرح الأدلة حول جدية التهديد للمصلحة العامة امام المواطنين. وحين تظهر تلك الأدلة مشاكل مزمنة وضعف رئيسي وقصور في المؤسسات فالمطلوب هو التغيير…’”[354] .
“لم نستطع جَف وانا ومكتب التحقيقات ان نربط بينه وبين إحدى جرائم القتل حينها ، رغم معرفة انه لو أشر بإبهامه نحو الأسفل ، فإن ذلك يعني موت شخص ما . حاولنا ان نقنع ابنة اخيه ان تخبرنا شيئا عنه، بعد أن ساءت علاقتها بأفراد العائلة وابتعدت عنهم . قدمت لنا القهوة ، واكتفت بالقول انها لا تستطيع الحديث عن العم سدني ، لأنها تخاف على حياتها…. تلقيت بعد عدة اشهر مكالمة من الفتاة ذكرت حادثة جرت في خريف 1960 لأحد السياسيين المحليين ، الذي كان ذا توجه إصلاحي . كنت قد كتبت عنه في المجلة الأسبوعية التي كتبت فيها في قتل ذلك الشخص بطريقة العصابات.”[354]اتصلت بي ثانية واخبرتني عن حادثة أخرى جرت قبل 25عاما شريطة ان لا أنشرها في حينها . “كنت في الثانية عشرة خلال أعياد رأس السنة اليهودية حين قاد سيارة كاديلاك كنت بها مع ولديه من جيلي ، متوجهين الى بيت كبير العائلة، الذي عرفته بكونه شخصا خطرا . كان الأطفال يمرحون ورددوا أغنية عن ‘ تعليق الزنجي من أصبع رجله’. اوقف السيارة في الحال، التفت الي وصفعني بقوة على خدي قائلا ‘لا نريدهم أن يتحدثوا عنا بهذه الطريقة ولا نريد ان نتحدث عنهم بمثلها ’! تقول البنت انها خافت وبكت بشكل هيستيري. بعد الوصول الى البيت “جلب احدهم جهاز التلفون للعم سدني ، قائلا له إنها مكالمة عاجلة. استمع كورشاك لدقيقة ورد ‘ حسنا انكم انهيتم هذا الغوييم(واحد من الأغيار)!’استمرت الحفلة وطلعت صحف اليوم التالي وهي تحمل تقارير عن تصفية سياسي إصلاحي في جنوب غرب شيكاغو على يد أفراد عصابة مجهولين. احببت أن أقتنع ، وفي الحقيقة لدي قناعة ، أن المغدور هو من كتبت عنه في حينها”[355].
درس رائع في الديمقراطية
ورد اسم كورشاك بعد سنتين خلال وجبة غداء مع جامعي التبرعات للحزب الديمقراطي. حاجة ماسة للتمويل السريع، أشيربالاتصال بشخص اسمه لِو واسرمن ، الذي نصح بالاتصال بشخص يدعى كورشاك واعطاه رقم هاتفه. كان حينها في لاس فيغاس(مدينة القمار، يملكها اليهودي الراحل شيلدون أديلسون) واقترح الساعة الحادية عشرة للقاء. حضر كورشاك الرابعة مساء اليوم التالي في فندق. أشار كورشاك الى اثنين من مرافقيه ان يهتما بالشخص القادم من واشنطون لأنه سيكون مشغولا مع آخرين. اخذه الرجلان الى كازينو ملأى بالرواد ودفعا جانبا الأشخاص الموجودين حول إحدى طاولات القمار. جلس الرجلان ومعهما جامع التبرعات والمرأة المسئولة عن الطاولة. سألا صاحبنا : ‘ هل تعرف هذه الللعبة؟’ اجاب بالنفي، فقالا : ‘لا يهم ، إفعل ما نطلبه منك!’ طلبا من المرأة وضع ما يعادل عشرة آلاف دولارمن الرقاق على الطاولة ، وقالا لصاحبنا ان يرمي الزهر على الطاولة فتلقى منهما التهنئة بالربح. وفعلا ذلك لعدة مرات حتى تجمعت قطع الرقاق بشكل كثير امامه على الطاولة . قالا عندها لصاحبنا : ‘ خذ قطعك واصرفها لدى أمين الصندوق في الكازينو!’ فعل ذلك وعاد الى واشنطون محملا بالمال الكافي لتغطية نفقات الحملة الانتخابية لعدد من الأسابيع. كان ذلك درسا رائعا في الديمقراطية حين توضع موضع التطبيق”[356].
في حقل ألغام
جعلتني مقالتي عن كورشاك أكثر اهتماما بمتابعة التداخلات بين الجريمة المنظمة والسياسة والشركات الكبرى في هذا البلد ، ومعهم طبقة العمال ونقاباتهم في فترة السبعينات. كانت شركة غلف أند ويسترن، إحدى كبريات التكتلات الأميركية ، رئيسها تشارلز بلودورن، تضم دار نشر وشركة أفلام وشركة ماديسون سكويركاردن، ومالكي فريق الهوكي في نيويورك وفريق كرة السلة أيضا.. في العام 1977 خضعت لما يقرب من 14 تحقيقا من قبل لجنة الأرواق المالية والبورسات (سيك). “كان رئيس قسم قرض التعليمات في اللجنة المذكورة ،ستانلي سبوركين، يملك ورقة رابحة ؛ فقد أدين بالاختلاس أحد المرتبطين الرئيسين برئيس الشركة، وتعاون مع لجنة (سيك) بدلا من قضاء فترة العقوبة وراء القضبان… كنت ألعب التينس مع المدعي العام، روبرت موركنثاو، الذي كان مكتبه يجري تحقيقا حول ممارسات شرك غولف أند ويسترن، سببت إزعاجا لسبوركين. كان التحامل شديدا على بلودورن، واستهدفوا شركته. كنت آنذاك أضغط داخل التايمز للحصول على ترخيص كي نقوم ، انا وغِرث بإعداد تقريراستقصائي عن الشركة المذكورة، خاصة بعد أن علمت أن آرثر سولزبيرغر ، ناشر التايمز، داخل في علاقات صداقة مع بلودورن. تطلب الأمر مني ومن غرث عدة شهور من البحث قبل أن يصبح بمقدورنا ‘مواجهة ’ المحررين الكبار بحقائق معينة حول مخالفات بلودورن المالية، حتى حصلنا على الموافقة وانطلقنا لنقابل الموظفين الكبار ، السابقين والحاليين ، لشركة غلف أند ويسترن.
دخلنا فترة جحيم استمرت أربعة أشهر . تدفق سيل من الرسائل على أيب روزنثال ونائبه بنتش وآخرين في الصحيفة بعثها بلودورن رئيس الشركة ومارتن ديفز نائبه، اتهماني فيها بأنني احاول تشويه سمعتهما ، وباستعمالي أساليب رجال العصابات في ذلك، وهذا اتهام عشته قرابة عشرين عاما مرده ان نجاحي يقوم أصلا على التسلط والبلطجة للضغط على مصادر معلوماتي.[357] لم يكن مفاجئا لي أن مسئولي شركة غولف اند ويسترن، وهم أسياد القدح والذم، ليصوروني أنني إرهابي بلباس صحفي. وجهوا رسالة الى إدارة الشركة حملت عدة اتهامات ضدي منها : هددتُ مسئولا سابقا في الشركة انه سيقضي وقتا خلف القضبان ؛ قلت ان الشركة ‘كومة نفايات’، وغيرها من التهم السخيفة. لم أطلع على الرسالة إلا بعد سنوات.[359].. هددت الشركة بأنها “ستقوم بإجراء تحقيق حول عائلتينا ، وانهم يعرفون أن إحدى عمات زوجتي كانت متعاطفة مع الحزب الشيوعي في فترة الثلاثينات؛ كما ذكروا أيضا أن والد جَف، الذي كان يعمل وسيطا في تجارة بيع الفولاذ في كليفلاند، له ارتباطات مثيرة للشك. زيفوا محادثة مسجلة أجراها معنا احد موظفي الشركة ، وبعثوها الى الناشر متجاوزين رئيس التحرير. … استمر هذا الحال خلال فصلي الربيع و الصيف ، حين استطعنا ، أنا وغرث من تقديم تقريرنا المكون من15 ألف كلمة. حدث شيء لم يبلغنا عنه أحد ؛ احالوا تقريرنا الى جون لي الذي نحتقره ويبادلنا نفس المشاعر . كتب لي مذكرة سرية الى مساعد رئيس التحرير، توبنغ، هاجمنا في المذكرة بشدة دون ان يذكر اسمينا”[360].
تمت مراجعة مقالتنا بشكل جدي قبل نشرها من قبل فريق من محامي التايمز. ومع ذلك استطعنا ان نخبر القراء ونثقفهم عن الشركات الاحتكاريةـ التي تلاعبت بأصولها المالية بكل طريقة شرعية او غير شرعية من اجل تحاشي دفع الضرائب المستحقة عليها . ولكن تم اكتشاف تلاعباتها من قبل لجنة الأوراق المالية(سيك). كنت بشكل شخصي فخورا انني وزميلي قد استطعنا عن طريق شهود مباشرين (ومجهولين) ان نظهر كيف ان مجموعة من موظفي شركة احتكار قد عملوا خلال ليلة واحدة في صيف عام 1968 ونقلوا كافة الوثائق الضريبية من وسط منطقة مانهاتن الى مدينة شتامفورد بولاية كنتكت المجاورة، حين اعتقد بلودورن وزمرته بأنهم سيلقون معاملة افضل وأقل تمحيصا من قبل مصلحة المدخولات السنوية (إيرس)[361].
في لحظة معينة خلال إجراء بحثنا الاستقصائي قرر جف لوحده ان يلقي نظرة على التقرير السنوي الذي تبعثه التايمز الي (سيك)، وهذا ما جعلني أقرب اليه. اكتشف ان روزنثال، ناشر التايمز، كان قد حصل على قرض بموافقة مجلس إدارة الصحيفة بفائدة 2.5 بالمائة ليشتري شقة فاخرة في منطقة غرب سنترال بارك….اكتشفت مع جف بعد أسابيع قليلة ان بلودورن كان قد حصل على قرض بقيمة ملايين الدولارات لشراء أسهم في شركته قبل أسبوع من انشطار تلك الأسهم، بربح قدره دولار لكل دولارين. هذا العمل غير أخلاقي لأنه مطّلع على أسرار الشركة وحركة أسهم الاستثمارات فيها، والذي يدل على غبائه ووضوح جشعه”[362].
بإمكاني القول أن الرسائل التي تلقيتها من خبراء عديدين لهم معرفة أعمق بممارسات الشركات الاحتكارية…الذين كانوا على معرفة بمستوى الكشف الذي عرضناه، انا وزميلي، فمثلا كتب لي جون كنث غالبرايث ، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، والذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في الهند في عهد الرئيس جون كندي ‘ إن أجزاء المقالة حول غولف أند ويسترن ممتازة، اكثر مما يعرفه القراء. ان استخلاص معلومات نافعة عن هؤلاء الأشخاص، ويمكنني القول بناء على خبرتي، أكثر صعوبة بمقدار عشر مرات، مقارنة بالحصول على معلومات من وكالة المخابرات المركزية’. واختتم الرسالة بالقول ‘شكرا لك’. كما اخبرني جالز نسّون عن طريق ملاحظة له أن ‘ أجزاء المقالة هامة للغاية… وبحسب علمي ، فإنها حاولت ان تعطي صورة للمواطن العادي عن المكائد المالية لأحد اقطاب الفساد، الذي ما زال يتمتع بمكانة عالية. ما زلت شديد الحيرة حول الجوانب التي يتم الكشف عنها واخلاقيات العمل لدى هؤلاء الأقطاب ومحاميهم . لقد قمت بعمل فائق ’.يعرف غالبرايث ونسّون ثمن الخوض في قضايا الاحتكارات الرئيسة ويشيران الى الحذر الذي يجب أن يؤخذ بالحسبان لدى مراجعة مقالات حول تلك القضايا والقلق البالغ من محاولات الانتقام…”[365]كانت التجربة مثارا للإحباط وللإضعاف . استنفذت الكتابة عن الاحتكارات في أميركا طاقتي وسببت لي توترا ـ كما سبب لي المحررون في صحيفتي الخيبة . لقد بدا لي انه ليس من المسموح به التعرض للاحتكارات في اميركا . وهكذا انتصر الجشع . إن الخصام القبيح مع شركة غولف أند ويسترن قد هز الناشر والمحررين لدرجة ان المحرر والمشرفين على قسم الأعمال سمح لهم إبطال العمل الجيد الذي أنجزته أنا وزميلي جَف”[366].
لم يظهر رجال المخابرات القسوة وروح العدائية التي اظهرها رجال الاحتكارات ممن يمارسون دور الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة الأميركية التي يزعم انها بلد الحريات المطلقة- لكن للمافيات.


وسائل الامبرطورية وأساليبها القذرة لمقاربة قضاياها
من السمات المميزة لتصرفات المسئولين في الإدارات الأميركية وهيئاتها المشرفة داخليا ودوليا هي ازدراء القانون، بمعنى البلطجة والعمل في الظلام: “ظهرالمزيد من الأدلة في أواخر السنة ، التي تميزت بالفوضى وقلة احترام للقوانين داخل إدارة نيكسون. نفذت اغلب دبلوماسية كيسنغر بطريقة سرية بعيدة عن الأنظار، تحاشت الإعلام”[296]؛ ويقول أيضا: “هناك اعتقاد تام بان البيت الأبيض سيخفي أي فضيحة ، للخوف من أن الأشخاص المهمين، مهما كانوا، سيتم الكشف عنهم . بدأْتُ التركيز ثانية على هنري كيسنغر ، بسبب دوره في خلق الفوضى باتباع الطرق السرية…”[301]. بات التكتم وليش المكاشفة ، التكتم والتكاذب المتبادين والتجسس وسيلة تسليك: “في مقابلة جرت فيما بعد، أخبرني رَدفورد شيئا لم يذكره امام اللجنة (لجنة الشئون الخارجية) بشكل علني. قال انه سرب ما لايقل عن5 آلاف وثيقة سرية من مكتب كيسنغر الى البنتغون خلال فترة 13 شهرا قضاها في البيت الأبيض.[303] وفي الوقت الراهن نجد الامبراطورية تعمد الى الكذب والتلفيق وادعاء الطهارة بدعم الحرية. إنها أساليب ووسائل إشاعة الوعي الزائف للتغلب على الأزمة.
“سئل كيسنجر خلال إجراءات المصادقة على تعيينه (وزير خارجية) امام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ عما إذا كانت وكالة المخابرات المركزية قد ساهمت بأي شكل من الأشكال، بإسقاط حكومة اليندي . لقد فعل ما يفعله المسئولون الأميركيون وهو الكذب . قال بالحرف الواحد،‘ ليس لوكالة المخابرات المركزية علاقة بالانقلاب، حسب علمي واعتقادي’ “[309]. وبالمقابل هناك من يراقب الأمور بصمت، وهو ما لا يفضح المزاعم حول “اوسع ديمقراطية في العالم”، تلك اللبوس التيتتزيا بها الامبرطورية العولمية :” ذكرت رسالة عضومجلس الشعب ، هرينغتن، ‘أن نيكسون وكيسنجر كانا يكذبان منذ سنوات بإصرارهما على ان الولايات المتحدة لم تتدخل بشكل غير شرعي في تشيلي’. من المعروف ان عجز حكومة اليندي في الحصول على قروض لم يكن سببه سوء الائتمان في البلد، لكنه نتيجة للسياسة الأميركية. استطعت خلال أسابيع الحصول على وثائق سرية أظهرت أن نشاطات وكالة المخابرات المركزية قد ذهبت الى أبعد من ممارسة الضغوط على الاقتصاد ، الى تمويل عنف الجماعات المتطرفة داخل تشيلي. فهي التي نظمت إضرابات عديدة بهدف تعطيل اقتصاد البلد. كما كان هناك حديث عن اغتيالات، على الأقل الضابط رفيع المستوى في الجيش كان معروفا عنه تأييده الرئيس اليندي، تمت تصفيته بسلاح تم تهريبه من قبل محطة وكالة المخابرات المركزية في العاصمة سنتياغو”[310] .
وفي الداخل ، كما في الخارج تتغول سلطة الدولة، تراقب الجمهور ولاتدع أحدا يراقبها:
“مقالتي التي نشرت بتاريخ 22 ديسمبر / كانون أول 1974عن قضية تجسس وكالة المخابرات المركزية على المواطنين داخل البلاد، كانت أشد قنبلة تفجير طيلة سنوات عملي في نيويورك تايمز.[313]. رغم ذلك عادت الامبراطورية الى عادة مراقبة الجمهور مستغلة تفجيرات 11 أيلول. تم التجسس “في مخالفة لميثاق الوكالة ذاتها “[314]؛ خلال تقصّيه ظاهرة التجسس بدأ بحث هيرش يتوسع من خلال حصوله على معلومات بسيطة عن ‘مجوهرات الأسرة’( الوثائق الداخلية السرية للوكالة- النشاطات غير القانونية للوكالة)[314]. أعرف أن كولبي ذو ذهنية صارمة وكان مسئولا عن برنامج وكالة المخابرات للاغتيالات المسمى فنكس، خلال حرب فييتنام ، حيث تمت تصفية أكثر من 20 الف مدني في جنوب فييتنام إثر اتهامهم بارتباطات بالفيتكونغ او فييتنام الشمالية[320].
في لقاء جمع مساعد مدير الوكالة ، كولبي، وإيب ، رئيس تحرير نيويورك تايمز حضره هيرش، سال إيب: لماذا تساعدون طغما حاكمة تعذب المعتقلين وتقلع الأظافر، في فييتنام الجنوبية وكوريا الجنوبية واندونيسيا والفيليبين وغيرها من البلدان التي سماها ولم أعد أتذكرها؟ أجاب كولبي ببرود بأنه في الأساس لا تقوم الوكالة بإصدار الأحكام أو تقييم قادة العالم المتحالفين معنا. تقوم الوكالة بتنفيذ ما يخبرها به الرئيس…. احيانا تعمل الوكالة مع انظمة تعذب وتقلع الأظافر”.[323]تحصل كل الموبقات والكونغرس لاهٍ بمماحكات حول قضايا تافهة. وإذا ناقش لا يدخل في صلب مهامه، ويستحيل ان يتوصل الى قرارات حازمة، بعكس وظيفته في التشريع والمراقبة والمحاسبة: “في يناير، بعد نشر مقالتي دعيت ، لدى عودة الكونغرمن عطلته بمناسبة الأعياد الى لقاء قصير مع عدد من الأعضاء لمناقشة ما ورد في مقالتي، وما أعرفه من معلومات أخرى”. تحدث وناقش مع عدد من الأعضاء لقي منهم التشجيع وعلم المزيد من اغتيالات تحت شعار ‘امر تنفيذي’،”…حث السيناتور كرانستون أعضاء المجلس الآخرين للتصويت على تحقيق شامل، ولكن جرى التحايل على الموضوع. …اظهرت وثائق المحادثات الجارية في البيت الأبيض، التي رفعت عنها السرية بعد عدة عقود ، ان الرئيس ومساعديه الكبار كانوا مهووسين بالعواقب السياسية نتيجة لنشر مقالتي، وعرفوا أن إدارة كندي كانت ضالعة للغاية في محاولات اغتيال كاسترو… ذكر هيلمز أن تلك العمليات هي فقط قمة جبل الجليد الطافي… فمثلا أدار روبرت كندي بشكل شخصي إحدى عمليات اغتيال كاسترو[337].
علم هيرش ان اجتماع الرئيس فورد برؤساء التحرير ناقش قضية الاغتيالات وكان كاسترو على رأس القائمة . التزم رؤساء التحرير ومنهم إيب، رئيس تحرير التايمز، بكتمان القرار. تبين لهيرش أن “الجماعة الذين يديرون صحيفتي والذين غمروني لسنوات بالمديح والعلاوات المادية، هم أكثر إخلاصا لرئيس عين لجنة تحقيق تتصف بالجبن، من إخلاصهم لزميل أنقذ سمعتهم المهنية من اوحال فضيحة ووترغيت وتخاذلهم وتأخرهم عن تغطيتها. …سربت الخبر (مشروع الاغتيالات) الى دانييل شور ، الذي كان يعمل في محطة سي بي إس. اخبرت دانييل عن قضية الغداء مع فورد، التي حجبوا عني ما دار خلالها والجهود الخاصة للتخلص من كاسترو… لم يتوان دانييل لحظة عن إذاعة أخبارالقصة …”[339..] تغيرت حركة البندول الى ما كانت عليه حول مسألة الأمن القومي ، واختيار الرئيس لها كحجة ليقطع الطريق على حق المواطنين لمعرفة ما يجري، وأقنع المحررين والناشرين بذلك العذر الواهي”[339].
بدأ العاملون في مكتبه(مكتب تشرش رئيس لجنة مجلس الشيوخ الفرعية المنبثقة عن لجنة الشئون الخارجية) كشف الرشاوى التي تدفعها الشركات الأميركية للحصول على العقود الأجنبية . في الحقيقة ان مدى الفساد الذي كشفته اللجنة كان معروفا لدى المخابرات المركزية. قام مدير مكتب اللجنة بإطلاعي على المعلومات الداخلية بموافقة تشرش، على امل أن أقوم بتدقيق صحتها ، ومن ثم نشرها في التايمز… كشفت إحدى الشهادات عملية سرية لوكالة المخابرات المركزية لتقويض حكومة اليندي في تشيلي.”[409]… تبين لي ان وراء نشاط تشرش طموحه بان ينتخب رئيسا. عرف مانسفيلد بنوايا تشرش. .. قال العضو الجمهوري باري غولدووتر امام اجتماع للجنة تشرش ‘ نحن نعرف ما قام به الرئيسان’ (أيزنهاور وكندي) وكيف وافقا على اغتيال الزعماء الأجانب. ثم أضاف ‘ إذا كان التفويض لما قامت به الرئاسة رئاسيا، فمن مسئوليتنا أن نقرر إن كانت تلك المصادقة تتفق مع الدستور أم تخالفه’… في النهاية تركت اللجنة صلاحيات الرئيس على حالها، وأشارت الى أنها غير قادرة‘ على التوصل الى براهين ان خطط الاغتيالات قد تمت المصادقة عليها من قبل الرئيسين او الأفراد الذين كانوا على راس الوكالات الحكومية’.”[413] شرعْتُ في متابعة ديفد بوشونغ ، المحقق الجمهوري الذي عمل مع السيناتور غولد ووتر.أخبرني هذا ان السيناتور كان مقتنعا بوجود ادلة بسيطة تثبت ان الطريق للحصول على موفقة الرئيس لابد أن مر بمكتب بوبي كندي’. أشرنا الى بوبي في المساهمة والتصديق على محاولة اغتيال في اجتماع سري’ حسب ادعاء بوشونغ’. كان بوبي منسقا للعمليات السرية في كوبا وساهم بشكل متفرد في اجتماع لا ستخدام عصابة جيانكانا للحصول على حبوب سامة لقتل كاسترو. كما لدينا معرفة أن هوفر (مدير مكتب التحقيقات) قد حذر الرئيس أثناء تناول الغداء معه من قضية تسجيل المكالمات الهاتفية التي يجريها مع جودي أكسنر عارضة أزياء لها علاقات مع رئيس عصابة جيانكانا ومع بوبي كندي. قطع بوبي إثر ذلك التحذير كافة اتصالاته مع آكسنر’ “[414] أضاف بوشونغ ” ‘بعد 6 أسابيع صدق بوبي على امر الحصول على الحبوب السامة لا ستخدامها في كوبا. تجمعت هذه المعلومات لدي على شكل قضية قوية ضد تصديق الرئيس عرضتها على مجلس الشيوخ’…قادة الوكالة عرفوا تشرش ‘ عاهرة ذات توجه سياسي ولم يكن يبحث عن الحقيقة’.[415]تعكرت العلاقات مع إدارة التايمز. “قررْتُ الاعتكاف عن النشر فترة أقضي فيها إجازاتي المؤجلة. أتصل بي كولبي، وكان رئيسا لوكالة المخابرات المركزية، وحضر الى الصحيفة “طلب مني مباشرة ان اكف عن متابعة امر الغواصة الروسية الغارقة… مستوى واطئا من الابتزاز. وعدته أن أفعل ذلك ، لكنني اريد بالمقابل شيئا عن ووترغيت ووكالة المخابرات المركزية . لم يتردد كولبي ، فأخبرني أن لوسن ندزي ، عضو لجنة المخابرات التابعة للكونغرس قد حصل قبل عام على معلومات هامة عن ووترغيت لم يعرها اهتماما . اعتقدت انني حصلت على رأس الخيط لقصة جيدة.[340]“استردت صحيفة التايمز مكانتها عندي بعد عدة أشهر حين نشرت مقالة لي ملأى بالأسرار، التي كانت بلا شك مبعث إزعاج لوكالة المخابرات المركزية، خاصة وهي تأتي وسط جلسات لجنة مجلس الشيوخ للنظر في قضية التجسس.. ذكرت في مقالتي أن البحرية الأميركية كانت تنفذ عمليات تجسس داخل المياه الإقليمية للاتحاد السوفييتي طيلة 15 عاما على الأقل…أساليب الوكالة المذكورة ومعها القوة البحرية فيها مجازفة باعتبارها مهام غير مصرح بها…أخبرني أحد وكلاء مكتب التحقيقات الفيدرالي قبل مغادرتي واشنطون ذلك الصيف ان التزم جانب الحذر، وأن ‘ أراقب خطواتي’. لقد استشاطت إدارة فورد وموظفو البيت الأبيض غضبا لنشري تلك المقالة، وانهم نووا ملاحقتي قضائيا. لم أعط التحذير أي اهتمام، لأنني اعتقدت حينها ، انني اعرف الكثير عن برنامج التجسس هذا ، وكيف بدأ والاخفاقات التي مني بها وتمت التغطية عليها . فإذا تجرأوا على ملاحقتي قضائيا ، فإن المزيد من القذارة سيطفو الى السطح ويخرج الى العلن”[343] . حاول تشيني “تكميم فمي” برفع قضية ضدي، وذلك “ليمنع فضح تقارير عن مخالفات محتملة أمام لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ التي ترأسها فرانك تشرتش؛ غير ان المدعي العام حذر من ان ذلك من شانه ان ‘يثبت عمليات التجسس’ “؛ والأفضل من ذلك ” التحدث مع الناشرين حول مخاطر طبع المواد التي تمس الأمن القومي وتلحق الأذى به.”[344]أمضيت عاما وانا أقرأ روايته ( يقصد مذكرات كيسنجر ‘سنوات في البيت الأبيض’)، ذلك الكتاب كنز للمعلومات عن القضايا الهامة ، التي واجهها الى جانب قدر كبير من التحريف والأكاذيب المفضوحة. …اتصلت بعميلين لوكالة المخابرات المركزية شاركا في تزويد نظام معمر القذافي في ليبيا بالأسلحة والذخائر لقاء مبالغ كبيرة. أقنع إدوِن ولسون وفرانك ترِبل زميلا ثالثا لهما في الوكالة اسمه كَفِن مِلكيهي انهما يقومان بعمل مشروع . استطاع الأخير أن يصل الى جوهر العملية، التي جنى منها زميلاه ملايين الدولارات، فجاء ليخبرني بتفاصيلها.[372]نجم عن تقاريري عن تشيلي عام 1974 وصول سلسلة من الرسائل كتبها أشخاص مجهولون ساهموا في العمليات السرية ولديهم معلومات مباشرة عن رغبة الإدارة الأميركية اعتبارا من نيكسون وكيسنجر وممن هم دونهما للتخلص من أليندي [373]. من عادة هيرش ان لا يأخذ برسالة مجهول. ونظرا لدأبه على نشر ما يرده من داخل الأجهزة واحتفاظه بأسرار مصادره ، فقد تطوع عدد كبير ممن يشغلون مراكز رفيعة بإرسال المواد الكاشفة . “رحت أهتم بالوفيات ، أحداها استرعى اهتمامي، ضابط بالوكالة اسمه جون مورَي . اتصلت بأرملته بعد ستة أشهر وذكرت لي اسمها وعنوان منزلها ورقم هاتفها . ” أكدت السيدة ان زوجها كان أحد الذين اتصلوا بي دون ان يذكر اسمه ، وانه قام بذلك نتيجة غضبه وإحباطه بسبب الوكالة ونشاطاتها الإجرامية في تشيلي…. رحبَت بفكرة زيارتي للبيت واستلام صندوق به وثائق موجود في قبو البيت”[374]. ” إن نزعة كيسنجر المتأصلة للخداع قد ساعدتني أيضا . كان لدى موزي الكثير من المعلومات عنه؛ إذ عمل معه كمساعد موثوق به في السنوات الأولى ولديه اطلاع كبير [374]. وغير موزي كثيرون .” من المعروف بين بعض العاملين في مكتبه ان كيسنجر يدعي لنفسه الفضل لأعمال يقوم بها الآخرون . ولذلك يقوم هؤلاء بتهريب نسخ من الوثائق للاحتفاظ بها في بيوتهم…. احتفظ مورس بنسخ من مذكراته بشأن استعمال الأسلحة التكتيكية والنووية في اوقات الأزمات . في عام 1968 وسط حملة انتخابات الرئاسة بين نيكسون وهيوبرت همفري ، كانت النتيجة انه لو تم انتخاب احد المرشحين فإنه سيختار كيسنجر كمستشار للأمن القومي. [375]مع الزمن اتسعت دائرة المتعاونين مع هيرش ، في ظروف الكبت ينفسون، في غياب المكاشفة وصراحة النقاش مع المسئول، يسربون المعلومات الى هيرش أو غيره من صحفيي التقصي: “تلقيت مكالمة من الأدميرال المتقاعد إلمر زموالت، الذي خدم في الأعوام 1970-1974 قائدا للعمليات البحرية، وكان برتبة أربع نجوم، ودعاني لزيارته في عطلة نهاية الأسبوع…. اخبرني ان لديه بعض الأوراق يود إطلاعي عليها .استأجرت ماكنة استنساخ أستخدِمُها بعد انتهاء الدوام ؛ أمضيت ساعة وأنا أستنسخ ورقة إثر أخرى في حين كان زموالت يسلمني إياها…[376] بدا واضحا من الوثائق انه وسط عام 1972، ومع تسارع جهود المفاوضات مع هانوي في باريس، رغب زموالت معرفة ماذا يجري داخل مكتب كيسنجر للأمن القومي. كلف ضابطا صغيرا يخدم في مكتب هيغ بتدوين ملاحظات وتسجيل مكالماته على أشرطة صوتية وتسليمها مباشرة اليه.” استعنت في كتابي عن كيسنجر ببعض الأسطر من محتويات الأشرطة حرصا على سلامة الضابط…ان صورة مدى الجو الكامل للحقارة ونزعة الانتقام وجنون العظمة ، الذي خلقه كيسنجر وهو يبحث عن اتفاقية سلام بمشاركة رئيس لا يتسم بالاستقرار بشكل مثير، بدت تلك الصورة امامي وأنا أقرأما زودني به زوموالت من وثائق.[376].يضيف سيمور: “وكما نشرت في نهاية كتابي ‘ إن كليهما لم يدركا العجز الأساسي في سياستيهما . نسيا انهما يعملان في نظام ديمقراطي يقوم على دستور وأنهما يقودان شعبا يطالب مسئوليه ان يتحلوا بالمبادئ العقلانية ويتصفوا بالأخلاق والنزاهة.’ …كان نعوم تشومسكي، الذي أعرفه قليلا وأحترمه كثيرا، من بين المعجبين بكتابي (عن كيسنجر) المعنون “ثمن السلطة” . بعث لي برسالة تقول ‘ إنه لأمر رائع ، بالرغم من الشعور أن المؤلف يجوب في اوحال القاذورات كي يطرح مستوى جديدا بعيد المدى وتحليلا ثاقبا لوضع السياسة الخارجية، من الصعب أن تجد له مثيلا’. “[378]“كنت متحفزا لنشر مقالة حول فشل مجلس الشيوخ للتحقيق في فضيحة إيران كونترا ؛ كنت حينها منغمسا في إعداد كتابي حول إسقاط الطائرة الكورية . انتشرت انباء ذلك الفشل في الصحف اليومية التي لم تقم هي الأخرى بدورها كما فعلت في فضيحة ووترغيت، ولم تركز على دور الرئيس ريغن ونائبه جورج بوش. . كان من المستحيل الاقتناع بأن بوش الذي يعمل الآن برفقة الرئيس لم يلعب دورا أساسيا في تلك الفضيحة. خرج الرئيس ونائبه سالمين ودون ان تلحق بسمعتهما أية لطخة. وحسب اعتقادي فإن ذلك يعود الى فشل المحققين في مجلس الشيوخ. في طليعة ما توصلْتُ اليه أن اعضاء مجلس الشيوخ المساهمين في التحقيق كانت تعوزهم الجرأة والشجاعة كي يلاحقوا ريغن قانونيا. كتبت : ‘ بعد مضي ثلاث سنوات من التحقيق والإجراءات الجنائية ، لم يودع أحد السجن . كما ان فضيحة إيران- كونترا لبيع السلاح من اجل الحصول على الأرباح من مجموعة متمردة من المسئولين في البيت الأبيض لم تنجم عنها أية إصلاحات دستورية أو قانونية’ إن العم رونالد ريغن ، الواهن العقل، قد سلم من أية مسئولية’ “.[395 ]ثلاث مرات اسبوعيا تقدم المخابرات المركزية للرئيس ريغن معلومات جمعتها الأقمار الصناعية، ولم يكن هناك دليل على أنه قرأها وهو الأمر الذي أجبر مسئولي المخابرات المركزية أن يرسموا في تقاريرهم اليومية المقدمة للرئيس الخطوط الحمراء التي تم تجاوزها(تزويد العراق بآلية صنع غاز الأعصاب) . كان واضحا ايضا انه لم يقرأ تلك التقارير , أُ ُخبِرتُ حينها ، ولكني لم أتأكد من ذلك، أن الوكالة قررت في النهاية ان تجعل تقاريرها اليومية المقدمة للرئيس على شكل أشرطة فيديو تعرض امامه في المكتب البيضاوي على شاشة التلفزيون”[385]عجز الكونغرس عن وضع رقابة فعالة على نشاطات أجهزة المخابرات، نظرا لعدم رغبة الأعضاء. فشل في جميع المشاريع المقترجة ومنها “تشكيل لجنة دائمة في الكونغريس مهمتها وضع الرقابةعلى صرف الأموال المخصصة لوكالة المخابرات المركزية ومراقبة النشاطات التي تقوم بها “[407]. بدل مراقبة أجهزة السلطة أوغلت هذه في مراقبة الشعب . “ظهرت للعلن قصص حول التنصت غير الشرعي على المكالمات الهاتفية للمسئولين والأكاذيب الرسمية التي تم فضحها بنشر كتاب أوراق البنتغون ، والعمليات السرية لوكالة المخابرات المركزية في تشيلي وإفريقيا. أثارت هذه القضايا الكثيرمن الأسئلة حول نزاهة أولئك الذين يديرون الأمور في واشنطون ومستوى كفاءتهم. “[408]توجه مانسفيلد رئيس الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الى فِلب هارت ليقبل رئاسة لجنة مهمتها النظر في أية تجاوزات ترتكبها الوكالة . اعتذر هارت لأنه كان يخضع لعلاج مرض سرطان. تعرض مانسفيلد لضغوط من تشرش ، الذي ترأس جلسات استماع لشهادات تتعلق بالرشاوى الخارجية والفساد في دوائر شركات الاحتكار متعددة الجنسية…اعتبر تشرش انه يقبل بأنصاف الحلول في السر ، خاصة ما يتعلق بالتشريعات الرئيسة”[408].
وصل الى مكتبي صباح أحد الأيام صندوق كبير حملته لي خدمات فد إكسبرس لا يحمل اسم المرسل . كان الصندوق مليئا بوثائق تتعلق بوكالة المخابرات المركزية، ولم يكشف عنها النقاب خلال جلسات استماع اللجنة الفرعية. وبطبيعة الحال عرفت من قام بإرسالها. أوضحت الوثائق الضغط المستمر لاغتيال فيدل كاسترو، وجاء ذلك الضغط من جاك كندي [415]. كما انها كشفت ان كندي قد عرف بالضبط ماذا كان نكسون يخطط في ذلك الخريف ضد كاسترو، وهو غزو الجزيرة يقوم به المنفيون الكوبيون المتواجدون في فلوريدا.[416]كانت آخر مقالة لي قدمتها لصاحبي رَمِنك قبل هجوم 11 سبتمبر تدور حول سلسلة من نشاطات الفساد والرشوة، التي ارتكبتها شركة موبيل للنفط، شركة عملاقة استفادت كثيرا من سقوط الاتحاد السوفييتي حين انخفضت أسعار النفط بصورة غير مسبوقة او معقولة خلال فترت الفوضى التي سادت البلاد. قدمت موبيل رشاوى كبيرة للمسئولين السوفييت السابقين من الذين تمكنوا من وضع أيديهم على بلايين الدولارات[430].
الغريب أن هيرش يوجز في ما تعلق بهجمات أيلول . اكتفى بتأكيد مشئولية مجموعة القاعدة ؛ لم يشر ولو تلميحا الى مفارقات في تحقيقات الللجنة الرسمية . فقط أشار مرارا الى تحفظه في نشر معلومات أصدقائه عن تشيني مخافة كشفهم وإلحاق الضرر بهم.
كنت متعبا وبحاجة الى الراحة بعد ثماني سنوات عجاف وانا أعمل ضد إدارة بوش تشيني. رغم انني أقدر رَمِنك واحترمه للغاية ، فإن قربه من اوباما بشكل شخصي قد ازعجني خلال الحملة الانتخابية عام 2008، وكذلك حقيقة كونه يخطط لكتابة سيرة الرئيس الجديد. لقد علمت خلال سنوات عملي الصحفي الا أثق بالتطلعات العلنية لأي سياسي، ولدي حشمة فحواها ان أي محرر صحفي يجب ان لايدخل في علاقة صداقة مع رئيس بالسلطة.[465]


لغز تفجيرات أيلول ومنعطف السياسات الأميركية بقيادة تشيني
“الولايات المتحدة ليست بحاجة الى الديبلوماسية ” عبارة أوردها بطرس بطرس غالي في مذكراته وهو يعلق على إصرارالولايات المتحدة على رفض تجديد ولايته أمينا عاما للأمم المتحدة، عقابا له على نشر تقرير لجنة الأمم المتحدة لتقصي مجزرة قانا ، الذي أدان إسرائيل باقتراف المجزرة؛ الولايات المتحدة الأميركية تمارس سياستها الخارجية بالعنف المسلح والعقوبات. عشرون سنة فقط من تاريخها، الذي قارب القرون الأربعة عاشتها الولايات المتحدة الأميركية بدون عدوان مسلح في الخارج. وهذا ما عثر عليه سيمور هيرش في تقصياته:
“وصل الى مكتبي صباح أحد الأيام صندوق كبير حملته لي خدمات فد إكسبرس لا يحمل اسم المرسل . كان الصندوق مليئا بوثائق تتعلق بوكالة المخابرات المركزية، ولم يكشف عنها النقاب خلال جلسات استماع اللجنة الفرعية؛ وبطبيعة الحال عرفت من قام بإرسالها. أوضحت الوثائق الضغط المستمر لاغتيال فيدل كاسترو، وجاء ذلك الضغط من جاك كندي [415]. كما انها كشفت ان كندي قد عرف بالضبط ماذا كان نكسون يخطط في ذلك الخريف ضد كاسترو، وهو غزو الجزيرة يقوم به المنفيون الكوبيون المتواجدون في فلوريدا.[416]كانت آخر مقالة لي قدمتها لصاحبي رَمِنك(رئيس تحرير نيويوركر)، قبل هجوم 11 سبتمبر، تدور حول سلسلة من نشاطات الفساد والرشوة، التي ارتكبتها شركة موبيل للنفط، شركة عملاقة استفادت كثيرا من سقوط الاتحاد السوفييتي حين انخفضت أسعار النفط بصورة غير مسبوقة او معقولة خلال فترت الفوضى التي سادت البلاد. قدمت موبيل رشاوى كبيرة للمسئولين السوفييت السابقين من الذين تمكنوا من وضع أيديهم على بلايين الدولارات[430].
“برز تشيني(نائب الرئيس بوش) كقائد لنخبة الليبراليين الجددد ابتداءً من 11 سبتمبر ، وعمل كافة ما بوسعه لتقويض رقابة الكونغرس على الحكومة. تلقيت المزيد من المعلومات من مصادري الداخلية حول مد سيطرته على البيت الأبيض، ولكن للمرة الثانية ، كانت قدرتي محدودة للكتابة عما أعرفه لخوفي على مصادري…أصبحت على علم بهدف تشيني، وهو السيطرة على أهم عملياته العسكرية والمخابراتية، والحد الى أقصى قدر ممكن كيلا يعرف الكونغرس عنها أو يتدخل فيها. [438] “تم الاتفاق مع بعض السجناء بإطلاق سراحهم مقابل الانضمام الى المقاومة لكي يكونوا جواسيس لكشف خطط الهجوم ووضع المتفجرات على جانبي الطرق لتتصيد المدرعات الأميركية وتفجيرها. لا أدري إن كانت فكرة تحويل السجناء الى جواسيس هي التي تحولت الى هذا الصنف من الاعتداءات الجنسية”.[446]“إن احتقار الجنود للسجناء والشعور أن باستطاعتهم أن يفعلوا ما يشاءون كان بوحي من القيادة العليا. ذكرْتُ ذلك في مقابلة إذاعية ، وأضفْتُ في تلك اللحظة أن أي شخص يستمع الى هذه المقابلة ويعرف شيئا عما جرى في سجن أبو غريب عليه ان يتصل بي. [448] “يسعدني القول ان تقاريري عن أبو غريب قد غيرت مجرى الحرب واوقفت ممارسة التعذيب.ولكن الحرب لم تتوقف ، كما كان الحال في قصة ماي لاي ، التي لم تضع هي الأخرى نهاية لحرب فييتنام ولا لوحشيتها ..”[450]“بدات ادرك أن 8أو 9 أشخاص من المحافظين الجدد ، الذين كانوا خارج إدارة بيل كلينتون قد نفذوا انقلابا سهلا وسيطروا على حكومة الولا يات المتحدة (إدارة بوش) بيسر. كان أمرا مذهلا ان أشهد بنفسي كيف أن الدستور هش بهذا القدر. … أمضيت العديد من الساعات إثر هجمات 11 سبتمبر وانا أتحدث مع بَيرل، (ريتشارد بيرل -أحد صقور المحافظين الجدد) وهي الأحاديث التي ساعدتني لفهم ما سيحدث في المستقبل القريب. لقد تناقشنا منذ مطلع الثمانينات ؛ لكنه قطع تلك العلاقة عام 1993، لنشري مقالة بمجلة نيويوركر عن حماسه منقطع النظير لإسرائيل وعن سلسلة اجتماعات عقدها مع رجل أعمال عربي للحصول على عقد بمليارات الدولارات في بلد ذلك الرجل. رد بيرل في وقتها بتهديدي بإقامة دعوى ضدي امام المحاكم الأميركية ، وأطلق علي لقب إرهابي ، وتراجع عن التهديد”[438].
هنا يصدر عن هيرش ما لا يتفق مع إصراره على الوصول الى الحقيقة ! توقف هيرش عند التقرير الرسمي لتقصي التفجيرات التي دشنت عهدا جديدا للعدوانية الأميركية؛أبرز ما لوحظ في الدقائق الأولى بعد الانفجار أن البرج السابع بدأ ينهار قبل أن تصدمه الطائرة ، وأن وقود الطائرات يعطي حرارة 16 ألف درجة وفولاذ البرجين ينصهر عن 26 الف درجة ، فمن أين تم الحصول على الفرق؟ هنا بزغت الشكوك في تقرير الللجنة التي عينتها إدارةبوش، وهنا نعرف أن تشيني بات صاحب القرار. وهنا نستدل ما المقصود حين يردد هيرش مرارا “لا أستطيع صراحة أن أجازف وأضحي بمستقبل أولئك الذين زودوني بتلك الأسرار” . ولماذا الخوف ، وممن حتى تعذر على هيرش الإفصاح عن حقيقة تفجيرات 11ايلول ، التي كانت منعطفا حادا باتجاه العدوان في الخارج؟
“.. ربما ما كان بإمكان أجهزة المخابرات الوصول الى حقيقة الهجمات ، كما ذكر ؛ غير أنه ( مسؤول مكتب التحقيقات) كان على ثقة أن ما ساعد هؤلاء (يقصد التسعة عشر من الشرق الأوسط) على تنفيذ عملهم الإجرامي هو قلة التعاون بين أجهزة المخابرات في البلد… نظرت الى صديق قديم عمل مديرا لإحدى محطات الوكالة في الشرق الأوسط ويعرف الكثير عن الإرهاب أكثر مني، سألته عن سبب وجود احتقار كبير لمكتب التحقيقات الفيدرالي، حتى بعد حدوث تفجيرات 11 سبتمبر. أذهلني جوابه حين قال :‘ألم تدرك ذلك يا ساي ! مكتب التحقيقات قادر على أن يمسك بمن يسرقون المصارف، ونحن نسرق المصارف’. ثم أضاف : ‘ ومكتب الأمن القومي ؟ هل تتوقعني حقا ان أتحدث او أثق بمن يهتمون بمظهرهم ويطلبون التحديق بأحذيتهم بنية اللون ؟’ صدمت ، بل دهشت من رده الساخر ، وضحكت كثيرا لذكر الأحذية بنية اللون.”[433-34].
” كما هو متوقع مضى بوش وتشيني في خططهما لشن الحرب على أفغانستان في مطلع شهر اكتوبر . كشفت في مقالة نشرتها بعد أسابيع قليلة من ذلك أن 12 فردا من القوات الخاصة المسماة قوة دلتا ، قد أصيبوا بجراح بعضها خطيرة بسبب قرار متهور أصدره الجنرال تومي فرانك ، القائد المسؤول عن تلك الحرب… قوبل الحادث باستنكار وزير الحرب، رامسفيلد وكوندوليسا رايس… ثم اتصل بي ضابط آخر ذو علاقة وثيقة بقيادة وحدة دلتا للعمليات الخاصة ، وعبر عن استيائه لأن إدارة بوش تكذب بشكل علني دائم. ” [435-36].
طوال التاريخ الأميركي ، باستثناء عشرين عاما والولايات المتحدة تخوض حروبا عدوانية في الخارج، وفي العقود الأخيرة ركزت الضربات على أقطار الشرق الأوسط: ” لأول مرة تضرب مدينة رئيسة في الشرق الأوسط بالصواريخ، التي بلغ عددها 23 ، انحرف منها ثلاثة عن أهدافها وأصابت مبنى للشقق السكنية في بغداد ، ادت لمقتل 8 أشخاص… بالرغم من الموت اعتبر الرئيس كلينتون ، الذي امر بضرب الصواريخ، ‘رئيسا لا يخشى استخدام القوة دفاعا عن القيم الأميركية’ ” [404]. اما الحقيقة، ” فإن قلة حكمة كلينتون في قرار ضرب بغداد بالصواريخ صاحبها سيل من التقارير حول خطة اغتيال الرئيس بوش المزعومة… عرفت أثناء وجودي بالكويت ان القصة فيها ثقوب…في حفل عشاء حضره كولن باول رئيس الأركان العامة اخبر الجنرال نينا براون انني صحفي كذاب افتقر الى الأمانة واختلق القصص… ضحكْتُ وقلت لها هذا وسام شرف …”[405] . “شكك في مصداقية رواية الاغتيال المزعومة صحفي بصحيفة بوسطن كلوب استطاع الحصول على تقرير المخابرات المركزية. أشار التحليل الى ‘ ان حكومة الكويت قد طبخت تلك القصة ’ لتجديد الادعاء باستمرار التهديدات القادمة في العراق.” [406] .سعى هيرش للحصول على تقرير البيت الأبيض الذي يدين العراق؛ رد عليه ساندي بَرغر، نائب مستشار الأمن القومي بسؤاله لماذا أمضيت وقتا طويلا للنظر في هذه المسألة الجانبية؟ . قلت له إنها ليست قضية جانبية ، وقد ذهب ضحية القصف 8 قتلى مدنيين . الأمر الذي أزعجني أكثر قوله ‘ إهدأ يا ساي ، كانوا ثمانية أشخاص فقط!’” [406]وامر كلينتون بضرب مصنع ادوية في السودان.” نشرت مقالتي الأولى تحت إدارة رَمِنك لمجلة نيويوركر عام 1998، وبدات من حيث انتهيت قبل اعوام بتحدي المنطق والمبررالعام الذي ادعته إدارة كلينتون لضرب مركز بغداد بصواريخ توما هوك عام 1993. كان هدف كلينتون هذه المرة تدمير مصنع الأدوية في ضواحي الخرطوم. جاء قراره هذا إثر إفادته أمام محلفين فيدراليين كبار بيومين حول علاقته الغرامية بلوينسكي.. كان كافة الضباط الكبار ومسئولي المخابرات ، الذين اعرفهم ما زالوا في مناصبهم، خلال السنوات الأربع الماضية التي قضيتها وانا أصارع في إعداد كتابي ومن ثم الفيلم الوثائقي عن جون كندي . شعرت بوجود غضب بينهم دون استثناء لقراركلينتون بدك المصنع بالصواريخ.[423]. لم يستلهم المنفذذون مصالح وطنية ؛ إنما أغراضا خاصة تنم عن أنانية تفرط بالصالح العام. “اصبح هؤلاء المطلعون على خفايا الأمور بسرعة اكثر من ‘مصادر’ ؛ أصبحوا أصدقاء وظلوا كذلك حتى بعد أن تركوا الخدمة الحكومية… لم يعرف بضرب المصنع سوى رئيس الأركان المشتركة ،هيو شَلتُن، وعلمت انه تلقى التعليمات من ساندي بَرغر ، لم يبلغ شلتن قادة الأركان الآخرين ولا وكالة المخابرات العسكرية بالخطة. فاحت رائحة الشكوك وفهم الضباط رفيعو المستوى والمسؤولون في الجيش والمخابرات أن العملية كانت بفعل تطلعات بَرغر ، الذي توقع أن يصبح مدير مكتب الرئيس” [424] ” أنهيت مقالتي باقتباس تصريحات موظف سابق رفيع المستوى في الخارجية الأميركية ‘ إن نجاته من المحنة كانت اهم شيء يشغل باله دائما ’ حسب قول الموظف المذكور ، الذي أضاف:‘لو لم يكن كلينتون واقعا في تلك الورطة لما أقدم على تلك المغامرة “[425].
رجعت أكتب عن نشاط المخابرات المركزية في العراق من خلال لجنة الأمم المتحدة يونيسكوم، مهمتها النظر في قضية سلاح التىدمير الشامل، الكيماوية والنووية. الهدف المناقض هو تظاهر الوكالة باهتمامها المشترك مع بعثة الأمم المتحدة للحصول على معلومات حول سلاح صدام. في الحقيقة كانت الوكالة نجمع المعلومات التي ستسهل عليها اغتيال القائد العراقي…. تم إشعاري مرة تلو أخرى من قبل اولئك الذين عملوا معه ، عن السلوك الشاذ لجنرال اسمه مككافري. هو قائد جرئء شارك في حرب 1991 وتقاعد عام 1996 ، عينه كلينتون مديرا لمكتب البيت الأبيض لمكافحة المخدرات. حدثني جنرال بأربعة نجوم عن مككافري ان القضية تتعلق بتحطيم رتل دبابات عراقي منسحب إثر انتهاء الحرب، وبعد تلقيه تأكيدا بسلامة المرور، وهو يعود من الكويت الى بلاده”[428]. جمع هيرش معلومات أكثر من جنرالات اعلى رتبة ونشر مقالة ” لم تؤثر لدفع الحكومة لإجراء تحقيق رسمي بشأن الموضوع. ان تحقيق النصر على صدام عام 1991 كان ينظر اليه على أنه نهاية وصمة عار لحقت بالجيش الأميركي في هزيمة حرب فييتام. ولم تكن هناك نية لتخريب فرحة العسكر المنتشية بذلك الانتصار الرخيص. لم يذهب مككافري الى المحكمة ليطلب مني تعويضا ماليا، بالرغم من شكواه المريرة مني. تُرِكت وحيدا أصارع الانطباع أن امريكا لا يعنيها القتل غير المسوغ للأسرى والجنود العراقيين العائدين الى بلادهم بعد توقيع اتفاق وقف النار. ذكرني ذلك بقاعدة جرى اتباعها في فييتنام .‘هم فقط كوك!’ كان الأميركيون يطلقون اسم كوك على الفييتناميين؛ وإذا اغتيل أحد او اغتصبت امراة، فلا يشكل ذلك جرما او انتهاكا للقوانين أو الاستخفاف بها. الحقيقة اني أدركت تلك القاعدة ولمستها منذ عقود ماضية حين كنت انقل اخبار حريق منجم نجم عنه موت خمسة أشخاص سود في شيكاغو، لصالح جريدة اخبار اليوم”[429] فضحت تقريرا سريا اللغاية عن ان العراق قد استعمل غاز الأعصاب في حربه مع إيران. كانت الولايات المتحدة قد ساعدت على شراء معدات مختبرية لإنتاج هذا الغازفي العراق من ألمانيا الغربية. فضحت الدور السري للمخابرات المركزية في تزويد حكومة جنوب إفريقيا العنصرية بالمعلومات عن قادة المؤتمر الوطني الإفريقي في المنفى … وأدى الى اعتقال قادة المنظمة داخل البلاد….”. [385]“وكشفْتُ فضيحة التعاون مع نورييغا، سمح للقوات العسكرية ومخابراتها للعمل بحرية وبشكل سري من قواعد أقيمت في بنما . وبالمقابل اشاح الأمريكيون بوجوههم عن دور الجنرال المفضوح في عمليات تهريب المخدرات والسلاح. نشرت مقالتي في الوقت الذي كان فيه نورييغا يستعد لإلقاء خطاب في جامعة هارفرد ، مما تسبب له وللجامعة في نوع من الإحراج”[386].
تناول هيرش موضوعا حساسا بالنسبة للأميركيين يتعلق يسلوك الرئيس بوش الأب؛ وكان قد أفلت من فضيحة “إيران كونترا”، بسبب تقاعس الكونغرس عن تقديم إدارة ريغن للمساءلة. ” ‘غالبا ما نتخذ مواقف نلتزم بعزة النفس في معاملاتنا الخارجيية . لم نسمح لأسرة الرئيس بعقد صفقات خاصة، كما لم نقبل بَغْشيش من أحد، بخلاف ما جرى من وجود أبناء الرئيس ووزير خارجيته في الكويت لتقبل الصدقات’ . هذا ما جاء على لسان أحد كبار المسئولين في البنوك الأميركية حين زرت الكويت بعد زيارة الرئيس (بوش الأب)… تمت الزيارة بعد حرب الخليج الأولى ، قوبلوا (حاشية الرئيس) بهدايا ساعات رولكس الذهبية . وبطبيعة الحال كانت هناك أهداف خفية أخرى تتعلق بمنشئات النفط الكويتية التي طالها خراب الحرب. وعهد لوزير خارجية الولايات المتحدة، جيمس بيكر، مهمة الحصول على عقود لإعادة بنائها بملايين الدولارات، وأن تقوم شركة أنرون التي يشغل عضوية مجلس إدارتها بالمهمة. كما أن ابن الرئيس ، مارفن بوش، شارك بتمثيل شركتين في ولاية تكسس متخصصتين في بناء أجهزة الحفر واستعملتا اسم بوش للحصول على عقود يسيل لها اللعاب.”[404] .
“كتبت مقالة في مطلع عام 1999عكستُ فيها وجهة نظر مخالفة لأجهزة المخابرات الأميركية عن القرار المحتمل، الذي قد يصدرعن كلينتون بالاستجابة لطلب إسرائيل بالعفو عن جوناثان بولارد. … حين بدأتُ طرح الأسئلة دعاني احد مسئولي المخابرات للتحدث عن الموضوع. كانت الوكالة تحت إدارة جورج تينت .[427] “وصلت المركز واخذني مسؤول اعرفه بالاسم فقط الى غرفة صغيرة في الطابق السابع ، حيث يوجد مكتب المدير تينت. أجلسني وغاب ليعود بفنجان قهوة ويحمل مجلدا ضخما. احتوى المجلد على مواد سرية مختومة للحفظ لم يطلع عليها احد بأمر من القاضي الفدرالي الذي تولى محاكمة بولارد. الأمر الذي أذهلني هو أنه كان واضحا ان سرقة بولارد كانت للوثائق المتعلقة بكيفية تجسس اميركا على خصمها الاتحاد السوفييتي…. وكما كتبت فيما بعد فإن أغلب الوثائق التي اطلعت عليها لم تتعلق بأسرار المخابرات الأميركية وتقديراتها وتوقعاتها ، لكن ركزت فقط على كيفية حصول أميركا على ما حصلت عليه من معلومات يطلق عليها مجتمع المخابرات اسم ‘المصادر والوسائل’. هناك سلسلة من الوثائق التي حصل عليها بولارد تكشف كيف استطاعت وحدة الإشارات البحرية السرية في منطقة المتوسط من متابعة الغواصات السوفييتية وتحركاتها داخل مياه البحر المذكور منذ اجتيازها لمنطقة مضيق جبل طارق . تكشف وثائق أخرى كيف استطاعت وحدة الإشارات من التقاط الإشارات السوفييتية بشكل عام. وهناك وثيقة سرية مطولة تتالف من ستة أجزاء عنوانها الدليل الأميركي لالتقاط إشارات الراديو في الاتصالات اللاسلكية[ راسين]. احتوى الدليل ، الذي لم تكن لدي فكرة عن وجوده، على معلومات عن مدى بعد وعمق أية إشارة لاسلكية للأصدقاء والخصوم، فأطلقت عليه اسم ‘ الكتاب المقدس لالتقاط الإشارات’. أخبرني أحد العاملين السابقين في وكالة الأمن الوطني (ناسا)أن الدليل يعطي المعلومات عن كيفية جمع الإشارات اللاسلكية في أي مكان او بقعة حول العالم…. تمكنت من ضبط مصداقية المعلومات التي وقعت في متناولي… لقد أتاحوا لي الفرصة لأن أطلع على وثائق فريدة حصل عليها بولارد وسلمها الى الإسرائيليين .كانت كل صفحة تقريبا قراتها مليئة بالملاحظات التي تدل على انها بالغة الأهمية. سرغضب رجال المخابرات والبنتغون ونسائها أنهم اعتقدوا أن حكومة إسرائيل كانت تتبادل المعلومات، التي يوافيها بها بولارد، مع موسكو لقاء سماح الدوائر المعنية هناك لليهود بالهجرة، خاصة من ذوي الكفاءات والاختصاصات والخبرة، التي تحتاجها إسرائيل. لم يظهر تأكيد لذلك الاعتقاد ل كنه كان شائعا بين كافة الذين قيموا ما فعله بولارد وشاهدته بأم عيني”.[426-27]“قررت إدارة بوش تشيني ان تتعاون مع جماعات التطرف السني في الشرق الأوسط،…ومضيت في إصراري ، حيال اعلان تشيني الرغبة في مهاجمة إيران، ورغم شكوك زملائي في أجهزة الإعلام ، ان المخابرات الأميركية ليس لديها أدلة على أن إيران تمتلك برنامجا نوويا … كتبت ان مساعدة إسرائيل سرا من قبل إدارة بوش تشيني وتقديم العون المخابراتي والسلاح لها خلال حرب 2006 ضد حزب الله في لبنان ، تسببت في اندحار استراتيجي لإسرائيل، وألغت قدرتها على ردع أي هجوم عربي في المستقبل.[450] “وكتبت عن جهود مماثلة لتقديم المعلومات المخابراتية والسلاح لإسرائيل خلال هجومها على قطاع غزة عام 2008… انتهت تلك الحرب في 19 يناير 2009 بعد أن حذر الرئيس المنتخب أوباما حكومة إسرائيل سريا انه إذا استمرت حربها خلال مراسيم تنصيبه في اليوم التالي فسيطلب منها علنا وقف تلك الحرب .[451]

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى