إقتصادفي الواجهة

سياسات اقتصادية متناقضة

 
مظهر محمد صالح
 
لم ُندهش، نحن ممن لا يغلبنا النوم قبل الغروب او ممن يضبط باتسامة بلهاء لا تسوغها جدية العمل، عندما تقحم بديهيات حياتنا بمواقف حادة ونجد أنفسنا أمام تناقضات وغرائب تتوهج أمامنا كمفاجآت قبل أن تختفي بهدوء شامل وبدون أن توحي بنهاية شيء، لكن المواقف تتكرر مولدةً تناقضات أخرى من قبضتها الشائكة دون نهاية. هكذا بدأ الممثل الأميركي الزنجي والكوميدي الشهير كرس روك المولود في العام 1965 صاحب البرنامج التلفزيوني الساخر- الحياة في ليلة السبت- يدرك غرائب البشر ويفسر تناقضات عالمنا الراهن مستدركاً: ان أغرب ما في الدنيا هي ان موسيقى الراب التي تجسد أشهر رمزيات المجتمع الزنجي الأميركي في مقارعة التمييز العرقي في كفاح الجنس الأسود من أجل الحرية والمساواة، هي من اختراع رجل أبيض!. في حين لاحظ كرس روك ان لعبة الغولف، وهي لعبة الرجل الأبيض ولاسيما الاثرياء من ذلك الجنس، يقف على رأس أبطالها في العالم اليوم رجل اسود!. وان سويسرا البلد غير الساحلي أو بالأحرى إنها من البلدان غير المطلة على البحار ولا تمتلك سواحل بحرية، حيث تنقسم أراضيها بين جبال الالب والهضبة الوسطى وجبال جورا، قد فاز فريقها فوزاً ساحقاً بكأس أميركا في مسابقة السفن البحرية!!
أما على الصعيد الاقتصادي، فإنك سترى العالم يتصرف بشيء من الغرابة في سلوكياته وأفعاله ولاسيما تجاه الأزمة المالية الدولية الراهنة وعلى وفق الشواهد الآتية: أولاً، تمارس بعض الأمم، وهي مازالت في خضم أزمتها الاقتصادية الراهنة، سياسة خفض نفقاتها العامة وتعظيم إيراداتها من مصادر راكدة او متدهورة وهي ناسية او متناسية دروس التاريخ الاقتصادي وعبره بأن مثل هذه الاجراءات في السياسة المالية تعمق من الأزمة المالية وتجعلها في وضع أكثر سوءاً ولاسيما في الفترة القصيرة، كما تدفع البلاد نحو حلقة مفرغة من التدهور في معدلات النمو وتأزم البطالة وتجسد ما يسمى اصطلاحاً بالمنحدر المالي الذي صار من الصعب الإفلات من تداعياته والخروج من الازمة الاقتصادية الدولية الحالية.
ثانياً،على الرغم من صلابة عصر المعلوماتية الحالي والجلوس على تراكم من المعلومات لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، الا ان عدد الأزمات الاقتصادية في الـ 35 سنة الاخيرة هي اكثر من عدد الازمات في الـ 350 سنة الاخيرة!
ثالثاً، جعلت العولمة المالية من سوق المال او البورصة متعة ميسرة لمن يريد ممارسة المضاربة المالية. فبإمكان الفرد شراء النفط او أطنان من النحاس من سوق تسمى سوق المستقبليات دون أن يفكر بأن مرأب بيته هو نفسه لا يستوعب طنا من النحاس او حتى عشرة براميل من النفط الخام. وان الشراء يأتي بغية البيع الرمزي لاحقاً للحصول على هوامش ربح من المضاربة ليس إلا، ذلك بغض النظر عن طعم النفط او لون النحاس.
رابعاً، تقوم المنتجات المالية التي تبلغ قيمتها اليوم 850 تريليون دولار او ما يسمى بالاقتصاد الرمزي العالمي على أصول حقيقية رأسمالية لا تتعدى 40 تريليون دولار، وان المضاربين المنغمسين في البيع والشراء هم مازالوا في غفلة كي يوجهوا أسئلة كافية الى السلطات الرقابية في دول العالم المختلفة عن المخاطر النظامية المحدقة بنشاطاتهم المالية التي هي تخضع لتأثيرات السياسة الاقتصادية الحكومية، مثل مستقبل أسعار الفائدة او اسعار الصرف ووضع موازين المدفوعات ومستقبل سياسات الدين العام وغيرها من المتغيرات الاقتصادية الكلية ذات التأثير العميق في استقرار السوق المالي وسلامة تعاملاتهم!
ختاماً، مازالت العلوم الاقتصادية الكمية تبني نماذجها القياسية والرياضية الشديدة التعقيد على افتراضين رئيسين هما: (1) إن الأفراد يتصرفون بعقلانية ازاء قراراتهم الاقتصادية وهم يدركون (اي الافراد) منطق تلك النماذج الرياضية، على الرغم من تعقيداتها، (2) وان الاسواق هي في غاية الكفاءة وتعمل بشكل صحيح على تعديل او تصحيح نفسها لبلوغ حالة التوازن او الاستقرار. ولكن تجد نفسك فجأةً وقبل ان تصحح الاسواق نفسها انك قد اصبحت فاقداً للسيولة وان مشروعك يعاني من الإفلاس أو ما يسمى بتدهور الملاءة! إنه عالم غريب في تصرفاته الاقتصادية حقاً ولم يجن من غرابته الا استمرار الأزمة الاقتصادية العالمية التي طال انتظارها..!!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى