أخبارإقتصادفي الواجهة

تقدير قيمة العملة ..كيف يتم ذلك

د.مظهر محمد صالح
ينصرف مفهوم المعادل العام للقيم Numeraire الى وجود سلعة مفردة تمثل السلعة الاساسية مما يجعل السلع الاخرى كافة تُسعرإزاء تلك السلعة الاساسية.وان هذه المقارنة تجعل بالامكان تشخيص اي سلعة هي الاعلى اوالاقل بالقيمة من السلع الاخرى.وعلى هذا الاساس اقرت اتفاقية بريتون وودز في العام 1944 الدولار الامريكي بكونه المعادل العام للقيم .وجرى تسعير الاونس الواحد من الذهب بكونه يعادل 35دولار امريكي .كما ان جميع عملات العالم هي اما اجزاء من الدولار اوهي من مضاعفات الدولار اوتفوقه.وهكذا ادى الدولار دور المعادل العام للقيم بسبب ثباته الى سعر الذهب على مدى ربع قرن من الزمن.الا ان نظام الصرف الثابت في تحقيق الاستقرار المالي العالمي قد فقد عزمه و انتهى تماماً في مطلع سبعينيات القرن الماضي بسبب محدودية الذهب الرسمي لدى الولايات المتحدة ، وحل نظام نقدي دولاري بديل ولد من رحم النظام النقدي السابق. فقد ارتبط المعادل العام للقيم هذه المرة بسلة سلعية مقومة بالدولار نفسه وتتقلب اسعارها وفق آلية السوق في العرض والطلب وتنسجم مع نظام صرف مرن للدولار.وبهذا خرج الذهب من قيد السعر الرسمي له لينضم هو الاخرالى سلة السوق ضمن سلسلة سلعية رئيسة متكاملة لتشكل عماد المعادل الجديد للقيم .إذ ضمت تلك السلة السلعية النفط مع الذهب ليكونا في مقدمة مكوناتها ،اضافة الى المحاصيل الزراعية و مجموعات سلعية مختلفة اُخرى يجرى تداولها جميعاً بالدولار الامريكي.بعبارة أخُرى انتقل الدولار كمعادل عام للقيم من احادية الذهب الرسمي ثابت السعر( كسلعة اساسية) الى التعددية السلعية الاساسية، التي كان الذهب من بينها ،وهي سلع تمتلك وظيفة خزن القيمة او الثروة التي هي من وظائف النقود ايضاً… وكانما هي الدولار نفسه.فبدلاً من ثبات معامل السعر بين الذهب والدولارالنقدي (حسب اتفاقية بريتون وودز) لكي يؤدي الدولار دور المعادل العام للقيمNumeraire .بعبارة اُخرى ،فأن ثمة علاقة سببية تولدت في مرحلة مابعد بريتون وودز وهي الروابط والآليات بين ارتفاع اسعار السلع الاساسية المقومة بالدولار اي(التعددية السلعية) ..وبين انخفاض قيمة الدولار نفسه او العكس بالعكس ضمن دورة تجارية سلعية- دولارية cycle لاتقتصر على الذهب المقوم بالدولار فحسب بل تذهب الى النفط المقوم بالدولار ايضاً وعدد من السلع الاخرى المقومة بعملة الولايات المتحدة والتي يتم التعامل بها جميعاً من خلال الوحدة النقدية الامريكية.فالدورة السلعية -الدولارية ،امست متأتية من المظاهر الجديدة للنظام المالي الدولي حيث عُدت السلع الاساسية المقومة بالدولار الملجأ الآمن لحفظ القيمة اوالتحوط hedge بدلاُ من الدولار نفسه مما يساعد على ثبات القِيم والعكس بالعكس عندما ترتفع قيمة الدولار وتنخفض اسعار السلع الاساسية دون ان يفقد الدولار الامريكي دوره في هذه العلاقة التبادلية بين النقود وبدائلها المقومة بالعملة نفسها.انه نظام نقدي ظلي جرى استحداثه بهوية الدولار والسلع الحقيقية المرتبطة به.ولايخفى ان مصدر الدورة cycleالمذكورة أنفاً هي قوة الاقتصاد الحقيقي وتأثيرات اسواقه الفاعلة في مواجهة تحركات الاقتصاد الاسمي وإظهار التماسك الحقيقي في الحفاظ على القدرة التنافسية والتحوط من فقدانها ،وهو الامر الذي يفسر ظاهرة هبوط الدولار مع تعاظم اسعارالنفط والذهب والبضائع الاخرى من السلع الاساسية.
لقد مثل الانتقال من النظام النقدي القائم على الدولار كمعادل عام للقيمة مربوطاً ربطاً رسميا بسعر ثابت للذهب (وعد الذهب سلعة اساسية مفردة ،مع نظام صرف ثابت رافقه تحرير في الحساب الجاري لميزان المدفوعات الى حد بعيد) والتحول الى نظام نقدي دولي مستحدث يكون فيه الدولار معادل عام للقيمNumeraire ولكن مربوط (بسلة سلعية اساسية تتحرك اسعارها وفقاً لقوى السوق وبنظام صرف مرن مع الميل نحو تحرير الحساب الراسمالي لميزان المدفوعات اضافة الى تحرير الحساب الجاري ) مَثل حقيقة التحول او الانتقال الجوهري في النظام النقدي العالمي الراهن .حيث امسى الخزين العالمي من الذهب المنتج والنفط والمحاصيل وغيرهما جميعاً، هي السلع الاساسية التي يتعادل معها وبها الدولار الامريكي نفسه في آن واحد في سوق السلع الاساسية المندمجة بشكل او بآخر بسوق النقد والتي شكلت التطور الحاصل في السوق المالية الدولية(العولمة المالية) وقدرتها على تدوير فوائض العالم من الدولار ولكن في مستودع الدولار السلعي نفسه وليس خارج حاضنته.
اوجد التعطش الدولي المستمرعلى الدولار مسالك تحليلية مختلفة ولاسيما تلك التي تناولت وضع الاحتياطيات الرسمية الدولية .إذ لاحظ صندوق النقد الدولي على سبيل المثال ،أن الاحتياطيات الرسمية الدولية ربما ترتفع عن معدلاتها التي تزيد على 60% من الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة الامريكية( كما كان عليه الوضع في العام 2010 ) لتبلغ حوالي200% في العام 2020 وقد تقترب من 700% من الناتج المحلي الامريكي في العام 2035.في وقت مازالت التجارة العالمية تسدد مدفوعاتها بالدولار الامريكي وبمعدل يبلغ 83% من قيمة تلك التجارة بين الامم .وان نسبة 56-60% من الاحتياطيات الرسمية العالمية هي بالدولار الامريكي ولاسيما الاحتياطيات المتعاظمة لاقتصادات البلدان ذات الاسواق الناشئة التي يبلغ عددها اليوم بنحو 54 بلداً من بلدان العالم وهي تحصد قرابة 50% من النمو السنوي في العالم.كما ان 60% من القروض التي تمنحها المصارف العالمية اليوم تسدد ايضاً بالدولار الامريكي . وحتى لايفقد الدولار قيمته ،فأن شدة طلب الاقتصادات الناشئة على الاحتياطيات الاجنبية ومخاوفها اليوم من ان يفقد الدولار قيمته،هي المخاوف نفسها التي اثارها الاقتصادي البلجيكي Triffinمنذ العام 1947 عندما بدأ العالم يعتمد على عملة احتياطية واحدة هي الدولار. اذ لاحظ Triffin ان على الولايات المتحدة ان تُصدر المزيد من سندات الدين الحكومي لتسهيل مهمة التجارة العالمية ومواجهة الطلب على تلك الاحتياطيات.
وهكذا غدت مناطق الدولار هي ليست التعامل بالدولار الامريكي فحسب وانما هناك انتاج سلعي رئيس يمثل مخزن للقيمة ومقوم بعملة الدولار ويمارس وظيفة شبه الدولار.فالتحول من الدولار الى السلع الرئيسة يتم من خلال التحوط بالسلع الدولارية نفسها،مما اوجد آلية للعرض والطلب على الدولار لمصلحة سلع حقيقية اساسية اعتمدها الاقتصاد الرمزي في تداولاته و التي تعمل في مناخ عُملة الدولار.
وبناء على ماتقدم،فثمة متلازمه شبه رباعية بين الدولار الامريكي من جهة والنفط والذهب والمحاصيل الزراعية الحاكمة المقومة بالدولارمن جهة اٌخرى،ما خلق نظاماً نقدياً بديلاً او مسايراً للدولار ،اذ استبدل فيه الذهب النقدي (الرسمي) بالذهب غير الرسمي من خلال سوق السلع ،بعد ان اضيف اليها النفط الخام ومشتقاته والمحاصيل.وان حاضنتهم اليوم جميعاً هو التطور الحاصل في الاسواق المالية وبالذات اسواق المستقبليات future marketsحيث تتم المتاجرة بالسلع الاساسية الثلاث او غيرها عن طريق المضاربات المالية للبحث عن هوامش للربح ومكاسب مالية .وان ثمة مرونة عالية في الاحلال بين السلع الاساسية المذكورة وآلية المضاربة بها والاستثمار بالدولار الامريكي. وبهذا فأن الاسواق المالية ومكوناتها السلعية هي التي حولت النظام النقدي من كونه مقتصراً على معادل عام احادي Numeraire يعتمد الذهب الرسمي الثابت القيمة(اي الدولار) الى نظام سلعي دولاري متتعدد يعتمد قوى السوق وتوازناتها.
فبدلاً من عملة لقاء سلعة مفردة ثابتة الثمن هي الذهب فقط(وحسب نظام بريتون وودز ) ليتحدد بموجبه المعادل العام للقيم اي الدولار الامريكي، صار هناك نظاماً نقدياُ آخر اصبح الدولار فيه ايضاُ معادل عام للقيم ولكن مقابل محفظة سلعية متعددة تتحدد اسعارها في اسواق المضاربة المالية وبعلاقة عكسية.
وبهذا جعلت( العولمة المالية )من اسواق المال او البورصات متعة ميسرة لمن يريد ممارسة المضاربة المالية بحرية عالية.فبأمكان الفرد شراء النفط او الذهب او اطنان من النحاس من سوق المستقبليات دون ان يفكر بأن مرآب بيته هو نفسه لايستوعب عشرة براميل من النفط الخام او طن من النحاس.فالشراء يأتي بغية البيع الرمزي لاحقاً للحصول على هوامش ربح من المضاربة ليس الا! ذلك بغض النظر عن طعم النفط او لون النحاس! انها كازينو الاقتصاد الرمزي او الاسمي حقاُ.
ان السلع الاساسية البديلة للدولار هي اليوم الذهب والمحاصيل الزراعية اضافة الى النفط او مشتقاته والتي تتحوط بها كازينو الاقتصاد الاسمي او الرمزي وكذلك مختلف المضاربين في السوق المالية . اذ ترتفع قيمة الاصول المالية ومشتقاتها بمقدار 20مرة على قيمة الناتج المحلي الاجمالي العالمي البالغ اليوم بنحو 73 تريليون دولار
.وان هنالك متلازمة بين الارتفاع في قيمة الدولار والانخفاض في اسعار النفط والذهب حيث تتراجع اسعار الذهب اليوم لتبلغ نحو 1200دولار للاونس الواحد او اكثر بقليل مع ارتفاع ملموس في قيمة الدولار ازاء العملات الاخرى.
فالتحوط في هذه الايام بات بالدولارنفسه الذي ترتفع قيمته وربما سيصبح التحوط اقل صوب سوق مستقبليات النفط او الذهب او المواد الغذائية ،وعلى خلاف ما كان يحصل في فترة ازدهار اسعار البضائع commodities ولاسيما في سلعتي الذهب والنفط .وعلى الرغم من ذلك ، فقد لوحظ ومن خلال الشواهد التاريخية القريبة ان استهلاك النفط الخام لم بنخفض الا بنسبة 3% ذلك عندما انهارت اسعار النفط في السوق العالمية من 140 دولار للبرميل الواحد الى 40 دولار للبرميل نفسه عند مطلع العام 2009.كما يلحظ ان كل (خَمسة) براميل نفط منتج للتصدير تذهب ابتداءً الى سوق المضاربة المالية او كازينو النفط مقابل( برميل واحد )فقط يذهب مباشرة الى التكرير ثم الاستهلاك. وترتفع حصة السوق المالية من المشتقات النفطية الى ( سبعة براميل )لاغراض المضاربة مقابل( برميل واحد فقط) من تلك المشتقات (وبالذات وقود البنزين) ليأخذ ذلك البرميل طريقه الى الاستهلاك المباشر.
وعلى الرغم مما تقدم،فان المضاربين المنغمسين في البيع والشراء في سوق المستقبليات ،هم مازالوا في غفلة لكي يوجهوا اسئلة كافية الى السلطات الرقابية في دول العالم المختلفة عن المخاطر النظامية المحتملة والمحدقة بنشاطاتهم الماليةوالتي تخضع لتأثيرات السياسة الاقتصادية الحكومية ،مثل اسعار الفائدة واسعار الصرف و وضع ميزان المدفوعات ومستقبل سياسة الدين العام وغيرها من المتغيرات الاقتصادية الكلية ذات التأثير العميق في استقرار السوق المالية وسلامة عملياتها.
الاستنتاجات
لقد تحول النظام النقدي العالمي في توصيفه للمعادل العام للقيم Numeraire من الاحادية السلعية الممثلة بالذهب الرسمي وعلى وفق نظام الصرف الثابت(نظام بريتون وودز الماضي) الى التعددية السلعية الاساسية الحالية وعلى وفق معطيات السوق المالية الدولية وانظمة الصرف المرنة وحرية حركات رؤوس الاموال ،اذ تتحرك قرابة 4-5 تريليون دولار يومياً من رؤوس الاموال القصيرة الاجل بين اسواق العالم لاغراض المضاربة المالية والكسب السريع ،في حين نجد ان اجمالي التجارة العالمية من السلع والخدمات لاتتعدى
22تريليون دولارسنوياً.انها لُعبة السوق واستغراق الفائض الاقتصادي للامم او نهب الفائض الكامن كما اسماه الاقتصادي الراحل بول باران في كتابه الشهير: الاقتصاد السياسي للنمو، سواء اكانت بلُعب الحرب الميدانية وخلق الدول الارهابية (وهو الانموذج المستحدث للحرب في القرن الحادي والعشرين وهو الانموذج القادر على استنزاف عائدات الثروات النفطية) ام بلعب حروب الاسعار وهبوط .اسعار السلع الاساسية او الرئيسة كا لنفط اوالذهب اوالمواد الغذائية .اذ يواجه ذلك الهبوط، توافر نظام نقدي ظلي او مساند عبر الحركات اليومية للسوق المالية(كسوق المستقبليات) واجمالي المضاربات المقومة بالدولار في الاقتصاد الاسمي، في خضم دورة تحوطhedge تتقلب فيها قيمة الدولار في سوق النقد –وبشكل معاكس لتقلب اقيام السلع المتعددة الرئيسة المقومة بالدولار نفسه في السوق المالية.
فالمحصلة هي ان النظام النقدي الدولاري الحالي قد اوجد محفظة استثمارية واحدة متنوعة بموجوداتها المالية/السلعية والنقدية وان الدورة المذكورة آنفاً لاتخل بتوازن واستقرار قيمة المحفظة الدولارية التي تتلخص وظيفتها الرئيسة في تدوير الفائض الكامن حول العالم فحسب!!! .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى