دردشة أدبية وفنجان قهوة افتراضية مع الروائي المضيء سعد سعيد
دردشة أدبية وفنجان قهوة افتراضية مع الروائي المضيء سعد سعيد
- الواقع لوحده لا يصلح لأن يكون رواية ولا بد من أن نستعين بالخيال ليستوي ما تختزنه ذاكراتنا نصوصًا ماتعة جميلة .
- الرواية الأحبّ الى قلبي هي (ثلاث عشرة ليلة وليلة)،وأعتقد بأنّ فئة الشباب هي أكثر من تقرأ لي.
حاوره / أحمد مكتبجي
“أحبك حبا جما وبلا حدود ولا أريد مقابلا لذلك،فالحب ليس أن تمنحيني فأبادلك المنح،هو عطاء خالص”بهذه العبارات الندية التي تفيض حلاوة وعذوبة ختم الروائي العراقي سعد سعيد ،غلاف روايته الأخيرة”نهر جاسم”الصادرة عام 2023،وكيف لا يبدأ “سعيد” رواياته الـ 16 ولايختمها بكل هذا العصف الذهني، والإعصار الوجداني،ومن دون التعريج على الصراع بين الأنا والهو من جهة، وعلى الصدع الذي لم ولن يردم بين الأنا السفلى والعليا من جهة أخرى، وهو الذي عاش دفق الحب بدفئه وحنانه وخضرته في أتون حروب ضروس بدخانها ومأساتها وآلامها وبما لم تبق حبا ولا دفئا ولا أخضر حيثما حلت ولم تذر!
في خضم ذلك كله لم يجد سعيد بداً من طرح سؤال وجودي ولكن بصيغة تهكمية صارخة في سياق روايته (موت رخيص) وهو المحب للحياة والسلام”ماذا لو تمنى الناس هدأة الموت وفضّلوها على رعب الحياة؟ سيكون عندها الموت رخيصاً، لا لأنّ سعره انخفض ببورصة الواقع،بل لأنه ألمّ بناسٍ رخصوا عند أولي الأمر حتى أصبحوا مجرّد أرقام يضحّى بها على مذبح الأطماع السائدة” .
وهكذا ظل الروائي سعد سعيد،بفكره الوقاد،وبقلمه السيال،وبخياله الخصب، و بذاكرته الحبلى، يحلق بقرائه عاليا الى أفق أرحب ليسبر أغوار عوالم مختلفة، ويميط اللثام عن مفاهيم متخالفة، ويكشف عن كنه شخصيات وعلاقات وصراعات ونزوات ونزعات معقدة حرص وبسخرية لاذعة ممزوجة بالسخط ليضيء بعض جوانبها مع وضع السبابة والإبهام على أسبابها وخلفياتها ودوافعها،لا لينكأ جراحاتها ولما تشفى وتندمل بعد،وإنما ليشخصها تارة،وليضمدها أخرى،كل ذلك بين دفتي رواياته التي كتبها بين 2008 – 2023 ومنها”هسيس اليمام “و”ياحادي العيس”و”السيد العظيم “و”صوت خافت جدا”و”ثلاث عشرة ليلة وليلة “و” كواليس القيامة “وغيرها .
وتأسيسا على كل ما تقدم وجدتني أصارع دوامة من البحث الدؤوب عن سعد سعيد،لنتشاطر همومنا سوية،ولنرتشف فنجانا من القهوة الإفتراضية على إحدى طاولات”مقهى الماسنجر”الذي أهدانا إياه الفضاء السيبراني، بعد أن كان الدكتور أمجد الجنابي، حلقة الوصل بيننا ولا سيما حين التهم روايات سعيد التهاما الواحدة تلو الأخرى مستعرضا إياها،ومثنيا على حبكة سردها،وعمق مضامينها، عبر صفحته على موقع التواصل فيسبوك فكانت هذه الدردشة التي لا تخلو من الجراءة فضلا على الصراحة والشفافية بين”أبي خليلين” سابقين لم يبقيا حربا عبثية إلا وزجا في أتونها قسرا،ولا دخانا أو غبارا إلا واختنقا بعصفهما خنقا،ولا خندقا إلا وعفرا جبينهما وخديهما الناصعين بترابه جبرا، حتى صار المُحَاوِرُ صحفيا، فيما صار المُحَاوَرُ روائيا ،ومن رحم الصحافة التي قالواعن نبيلها “الصحافة الحقيقية يُراد بها تقويم المعوجِّ وإصلاح الفاسد وعلاج المعتلِّ” ومن رحم الرواية التي قيل في حَسَنِها”الشرع والعقل لا يستهجنان أن يعمد الإنسان إلى حكاية حادثة خيالية لغرض إشراب نفوس المطالعين حكمةً عالية وعظة بالغة”،ولد هذا الحوار فهلموا لنبحر مع سعد سعيد، بقارب شراعي جديد في بحر فن الرواية العراقية المديد .
- بداية ماذا تقرأ بطاقتك الشخصية؟
-عراقي ولد في خانقين عام ١٩٥٧، شاء قدره أن يكون روائيًا بلا تخطيط، وهو ممتن لهبة القدر،وكلّ الباقي غير مهمّ.
*أين تضع رواياتك في خانة الأدب الواقعي، أم الرمزي، أم الرومانسي، أم التسجيلي، أم الفنتازي، أم إنّك تراها مزيجًا من كلّ ما سبق وقد صهرت بحرفية عالية داخل بوتقة واحدة؟
-لا أضع رواياتي في أيّة خانة، فهذا ليس من حقيّ، ولكنّني شخصيًا أميل إلى الواقعية وأهوى الخيال.
*بكلّ موضوعية، ولا أقول حيادية، ما تقييمكم للرواية العراقية الحديثة،وهل تبوّأت مكانتها الحقيقية بين نظيراتها العربية والأجنبية،أم إنّها تراوح في مكانها تارة، وتعاني من الإقصاء والتهميش تارة أخرى على مستوى معارض الكتب ودور النشر والتوزيع، فضلًا عن اللجان التحكيمية خلال المسابقات العربية والإقليمية؟
-ليس من حقّي أن أقيّم، فأنا مجرّد كاتب، ولكن رأيي الشخصي هو أنّ الرواية العراقية لم تنّضج بعد إلى الدرجة التي تستحق أن تكون مدرسة خاصّة، ولعلّ السبب هو أنّ العراق بلد الشعر، وشتّان ما بين العقل الذي ينتج شعرًا، والآخر الذي ينتج رواية ، أمّا عن الإقصاء والتهميش فأنا أتمنّى على الذين تعوّدوا على تكرار هذا الادّعاء المزيّف، أن يكفّوا، وأن يحاولوا أن يكتبوا روايات حقيقية بدلًا عن ذلك.
- مسارات متعثّرة، وأزمنة مختلفة، بل ومصائر مفجعة لبعض شخوص وأبطال رواياتك المهمّة، فهل هذه الشخصيات علاوة على الأحداث، حقيقية، أم إنّها من بنات أفكارك،ومن نسج خيالك،أم تراها قد جاءت استدعاء من اللاوعي، واستحضارًا من الذاكرة الحبلى لتكون بمثابة إسقاط ومخاض طبيعي بناء على ثراء تجربتك،وسعة اطّلاعك،وكثرة قراءاتك؟
-الواقع لوحده لا يصلح لأن يكون رواية، لا بد من أن نستعين بالخيال ليستوي ما تختزنه ذاكراتنا نصوصًا ممتعة جميلة، نعم، هي استذكارات من الذاكرة الحبلى، يتعاون فيها العقل مع المخيلة لبناء عالم يسعد الداخلين فيه.
- لقد أبدع الناقد الأدبي”صادق الطائي” في تقديمه لروايتك “فيث- فيرجوالية ثالثة”، وأسهب في استعراض ألقها وتميزها وحجم إبهارها، حتى عدّها واحدة من الروايات العربية القلائل التي نجحت بتوظيف العوالم الافتراضية والتقنيات في السرد الأدبي، ولا سيّما من خلال الحوار الشائق الماتع بين (أنس حلمي) والكودي،والسؤال الذي يدور في خلدي هاهنا، وأخاله قد دار قبلًا في أذهان القراء، ما معنى “فيرجوالية” ولماذا خصّصت لها ثلاثية ولم تختمها بواحدة على منوال رواياتك السابقة واللاحقة؟
-الحقيقة هي أنّ للأستاذ صادق فضلًا كبيرًا في وجود هذه الثلاثية التي أعتزّ بها، فقد كان من أبرز المعجبين بهذه الرواية التجريبية التي كتبتها باستحياء وقلّة ثقة، وهو من أعطاني الثقة الكاملة بما جرّبت، فقرّرت أن أصل بها الى النهاية، وآمل أن أكون قد نجحت.
أمّا عن معنى فيرجوالية، فهي كلمة نحتّها من كلمة virtual الانكليزية التي تعني الافتراضي، ومن المعروف أنّ عالم الانترنيت يسمّى العالم الافتراضي،ولذلك أطلقتها لأنّ الرواية تعني بهذا العالم وما بدور فيه.
- أفترض بأنّك قد وضعت الركائز الأولى، ونسجت الخيوط العريضة لروايتك “إنسانزم”، مستلهمًا إيّاها من تجاربك المريرة، ومن يومياتك الأليمة المعاشة خلال الحرب العراقية- الايرانية قبل أن تسقطها على القرد – الانسان “تيمو”، كذلك على الراويين، المعلوم منهما والمجهول ضمن سياقها، حدّثنا قليلًا عن هذه الرواية الرائعة .
-الفضل في هذه الرواية يعود الى الصديق المرحوم الشاعر سلمان داود محمد، الذي طالبني بأن أكتب له قصة لينشرها في مجلة”آفاق أدبية “أيام كان رئيًسا لتحريرها، فواتتني فكرة تيمو التي ما إن بدأت بها حتى أيقنت بأنّها ستتعدى حدود القصة، فاتّخذت قراري بأن أحوّلها إلى رواية، وقد استعنت من أجل ذلك بذكرياتي من الجبهة، فكانت انسانزم.
- وماذا عن روايتك الأولى “الدومينو”؟ وهل كانت بمثابة قدم السعد ولا أحبّذ استعارة مصطلح “تعويذة الحظّ”التي تذكّرني بتخاريف راسبوتين، ورباعيات نوستراداموس، وهلاوس ليلى عبد اللطيف،هذه القدم التي فتحت أمامك أبواب الكتابة مشرعة لتطلق العنان لأفكارك،ومن ثَمّ لتمتطي صهوة قلمك وتشق غبار الكلمات بعد طول امتناع، أو لنقل انكفاء على الذات حيال كتابة الرواية ودخول عوالمها الكبيرة مشوبًا بالحذر؟
-الحقيقة هي أنّني كتبت الدومينو لقارئة واحدة، ولم أفكّر البتة بنشر أو اقتحام عالم الرواية، ولكن القدر شاء أن تكون هي السبب في دخولي هذا العالم اللذيذ، نعم هي التي شرعت أمامي كل تلك الأبواب.
- في روايتك “قال الافعوان”استطعت أن تطوّع الرمز خلال السرد لتزاوج من خلاله وبحرفية عالية بين التراث العربي وعالم الحيوان والتاريخ والايديولوجيا، ففي أيّة خانة تضع روايتك تلك؟
-أخبرتك بأنّني لا أقيّم ولا أضع رواياتي في خانات، كلّ الذي أعرفه هو أنّني تمتّعت جدًّا بكتابة قال الأفعوان، وساعدني في ذلك قراءاتي التأريخية الكثيرة، وأنا أشعر بامتنان كبير لكلّ من قرأها وفهمها وتمتّع بها، وأخصّ بالذكر د. سعد داحس،الذي درسها في بحث أستطيع من خلاله أن أقول بأنّه كاد يصل الى الكمال في فهم رموزها،وهو ما أحتاجه من القرّاء ككاتب.
- لجنابك الكريم تجارب في كتابة قصص الأطفال،وسيناريو لأفلام التسجيلية، أما زلت تكتب للأطفال والسينما؟
-أتمنّى ذلك،ولكن للأسف لا أستطيع حاليا لانشغال بالي المستمرّ بعوالم رواياتي.
- هل أدرجت واحدة أو أكثر من رواياتك ضمن القوائم الطويلة أو القصيرة في بعض المسابقات العربية المعروفة نحو “البوكر” و”كتارا”؟
-لا أبدًا، ولا يهمّني الأمر، فأنا أربأ بنفسي عن عالم الجوائز لكي لا أضطرّ إلى محاباة أو تزوير، فما أريده هو أن أقدّم الحقيقة كما أؤمن بها فقط.
- باستثناء رواية “فرانكشتاين في بغداد” لماذا برأيك لم يفز أحد من روائيينا بجائزة عالمية؟ ولماذا لم تتحوّل رواية واحدة من رواياتنا إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني، عربي أو أجنبي على حدّ علمي، أسوة بروايات إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وأسامة أنور عكاشة وغيرهم؟
-الأمر واضح جدًّا، فأمّا إنّها لم تنضج بعد لتقدّم ما يستحق أن تتصدّر الصفوف، أو إنّها لا تلبّي متطلّبات أصحاب الجوائز الذين يمتلكون ايديولوجيات خاصّة بهم، أو مصالح.
- قديمًا قيل”الكتاب أو الرواية تُؤلَّف في مصر، وتُطبَع في لبنان، وتُقرَأ في العراق، ” أوَ ما يزال الوضع على ما هو عليه؟ أم إنّ المعادلة قد تغيّرت جزئيًا أو كلّيًا برأيكم؟
-أعتقد جازمًا بأنّ هذه المعادلة قد تغيّرت، ويرى من يهتمّ بالإحصائيات بأنّ معدّل القراءة في مجتمعنا منخفض جدًّا، خاصة نسبة إلى العالم الغربي والدول المتقدّمة.
- أيّ رواياتك هي الأحبّ والأقرب إلى قلبك، ومَن الشرائح التي تقرأ رواياتك بنهم؟ ومَن التي تنتقدها أو تتحفّظ عليها؟
-الأحبّ هي رواية (ثلاث عشرة ليلة وليلة)، وأعتقد بأنّ فئة الشباب هي أكثر من تقرأ لي، ولا أنتقد أو أتحفّظ على أحد، فالقراءة تتعلّق بثقافة الفرد وأهوائه، ولا أستطيع أنا أو غيري أن يفرض على أحد ما لا يرغب بممارسته.
- هل في الجعبة رواية جديدة، أو مجموعة قصصية سترى النور لتجد طريقها الى القراء قريبًا؟
-أنا أكتب روايات فقط، وعندي رواية الآن وصلت فيها الى مراحل متقدّمة، وستصدر حال انتهائي منها.
- كلمة أخيرة الى جمهورك ومحبّيك .
-أحبّكم كثيرًا، وأتمنى لو استطعت أن أقدّم لكم ما يفيدكم، ونصيحة مجّانية، خاصّة للشباب، اقرؤوا اقصى ما تستطيعون، اقرؤوا ما دمتم تمتلكون الوقت لذلك، فالقراءة فعل لا يمكنكم أن تندموا عليه أبدًا.
شكرا من القلب للروائي العراقي المتألق سعد سعيد، وتمنياتنا القلبية له بالموفقية والنجاح الدائم ،وقبل أن أدعوه الى جولة واقعية وليست افتراضية في شارع المتنبي لنشرب خلالها شربت زبيب الحاج زبالة،ولنثني بكبة السراي، ولنثلث بالشاي المهيل في مقهى الشابندر لنحث بعدها الخطى قدما ونذرع سوق الكتب ذهابا وجيئة، مرورا بسوق السراي وصولا الى سوق السراجين ، وقبلها في حدائق القشلة الغناء ،وبيت الحكمة،والقصر العباسي، لنلتقط الصور التذكارية قرب ساعة القشلة ، وتمثال المتنبي ، ونازك الملائكة، وإذا بالمثلث الأصفر يظهر أمامي مؤشرا الى انقطاع شبكة الانترنت الضعيفة وبما أهاب بي لإجراء حوار جديد مع نخلة باسقة، وشجرة سامقة ، وقامة عراقية جديدة جلها قد أدمنت التحليق كسعد سعيد ،في سماء التميز والإبداع كطائر الفينيق من تحت رماد الواقع مدلهم الخطوب،متعدد الكروب، ولكن لا عصي البتة على من خبر عوادي الزمن،وتواتر الأحداث الجسام ،وضيق الدروب.