حرب غزة و الرواية التوراتية الصهيونية
أحمد الحاج
لاغرو أن ما ترتكبه دولة الاحتلال من مجازر يندى لها جبين الإنسانية طالت البشر والشجر والحجر في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 تضاف الى سلسلة لا حصر لها من جرائم حرب أرتكبت على مدار أكثر من 75 عاما،لم تكن وليدة ساعتها، فمن يقلب الطرف بتفاصيلها ،ويعمل الذهن بحيثياتها سرعان ما يكتشف جذورها ودوافعها وجلها مستوحاة من نسج خيال،وبنات أفكار من احتكروا شرح وتفسير- التناخ- التي تمثل بمجموعها الكتب المقدسة عندهم زيادة على التلمود بنسختيه البابلية والاورشليمية وكتاب الزوهار.. شروح وتفسيرات ذات أبعاد أثنية وسياسية وعنصرية تمخض عنها مسخ متفرد بغرابته سوسيولوجيا وسيكولوجيا وانتروبولوجيا وأيديولوجيا غير معروف ولا مألوف وبما يصدق في توصيفه بيت أرطأة بن سهية:
لقد رأيتك عريانا ومؤتزرا…فما عرفت أأنثى أنت أم ذكر
مسخ يستدعي الماضي البعيد والقريب وإن كان أسطوريا بما يكتنفه من أحقاد وضغائن ليسقطها إسقاطا معاصرا يسوغ من خلاله تهجير وتجويع شعب بأسره بجريرة ما اقترفه أسلافه في – زمكان ما – من وجهة نظر صهيونية بحتة مع تبرئة ساحتهم من المقدمات والنتائج ،ليستجدوا بتلكم الأساطير والمظلوميات تعاطفا دوليا، وحصانة أممية،وأموالا طائلة، ودعما عسكريا وسياسيا ولوجستيا لا محدود، زيادة على تبرير ما يقترفونه من جرائم نكراء بحق المظلومين والمدنيين العزل.
أسطورة شمشون
قد يبدو العنوان لوهلة مجرد دعابة لا علاقة له بالواقع المعاش إلا أنك لو أمعنت النظر بعديد الافلام السينمائية التي صفقنا لأبطالها المفترضين طويلا أيام مراهقتنا أو بالأحرى سذاجتنا داخل صالات العرض السينمائية المكيفة داعين لهم بالنصر والتمكين، وعلى أعدائهم بالجحيم والنيران، وهي تستعرض أمامنا شخصية “شمشون” أو Samson ، وهو اسم عبري معناه “شمس”وفقا لقاموس الكتاب المقدس، إنما كانت مخاض ترسيخ مفاهيم مغلوطة في العقل الجمعي لشعوب العالمين الثالث واللاهث على حد سواء ،ولاسيما وأن بطل الأمس– شمشون -هو أيقونة اسرائيل اليوم، فيما يمثل أعداؤه بحسب السيناريو أسلاف شعب غزة، ولو أننا أستوعبنا الدرس وإن كان متأخرا لأضاء ذلك الفهم جانبا معتما منها، ولوضع السبابة والإبهام على بعض ما أبهم وأشكل منها، وأولها الفيلم النمساوي الصامت “شمشون ودليلة “انتاج عام 1922، أما أشهرها فهو الفيلم الامريكي وبذات العنوان “شمشون ودليلة”وهو من انتاج عام 1949، وأخيرها وليس آخرها فيلم “شمشون” وهو انتاج أمريكي – جنوب أفريقي مشترك انتاج عام 2018،أفلام حققت شهرة طاغية وكلها مستلهمة من ميثولوجيا “شمشون الجبار” المذكورة في سفر القضاة (13: 2-24) وتفاصيل صراعه من الفلسطينيين في مدينة غزة التاريخية تحديدا ،أما “دليلة “وبحسب العهد القديم فهي امرأة فلسطينية غزاوية أحبها شمشون بعد مصرع زوجته الأولى فاحتالت عليه وتوصلت الى سر قوته الكامن في شعره الطويل لتذيع سره الى قومها الذين سارعوا بأسره بعد حلق شعره قبل أن تعود قوته ثانية فعمد الى هدم عامودي المعبد الكبيرين فوق رؤوس أعدائه خلال احتفال حاشد ، ليصبح شمشون بذلك بطلا أسطوريا يحاول معظم قادة دولة الاحتلال استنساخه وتسويقه وتقليده ، وبما لايختلف كثيرا عن نظيره ” أخيل ” في الأساطير الاغريقية مع الفارق بأن الأخير كانت نقطة ضعفه في كعب قدمه بدلا من شعر رأسه !
خرافات وأوهام
وهكذا بين رأس يمثل أعلى الهرم، وكعب يجسد قاعدته تذبذبت دولة الاحتلال منذ نشأتها بوعد بلفور المشؤوم عام 1917 بين شعارات قومية علمانية مظهرا،وبين نظيرات لها تلمودية زوهارية كابالانية كولونيالية جوهرا فبرغم مادية وإلحاد الآلاف من أتباعها ولا دينيتهم المعلنة ، إلا أنهم يؤمنون إيمانا جازما بأسطورة البقرات الحمر ، وإعادة بناء الهيكل على انقاض الاقصى، ومحاربة العماليق ، و نبوءة أشعيا، وشمشون الجبار، ولعنة بابل ، والإله “مولوخ”، وظهور “المشيح ” أو “المسيا ” ليقود “معركة هرمجدون ” ويخلصهم من أعدائهم بعد الانتهاء من تجميع الاشكناز ، والسفارديم ، والفلاشا ، والمزراحي في أرض الميعاد أو ما يسمى بدولة اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات ،إن لم يكن “جيو- سياسيا”بالمعنى الحرفي ،فمن خلال التجويع أو التطبيع أو التركيع أو كلها مجتمعة في آن واحد ،وعلى صعيد واحد .
غزة هي العقبة
استشراف الحلم الصهيوني المبني على المخططات الحالية،والاساطيرالماضية لن يتحقق من وجهة نظرهم إلا بزوال غزة من الخارطة أو تركيعها، وقد استعرض المؤرخ ايلان بابيه ،جانبا من أساطيرهم في كتابه “عشر اساطير عن اسرائيل “الصادر عام 2017، سبقه المفكر الفرنسي روجيه غارودي ،في كتابه ” الأساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية ” وتأسيسا على ما تقدم بات يمينهم قبل يسارهم يتحرك لإزالة تلك العقبة الكؤود التي تمنعهم من تحقيق ما يطمحون إليه حتى صاروا يجاهرون بنزع سلاح القطاع فيما تواصل آلتهم العسكرية تدمير كامل بناه التحتية ، وتجويع أهله علاوة على ترهيبهم، تمهيدا لتهجير كل أو جل سكانه الى سيناء أو الى إحدى دول أفريقيا السمراء، بالتزامن مع قضم المزيد من أراضي الضفة الغربية ونزع سلاحها، ومواصلة تجريف الأراضي الفلسطينية ومصادرتها ،والمضي قدما في بناء المستعمرات، ومنع عودة اللاجئين ، والإمعان بسياسة الفصل العنصري “الأبارتايد “ليقدم الجميع فروض الطاعة والولاء الى منظومة الكيان “الدينية – اللادينية ” وينصاعوا لسياسة الأمر الواقع مقابل وعود كمواعيد عرقوب،تارة بـ” حل الدولتين ” وأخرى بـ” حل الدولة الواحدة ” أو بصفقة القرن،ولا عبرة بالاسماء والعناوين بقدر المعاني والمضامين ، وكيف لاتكون غزة التي احتلت عام 1967 قبل أن تنسحب قوات الاحتلال منها عام 2005 الصخرة التي تحطمت عليها معظم مخططاته ، ومنها انطلقت شرارة الانتفاضة الاولى عام1987ولم تتوقف الا بعد اتفاقية أوسلو 1993، ومن غزة انطلقت انتفاضة الحجارة الثانية عام2000 لتستمر حتى عام 2005 بعد اتفاق شرم الشيخ، لتتوالى العمليات العسكرية ضدها منذ عام 2006 أعقبها حصار خانق حتى كتابة السطور استخدمت خلاله كل انواع الأسلحة المحرمة وارتكبت كل أنواع المجازر والفظائع ، وما تزال دولة الاحتلال تسوق نفسها على أنها “شمشون الجبار” الذي يضحى بنفسه ويقتل أعدائه لأجل إرساء السلام الدولي ،وتحقيق الإزدهار والرخاء العالمي ولو على دماء وأشلاء وجماجم الملايين .أودعناكم اغاتي