سمك الزينة

في الصباح تجد الحوض جميلاً أنيقًا والأسماك تسبح سعيدة راضية تلتهم الطعام وتلتقط الحصى.. عند الظهر تجد ثلاث أو أربع سمكات طافية على الماء وقد انتفخت وصارت جديرة بأفلام الرعب الحديثة، فتتغلب على تقززك وحزنك وتحمل هذه ”الجثث” بالشبكة لتلقي بها في المرحاض، وعند المساء تكتشف أن الحوض لم يعد حوض سمك زينة بل هو وعاء زجاجي لحفظ الماء لا أكثر.
عندما ابتعت هذا الحوض قال لي بائع الحيوانات الأليفة في حكمة:
ـ ”لا تطعم السمك لمدة ساعتين بعد وضعه في الماء لأنه يعاني نقص الأكسجين”
صحيح أنه كان يقول هذا وهو يحمل شبكة مليئة بالأسماك الميتة ليضعها في قفص القطط المنزلية التي يبيعها، لكني قلت لنفسي إنه يعرف ما يقول. وعندما عدت له لأخبره أن معظم الأسماك ماتت سألني في شك:
ـ”هل أطعمت السمك على الفور؟”
فقلت: لا.. هكذا هز رأسه متعجباً من جهلي، وأكد أن هذا هو الخطأ بالذات.. لابد من إطعام الأسماك فوراً لأنها تكون في حاجة إلى سعرات عندما تنقل لمياه جديدة. ابتعت منه بعض الأسماك ممتناً لوجود خبراء في هذا العالم، وعدت لأملأ الحوض من جديد ولم أنس أن أضع للأسماك الطعام فوراً. عندما طفت الأسماك -وهو عنوان فيلم شهير لكاكويانس- عدت له لأفهم.. تنحنح بحكمة القرون كأن أجداده كانوا عمالقة البحار، وقال:
ـ”هل تضيء النور في الحوض طيلة الوقت؟”
ـ”نعم”
ـ”هذا هو السبب إذن.. لابد ألا يضاء الحوض أكثر من ثماني ساعات وإلا تكاثرت الطحالب”
هكذا عدت للبيت وانتزعت فيشة النور، وتحملت أن يتحول الحوض المضاء الجميل إلى كتلة سوداء كئيبة جاثمة في الظلام تذكرني بالتوابيت. على أنني عندما أعدت وضع الفيشة في القابس وجدت أربع أسماك تطفو على السطح وقد انتفخت وتشوهت.
عدت للرجل العبقري أطلب رأيه فحك رأسه مستحضرًا حكمة القرون وسألني عن ظروف الإضاءة .. ثم عرف أنني أحمق أطفئ النور أكثر اليوم فقال ضاحكاً:
ـ”خطأ جسيم.. السمك كالنباتات يحتاج إلى النور.. هذه الأسماك تطفو قرب السطح ولا تنزل للقاع أبداً..”
طبعًا كان السبيل الوحيد لعدم قتله هو أن أستعين بغيره.. وقابلت الكثيرين من هؤلاء الحكماء الذين ينصحونني بأن أضيف الكثير من الملح لمياه الحوض ومن ينصحني بألا أضع الملح أبداً.. وهناك من يعطيني زجاجة صغيرة باهظة الثمن أسكب منها قطرات في الحوض، فإذا فعلت ومات السمك قال لي في جزع: لابد أنك وضعت الدواء ثم أطعمت السمك فوراً.. هذا خطأ..
الآن وقد صار الحوض جثة هامدة ملقاة على سطح البناية، يستخدمها القط كحمام أحياناً، عرفت الحقيقة المروعة: لا أحد يعرف شيئاً على الإطلاق.. نحن محاطون بالذين يتظاهرون بالحكمة والعلم، وتكمن عبقريتهم في التملص من الأخطاء المحرجة. هناك تلك الزوجة الأميركية التي قالت عن زوجها إنه خبير في سباق الخيول.. يخبرك قبل المباراة بالجواد الذي سيفوز ويخبرك بعد المباراة بسبب عدم فوز هذا الجواد!.
كل هذا يتلخص تحت عنوان كبير اسمه (الحكمة بأثر رجعي).
إن البورصة والمصارف تعج بهؤلاء العباقرة على كل حال.. أذكر أن قريبة لي وجدت أن الناس جميعاً في مصر يحولون نقودهم إلى دولارات لأن سعرها سيرتفع. هرعت إلى المصرف لتحول مبلغاً ضخماً إلى دولارات، فقال لها مدير المصرف -وهو قريب لنا- في ذكاء وغموض: لا تفعلي.. سوف يرتفع سعر اليورو ولسوف تندمين. هكذا عادت لدارها سعيدة لأنها تعرف رجلاً حكيماً كهذا.. بعد شهرين عادت للمصرف من جديد لتبتاع دولارات فلم تجد دولاراً واحداً. نظر لها المدير لائماً لبضع دقائق ثم قال:
ـ”ألم أنصحك منذ شهرين بأن تبتاعي دولارات؟.. ألم أقل لك إن سعر الدولار سيقفز للسماء فلم تصغي لي؟.. عليك أن تتحملي نتيجة عدم الإنصات لي إذن..”
لم تستطع أن تقول أي شيء أو تذكّره بما قال.. كل هذا عبث مع شخص كهذا.. هكذا غادرت المصرف وقد عقد الغيظ لسانها.
إلا أنني عندما حكت لي القصة قلت إن عليها أن تحمد الله على وجود هؤلاء الخبراء في حياتنا، فلولاهم لضعنا منذ زمن سحيق.. دعك من كل سمك الزينة الذي كان سيطفو على السطح بسبب جهلنا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى