قصي بن فرج
اعتقد نعم، فنحن تعلّمنا، بمعنى اننا حصّلنا علمًا ولم نعد امّيين، وصار بإمكاننا القراءة والكتابة، بل صار بعضنا كُتّابا ومدرّسين، والبعض الاخر صاروا اطبّاء ومهندسين، محامون، وصار لكل فرد فينا دور اجتماعي كسبه بما راكمه في المدرسة، صحيح ان البعض لم يتفوّق ولم يكن قادرا على مغادرة ساحات طلب العلم الى ساحات افضل، ولكنه ربما يكون قادرا على التميّز في مجالات اخرى، فنحن لسنا متشابهين بشكل عام، لسنا مُطالبين جميعا ان نكون مفكرين او نقّادًا او حكماء، لكون هناك حاجة ايضا لمهن اخرى، لحرفيين مثلا، ولمن يبني المدارس و لمن يصنعون طاولاتها. بمعنى ان الامر ليس كارثيا الى ذلك الحدّ، هناك نقاط ضوء يمكن البناء عليها لضمان مرور سلس الى محطات اخرى متقدمة وقادرة اكثر من غيرها على تلبية الاحتياجات المستقبل وملائمة وعي الحاضر.
ما الشيء الذي يجعلنا نبحث عن حلّ اذن؟ وجود مشكل. ما المشكل؟
عادت امي هذا المساء الى البيت بعد يوم شاق ومنهك مُحمّلة بأوراق كثيرة انهمكت بعد ان اعدّت العشاء في اصلاحها، درّست خلال هذا اليوم اربعة اقسام واكثر من مائة تلميذ بدا لي من حالها عند عودتها بأن اغلبهم قد صاروا مشاغبين زيادة عن اللزوم، هي تزاول هذه المهنة منذ اكثر من ثلاثين عاما والى الآن وكلّما وجدت حيّزا زمنيًا بين إلتزاماتها المهنية والخاصة تطوف بين الادارات تبحث عن ما ان كانت هناك امكانية لنيل تقاعد مبكّر من ما تعتبره استنزافا لصحتها النفسية رغم ايقانها بكونها تقوم بأحد اكثر المهن نُبلا.
تحدّثني بين الفينة والاخرى، او كُلما راودني الفضول لسؤالها، عن الهوّة الشاسعة بين جيلنا والجيل الحالي، على مستويات كثيرة، هذا لا يعني ان هناك بالضرورة جيلا افضل من غيره، بل مقصدها بكون التلاميذ قد تغيروا في حين ان المادة العلمية بشكل ما بقيت هيّ ذاتها، فهي ليست محتاجة الى اعادة تأهيل بعد كل فترة واخرى لاستيعاب تطوّرات بيداغوجية وسبل جديدة لجعل المادة العلمية وطرق تدريسها مُحيّنة ما قد يتسبب -حسب تقديرها- بمراكمة مستوى المتاعب التي قد تعترض الطرفين في بنية تحتية فقيرة وجدران يتم اعادة طلائها بإستمرار اثر كل عودة مدرسية ولكن يبدو ان الشرخ الموجود فيها قد يُجهز على كل من في القاعة ان لم يعالج بطريقة افضل خلال السنوات القادمة
يبدو للوهلة الاولى ان العجز الاقتصادي يؤثّر على النفقات الموضوعة على ذمة وزارة التربية ما ينعكس بشكل واضح على المدارس وانتشارها وصياناتها وتطوير بنيتها التحتية وتجهيزها كأحسن ما يكون لتكون منارة للعلم، كما يؤثر ذلك -على حدّ قول المسؤولون- على الانتدابات في هذه الوزارة هذا ما يجعل آلاف التلاميذ الى الآن دون مدرّسين ويجعل المُحصّلة النهائية كارثية على اكثر من مستوى، كما يبدو ايضا ان توزيع النفقات يساهم ايضا في تعميق الازمة وتكبيل الخيارات الاصلاحيّة الممكنة. فلوزارة التربية كادر من الاساتذة والاطارات والعملة والذين يتحيّزون على حوالي ال97% من اجمالي ميزانية هذه الوزارة المُقدّرة ب6743 مليون دينار سنة 2021 رغم كونه عاجز على تغطية مدارس ومعاهد الجمهوريّة، ويتراكم هذا العجز بشكل مستمرّ ويظهر في اكثر من مستوى، ففي الخمس سنوات الاخيرة، تزايد عدد تلاميذ المدارس الابتدائية بنحو 200 ألف في خمس سنوات مقابل تهيئة 7 مدارس ابتدائية جديدة فقط لاستيعابهم ليرتفع عدد التلاميذ للمدرسة الواحدة من 236 سنة 2015 الى 262 اثر السنة الفارطة، امّا في الفترة الإعدادية والثانويّة فقد تزايد عدد التلاميذ بحوالي 10% خلال الخمس سنوات الاخيرة غير انّ عدد الأساتذة قد تقلّص بحوالي 1600 أستاذ. وتعمّ هذه الازمة أيضا لتشمل مدارس التقنية، والتي تعاني من نفس الازمة تقريبا، فتراجع عدد التلاميذ خلال اخر خمس سنوات من 12292 الى 9840 تلميذ وتراجع عدد الأساتذة من 2387 الى 1217 استاذ، أي بحوالي النصف.
كما يٌذكر ان هذه السنة قد شهدت ارتفاعا جنونيا على مستوى اسعار المواد والأدوات المدرسية، حيث أدرك كراس المحفوظات عتبة الثلاث دنانير، 2700 مليم لكرّاس الموسيقى، وارتفع سعر الكراس المدعّم 72 ليبلغ 5400 مليم، 3100 للكراس المدعّم من فئة 48، وغيرها من المستلزمات اليومية للتلميذات والتلاميذ، والتي تُضاف الى مصاريف أخرى كمصاريف الدروس الخصوصية التي تحولت بدورها الى ظاهرة ومصاريف العودة المدرسية والمصاريف اليومية الأخرى.
كذلك يبدو ان الصورة المعنوية التي كانت عند المعلم قد تم ضربها، لم يعد الاحترام القديم الذي كنّا نعطيه لمعلّمينا ذاته اليوم، فالتلاميذ اليوم صاروا يشاهدون فيديوهات معلميهم واساتذتهم تحت كرابيج رجال الامن في الشوارع وهم يطالبون بحقوقهم المادية والمعنوية في استهداف واضح للهيبة المعنوية لرجال ونساء العلم بالتالي للعلم على الأقل بالنسبة للتلاميذ، والتي يبدو ان سُلط الاشراف تعوّدت على التعامل مع رجال ونساء التعليم بهذه الفوقية وهذا العنف الذي يؤكد يوما بعد اخر ان القوة لازالت الحل الوحيد الذي تصر على استعماله الدولة.
فيتراكم كلّ هذا ويُضاف الى غيره من وجوه الازمة ويزيد من عمق المأزق الراهن…
وعليه، فمن غير العجيب ان ينتهي هذا بمحصلة كبيرة على مستوى الانقطاع المدرسي في صفوف التلاميذ، حيث لم يتراجع معدّل المنقطعين وراء عتبة ال80 ألف خلال السنوات العشر الاخيرة، حيث يتراكم هذا الرقم مع مرور السنين دون أي ردّ فعل من سُلط الاشراف ويساهم في تشكّل شريحة عمرية شابة غير مُتعلّمة ولا تتقن ايّ من المهن ولم تنتفع بأي شكل من اشكال التأطير، والتي عادة ما تكون فريسة سهلة لشبكات الاتجار بالبشر وبمافيا المخدرات وغيرها
كما يُذكر، ان تونس -هذا البلد الصغير المتمايز عن محيطه العربي والاسلامي على مستويات كثيرة من بينها التعليم والانفتاح والحداثة-، قد سجلت ارقامًا قياسية على مستوى معدلات الامية يبدو انها بلغت حسب وزير الشؤون الاجتماعية الحالي مالك الزاهي نسبة تقارب ال17%، اي حوالي سدس الشعب الذي يتجاوز عدده العشر ملايين، الأمر الذي لم يحصل منذ بداية تاريخ دولة الاستقلال، ويبدو ان هذه النسبة تتراكم مع مرور السنوات، والتي قد تطرح إشكالات كبيرة في المستقبل.
وعليه، فمن غير العجيب، ان تحدث قفزة خيالية على مستوى ارقام واحصائيات التعليم الخاص في الجمهورية التونسية، حيث بلغ عدد التلاميذ الملتحقين بمؤسسات التعليم الخاص خلال السنة الدراسية الحالية اكثر من مائة ألف تلميذة وتلميذ، في حين كان العدد قبل خمس سنوات فقط في حدود ال60 ألف وبعض الانفار. وبذلك تضاعف تواجد المؤسسات التعليمية الخاصة للسنوات الابتدائية لتتجاوز عتبة ال600 مؤسسة بعد ان كانت في حدود ال320 قبل خمس سنوات.
هذه المُحصّلات الكارثيّة ليست خفيّة على احد، بل هي بإقرار سُلط الاشراف نفسها، يمكن القيام ببحث صغير على الشبكة العنكبوتية ودخول موقع وزارة التربية التونسية والاطلاع على ما تقدمه بشكل دوري من معطيات، لتفهم حجم الذهول والعجز الذي يتراكم خاصة مع سلوك مسايرة الازمة الذي انتهجته الحكومات منذ الثورة الى يومنا هذا وعجزها عن بناء خيارات استراتيجية في علاقة بالتعامل مع ملف التعليم والمتعلمين وآفاقهم المهنية، حيث يرى البعض ان دولة الاستقلال قد انتهجت خيار -لم يتغيّر- وهو تهيئة اكبر عدد ممكن من المتحصلين على الشهائد العليا لتصديرهم للخارج بإعتبار ان الاقتصاد التونسي هو اقتصاد متخلف غير منتج ولا يحتاج يد عاملة كبيرة وتقنيين متفوّقين هذا ما ينعكس على نسب الناجحين سنويًا وعلى مستوى شُعب التعليم العالي والاختيارات الاكاديمية.
كما يبدو أيضا ان ازمة التعليم في تونس ليست ازمة إمكانيات وخيارات فحسب، فالزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، حسب كثيرين عاشوا تلك الفترة، لم يكن يمتلك إمكانات مالية كبيرة لبناء المدارس والقيام بحملة تعليمية كبرى اثر الاستقلال وفتح المدارس للأطفال املاً في مقاومة الامية والجهل وفي بناء جيل جديد متعلّم ومثقف، على الأقل كما اعتقد، لذلك تبدو لي الازمة الحقيقية الكامنة ازمة ذهنيّة، بإعتبار ان العقل الإداري التونسي تبقرط (صار بيروقراطيًا) مع الوقت وصارت تعوزه الشجاعة والجرأة على التفكير في بدائل من خارج الصندوق، لا في علاقة بإيجاد موارد لضمان عمليّة التعلّم فحسب، بل للتفكير في بدائل بيداغوجيّة وتربوية بذات الموارد ولكن انجع، والاكتفاء بالخيارات الراهنة والتي لا تتطلب اجتهادات كبيرة ولا محاولات، مسايرةً لحالة التأخّر وترقيع ما امكن.
في هذا الاطار اعتقد ان المفهوم في حد ذاته بحاجة الى تطوير، ما سينعكس بالضرورة على آليات تنفيذه، فكل المؤشرات والتحليلات التي تُعنى بهذا الموضوع تتحدث عن عوائق بالجملة، خاصة مع الجيل الحالي وربما الاجيال القادمة، هذا الجيل مختلف.
هذا الجيل ادرك الوعي في سنّ مبكرة، نسق الاحداث في عهده كان كثيفا وضُربت عنده مُسلّمات كثيرة واُثيرت امام اعينه مختلف اشكال الجِدالات ما ساهم في تشكّل وعيه بطريقة اسرع، ففي عهده تأثرت العائلة كثيرا بالازمة الاقتصادية الراهنة، واثيرت داخلها صراعات القيادة خاصة مع تحرّر المرأة وخروجها لسوق الشغل، ما جعلها قادرة على ان تطرح نفسها كبديل عن السلطة الابوية الغير محدودة في السابق، كما ان للتطور التكنولوجيا دور هام في هذا الامر، فالطفل اليوم صار قادرا على الولوج للهاتف الذكي والتلفزيون وجهاز الحاسوب، وانشاء حسابات فيها، فكثيرون منهم اليوم صارت لهم حسابات في التيك-توك والانستغرام وغيرها، وبالتالي الانفتاح على معارف جديدة ونماذج جديدة وتعلّم اللغات والاستماع الى انواع مختلفة من الموسيقى ومعاينة ما يحصل في العالم من احداث واستحداث، فتشكّل الوعي لديهم بطريقة سريعة ومُكثّفة، أليس من الغباء ان نُعلّمهم بنفس الطريقة التي تعلم بها جيل كان يعتبر استماعه للراديو حدثًا؟
هناك ازمة نجاعة تفترض القيام بتطوير على مستوى شكل التعليم ومحتواه، اعتقد ان كثيرين يعلمون هذا ويفكرون في بدائل لازالت الى الان لا ترى النور بعد، فالشكل الحالي للفصل الدراسي اين يجلس صاحب الحكمة قُبالة اطفال صغار يُعلّمهم هو ذاته للمراجعة، بإعتبار ان الهامش في الوعي بين الطرفين قد قلّ، لذلك اعتقد اننا بحاجة الى الاستثمار في هذا الوعي المتقدم الذي صار عند التلاميذ بجعل العلاقة بين بعضهم وبين الاساتذة اقرب، واعطائهم مزيد من الثقة في انفسهم بمجرد تغيير شكل الجلوس داخل الفصل المدرسي، وجعل التمايز بينهم معرفي بالاساس بجعل تلامذة اخر الفصل والذين عادة ما يكونون اكثر نفورا من غيرهم اقرب الى تلامذة الصفوف الاولى وجعل الجميع على نفس المستوى من الاساتذة، لهذا لازلت اتبنى فكرة ان اول لبنة لاصلاح التعليم، وقبل الحديث حتّى عن المحتوى ان يتم تغيير شكل مرور المعلومة والعلاقة العمودية بأن يتم تجريب نجاعة ان تكون الفصول المستقبليّة دائريّة بمعنى ان يتوسّط الاساتذة تلامذتهم، وان يكونو على نفس المستوى منه، ولما لا فتح المجال للتلاميذ للاجتهاد وتقديم بعض الدروس او اخر ما اكتشفوا من معارف قد تعترض يوميّهم خارج المدرسة.
بدوره، اظن ان الوقت قد حان لتغيير المحتوى كذلك، فتخمة المعلومات التي يقع تلقينها للتلاميذ لا تزيدهم ذكاءً ولا تنشؤ عندهم ملكة النقد والتفكير بقدر ما تجعل محركات البحث الذهنية عندهم اكثر تكلّسًا، والاجدى تمرين التلاميذ على البحث لا اعطائهم الابحاث جاهزة لحفظها، وتوفير الوقت لاكتشاف مواهبهم وتهذيبها، بدل حشو ذاكرتهم بمعارف قد لا تكون منها ايّة جدوى. كما اعتقد اننا بحاجة الى صناعة نماذج وتصديرها، يجب التركيز على امثلة متميّزة ودعمها من اجل بناء رأي عام تلمذي راغب في الاجتهاد وطلب المعرفة، بإعتبار ان تعطيل المصعد الاجتماعي ساهم في فقدان ثقة عامة في التعليم، ربما البعض من الاولياء صار يعتبره اضاعة للوقت وللمال بإعتبار الانسداد الواضح في الآفاق.
ولما لا التفكير في ادماج المدرسة في الاقتصاد، لتحقيق ربح متبادل معنوي ومادي، فقد شاهدت هذه الايام تقريرا صحفيًا لتجربة يبدو انها في احدى ولايات الشمال الغربي لمدرسة مُجهزة بالطاقة الشمسية، وتبيع ما زاد عن حاجتها لشركة الكهرباء، وتلاميذ بدل ان يغرسوا الفول كما اعتادوا الفعل في اول كل سنة دراسية، توضع على ذمتهم ارض زراعية يشاركون واساتذتهم فلاحتها في ساعات الايقاظ العلمي، قبل ان تزدهر نهاية الموسم بحصول يقع بيعها وتوضع المرابيح على ذمة المدرسة للقيام بالاصلاحات اللازمة في بداية السنة الدراسية واقتناء طاولات جديدة وغيرها من الادوات اللازمة لضمان تعليم جيد كما ان دفع التلاميذ للانخراط في انشطة فلاحية في ساعات الايقاظ العلمي ينمي عندهم انتمائهم للطبيعة واحترامهم لها والمساهمة في مزيد جعل الاماكن خضراء، كما يعيد هذا ترتيب الاوليات في علاقة بالمستقبل والتي يبدو ان الفلاحة قد غابت عنها في حين ان اراضي كثيرة على ملك الدولة بور او يسيطر عليها متحيّلون.
هذا الامر بحاجة الى نقاش جدّي ومسؤول وجريء، لان هذه المسألة بالتحديد هي مسألة استراتيجية بل اهمّها، نحن نتحدث هنا عن المستقبل، المستقبل الغامض الذي يحتاج مجهودات كثيفة ومحاولات واجتهاد من اجل ضمان ان يكون اكثر رفاهًا وتقدّما.