التاريخ البشري يكتبه المتحيزون و يصدّقه العوام؛ فأين علم التاريخ..؟

محمد عبد الشفيع عيسى

التاريخ؛ ما التاريخ؟ تتعدد التعريفات، و لكنا نقصد في مقام اليوم أن التاريخ هو ( ذلك الذي يبقى في الوعي الجماعي بعد أن ننسى ما تعلمناه) كما قال البعض في معرض تعريف العقل. تاريخنا هو ما نعتقد أو نظنّ أنه هو تاريخنا بالذات. هو إذن ليس بالضرورة،التاريخ الذي وقع بالفعل في الماضي أو سيقع في المستقبل، ولكنه الذي نرجح وقوعه، دون عناية خاصة بالوقائع المحددة أو ما يجتمع في صورة واقع معين. بعبارة أخرى، التاريخ قرين الذاكرة . وأما بحث مدى التطابق بين الذاكرة و الواقع، بين الوعي المستكنّ و الحقيقة أو الصدق، فتلك قضية أخرى يُعنَى بها (علم التاريخ).
حسْب المعنى الذي قصدناه، نجد من يقول مثلا إن التاريخ يكتبه المنتصرون، وهذا ليس حقّاً على الدوام، أو ليس صحيحاً في عمومه، أو ليس كله صحيحاً وإنهم ليقولون “التاريخ”، و ما هو بتاريخ واحد ولكن “تواريخ”، فلكل فريق “روايته” الخاصة للماضى (story) فى ضوء حاضره القائم وتصوره للمستقبل .
لذلك أنصحك أيها القارئ الكريم حين تقرأ شيئاً مما يسمى “التاريخ”، أن تمعن النظر فيما قيل و تُنعم هذا النظر فيمن قاله و كَتَب روايته؛ فهو متحيز، غالبا، لهواه أو لمصلحته أو للأمرين معاً. و ما الهوى سوى تكوين معقد من المشاعر المتولدة من الإيمان العقائدى لشخص أو مجموعة إجتماعية، ومن مصلحة إجتماعية أو تصور للمصلحة، ومن ترسبات “ذاتية” ذات طابع إدراكي معقد تكونت وتعاقبت طبقاتها “الجيولوجية” المتراكمة عبر الزمن. و من ثم فإن “الرواية السائدة” من بين “روايات أخرى” هى محصلة لمزيج معقّد من المدركات الذاتية، والمصالح المتصورة، و الرؤى العقائدية .
و هل تظُنّنّ مثلاً أن ما عرفناه أو قرأناه عن أحوال سائدة في العصور القديمة و بعض بلدانها هو حقٌّ كله أو صحيح؟ علما بأن الحق والصدق في الوقائع الاجتماعية، من قبيل الأمور ذات “الطابع النسبي” فى كل حال. وهذا ليس فقط بسبب المزيج المعقد من المشاعر والمصالح والعقائد، ولكن أيضا بسبب نقص المعلومات، وتخلف علم الآثار والحفريات (الأركيولوجيا) برغم الجهود المبذولة فى حقل “أركيولوجيا المعرفة”، كما أشار (ميشيل فوكو) . ثم قد يكتب التاريخَ فريقٌ منتصر كما أشرنا في البدء، و لكن يمكن أن يكتبه أيضا فريق مهزوم يتمتع بملَكة “الرواية”– الحكي أو “القصّ” وبشىء من المقدرة على “إنفاذ” رؤيته بين “العموم “– أو فى شطر مؤثر من هذا العموم، كما يقال في بعض أدبيات علم الاجتماع الحديثة.
إن لكل جماعة اجتماعية “حكّاؤوها” المتفنّنون، بالحق (النسبي) أو بالباطل (النسبي أيضا)، كما لدى الجماعات المسماة “العرقية” التي نصادف حكّائيها هذه الأيام في كل مكان من مشرقنا ومغربنا العربي العتيد، وعلى امتداد “المنطقة العربية – الإسلامية المركزية” وما حولها في آسيا وإفريقيا ، وكذا في عالم الأمريكتيْن وما حولهما فى المحيط. و يجْهَد “الحكّاؤون” فى كلٍّ من هذه الجماعات الاجتماعية على اختلافها، من أجل خلق أو “اختلاق” تاريخ، تثبت بها روايتها السائدة، و التي قد تكون باطلة من الأباطيل، بمعيار “التاريخ الإنساني” القويم . و لعل من أوضح الأمثلة على ذلك: اختلاق “إسرائيل القديمة” من باطن بعض الروايات التوراتية غير المُثبَتة على الأقل، فى محاولة عقيمة لإثبات صحة رواية إنشاء (إسرائيل) تلك الجديدة و القائمة اليوم وحتى يوم قادم قريب.
أما الجماعات المسماة “العرقية”، المنبعثة حديثا في ظروف فريدة ربما معلومة، في قلب عملية التوظيف السياسي الجارية . من الجميع على قدم و ساق، فإنها بازغة من بين أحشاء التركيبات الجيولوجية للأمم والشعوب الحاضرة و هي كثيرة الآن، قائمة بين ظهرانينا عربياً، و على امتداد “المنطقة العربية-الإسلامية المركزية” و “العالم الإسلامي”، تحيط بنا رواياتها المتضاربة من كل جانب . ولسوف أنزع ما يسمونه “الحساسية” المفرطة، لأَذكر طرفاً من الروايات (الأمازيغية) و (الكردية) بل و (الأشورية) و (الفينيقية) وما إليها . تلك التكوينات المسماة بالعِرْقية، فيما يتعلق بالجانب العربي، هي تكوينات تاريخية محقّة، دخلت في خضم عملية التكوين التاريخي الأشمل للأمة العربية (حتى لو كانت في رأي البعض “أمة قيد اكتمال التكوين” ) في إطار استكمال الكيان السياسي والاقتصادي العربي.. ثم أن هذه التكوينات العريقة بقيت قائمة داخل الأمة على نحو أغْنى، لتصير ذاتيتها جزء لا يتجزّأ من البنيان العربي القومي الأشمل، دون تناقض مفتعل بين الجزء والكل، و لا بين الانتماءات الفرعية و الانتماء الرئيسي الضامّ.
نشير أيضا، على سبيل عرض التوظيف السياسي للتاريخ أيضا، من مثال قريب، إلى أنه حدث نوع من الانقسام “العموديّ” و “الأفقي” العميق، بين أفراد شعبنا العربي في مصر، عبر نصف القرن الأخير، من النُّخَب ثم من الجمهور العام، بين فريقين: فريق (تفرّغ) تقريبا للترويج لرواية سياسية جارية تقول إن (السادات بطل الحرب والسلام) و (سابق عصره)، بينما يشيعون أن الرئيس جمال عبد الناصر كان مجرد “عسكري”، و “مستبد”، و “عدوّ للأغنياء” .. وفي المقابل، يبرز جمال عبد الناصر مؤسسا للمسار الوطني التنموي لمصر العربية المعاصرة، قاعدة لحركة التحرر العربي المعاصر وقيادة، برغم ثغرات و أخطاء.
هذا مثال نذكره عرَضا، ويدى على قلبي، وأصابعي مرتعشة، من فِرْط تداعيات الانقسام بين روايتين لفريقين: رواية شبه سائدة، تتغلغل بين شطر من النخبة و من العموم”؛هي رواية “ساداتية” إن صح التعبير، بلغت لدى البعض مبلغ القول مثلا إن حرب أكتوبر هي (حرب السادات!) متجاهلة عن عمْد كل ما هو غير ذلك، أو ما هو عكس ذلك. و رواية أخرى، في المقابل، مهمّشة عمْدا إلى حد بعيد، ترى فى جمال عبد الناصر عكس ما يرى ذوو الرؤية التأريخية (الساداتية)، فيكون عبد الناصر الزعيم العربي “التاريخي” الفذّ الذى لم يظهر له نظير منذ مئات السنين. وانظر للمقارنة في امر مشابه، بين صورة (محمد علي باشا) في الذاكرة الجمعية للعرب عموما بمن فيهم المصريون، فستجده (مؤسس الدولة الحديثة) في مطالع القرن التاسع عشر، وبين صورته لدى شطر من المؤرخين الثقات (مثل خالد فهمي في كتابه “كل رجال الباشا”) باعتباره مؤسس امبراطورية عسكرية وقودها الناس -من الفلاحين- و الحجارة، كما فهمنا، وهذا ما نميل إليه على كل حال.
في هذا السياق، شرع الجادّون من بعض رجال الصحافة الأفذاذ تنقيبا في الأضابير وبين دفاتر الأحداث الجليلة سعيا إلى استجلاء طرف أو اطراف من الحقيقة الغائبة (مثل ما فعل محمد حسنين هيكل في سجل “التاريخ” المصري المعاصر من بعد ثورة 23 يوليو 1952) ؛ بينما هزل الهازلون بلا وجل، وهم كُثْر.
ولكن فليقلْ كلٌّ ما يراه، ولْتتعدّد الروايات لا بأس، ولْتكتب (التواريخ)، ولْينشط الحكّاؤون، و لّتتوسع و تتعمق كتابة “المدوّنات الأكاديمية” المطوّلة أو المختصرة، عالميا وعربيا-مصريا، حتى لو كانت من (أرنولد توينبي) أو ( وُل ديورانت) أو من عبد الرحمن الرافعي مقابل محمد أنيس وبينهما محمد عزت عبد الكريم ، وحتى لو كانت من الراحل (عبد العظيم رمضان) مقابل (علي بركات) مثلا، أطال الله بقاءه.
و قد كان هذا هو الشأن دائما: تضارب في الروايات، و تحيّز أو انحياز متفاوت: بين انحياز أعمى وانحياز بصير، و يجد كل منهما مجالا للتصديق بين العامة، في السوق الواسعة للأفكار. و لسوف يظل الأمر كذلك إلى أمد غير معلوم.
ولكن إلى متى ..؟ متى يظهر (التاريخ-التاريخ) ؟ هذا ينقلنا نقلة واسعة إلى “علم التاريخ” الذي لم يستوِ عوده الممشوق بعد، برغم ضرورته، وبرغم طول فترة حضانته المديدة لآلاف السنين، منذ صحائف مصر القديمة والعراق القديم مرورا بهيرودوت حتى اليوم.
لقد تقدمت منهجية البحث التاريخي تقدما لافتا، ولكنها لم تتزود تزوّدا كافيا بأمرين: أ- مادة التاريخ الحية والميتة، المكتوبة والشفاهية، والمصادر الموثقة، في ضوء فتوحات علم الآثار وبحوث الحفريات والأنثروبولوجيا؛ مع الأخذ في الاعتبار أنه (بين سلطة العلم وسطوة الهوى خيط رفيع). ب- المؤرخ الصادق الأمين، المؤهَّل بما ينبغي له حقا.
وما بين التاريخ الذي نعيه في داخلنا، وعلم التاريخ الذي نرنو إليه، يجب أن ينهض المعنيّون بمادة البحث و بمناهجه و أعلامه المبرّزون.
و لسوف نظل نتأرجح عبر الزمن بين التاريخ وعلم التاريخ؛ آملين أن يتقدم العلم رويدا رويدا، جزئيا و نسبيا نعم، من أجل أن يحلّ العلم، بأريحية، محل ركام الأساطير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى