مدينة العبادة والفساد ..
من يوميات خبير سابق
شريف حتاتة
” فى بانجوك يوجد ثلاثة آلاف من المعابد البوذية .. وثلاثة آلاف صالة للتدليك ..فيها أجمل النساء .. تستطيع إذن ، يا سيدى ، أن تذهب إلى صالة التدليك ، أن تستمتع لمدة ساعة أو ساعتين ، كما تريد ، ثم تخرج من الباب لتجد أمامك معبداً جميلاً .. ففى بانجوك لا توجد حدود فاصلة فى الحياة ..إنها تتسع لكل الأشياء .. ولا داعى للتدقيق .. أنها مدينة المساومات ، والتجارة والفصال .. وكل شىء فيها يتم بالهدوء والابتسام .. أتمنى لكم إقامة طيبة ” .
كأننى انتقل فجأة من عصر إلى عصر .. الطائرة تهبط على الأرض ، وتجرى مسرعة ، مبطئة بالتدريج فوق الممر الطويل .. أرى المطار حولى بلا حدود .. مساحة كأنها تمتد ، وتمتد لتلتقى بالأفق .. الطائرة تسير فوق الممرات ، وتلف ، وتدور ، قبل أن تصل إلى الموقف المحدد لها .. ذراعا رجل الإشارات كالمروحة البطيئة تقود حركة الطائرة الضخمة ، وتوجهها .. جسم صغير يتحكم فى الوحش العملاق .. يد الإنسان وعقله .. وقرصان فى شعاع الشمس حول رأسه يتوقفان عند طرف ذراعيه الممدوتين ، فيستقر الحيوان الضخم أمامه والمحركات تدور ، ثم تسكن ..
الشعور براحة الوصول .. عيون تتطلع من النوافذ بفضول .. صفوف من الطائرات جاءت من كل أنحاء العالم . طيور أسطورية تنطلق نحو السماء بصوت كالرعد .. فيها قوة التحدى ، وعظمة ، وسيطرة على قوانين الكون .
حركة دائبة من الطائرات بألوانها المختلفة ، وعلاماتها المميزة تصعد كالسهام ، وتهبط .. ضجيج المحركات ، وسيارات تسرع هنا ، وهناك ، ومسافرون ومسافرات يقفون طوابير وأفواج .. وقادة الطائرات يختالون فوق الأرض باعتزاز . ملوك السماء يحملون مصائر الناس بين أيديهم .. قبعة فوق الرأس ، وثياب زرقاء أنيقة .. نجوم .. مضيفات كالزهور الملونة يسرعن للخروج من الأبواب .. ليلة ، ولقاء فى المدينة ، ثم مرة أخرى صعود للسماء .
فى قسم من المطار مساحة واسعة مخصصة للطائرات الحربية .. جمال منساب فى الخطوط وقوام مسحوب ، ورأس كالمنقار المدبب يوحى بالانقضاض .. تجذب الأنظار ، وتبث إحساساً غامضاً بالرهبة . ملامح فيها قسوة الجريمة والموت .. فهنا ” تايلاند ” حيث القواعد الحربية الأمريكية ،
و” الفانتوم ” والقنابل المخزونة يدكون بها المدن ، والأطفال إذا عادت قصة فيتنام تتكرر .
الأتوبيس ينساب ناعما فوق أرض كالحرير .. والشريط الذى تنزلق فوقه الحقائب حركته ناعمة .. وجلد المقاعد ، طرى ناعم .. وموظفات المطار وجوه ، وأصوات هادئة ، ناعمة ، وعيون ناعمة .. وسيقان ملفوفة .. الجدران ، والنوافذ ، والأعمدة المستديرة يرتفع فوقها السقف ، وإجراءات الجوازات ، والجمارك ، والسيارة اليابانية التى تسرع بى فوق الطريق المؤدى إلى المدينة خطوطها وحركتها ناعمة .. أفاجأ بأننى أصبحت خارج المطار ، اجلس فى المقعد الخلفى للسيارة كأن يدا سحرية حملتنى دون أن أشعر .. اطل على حقول الأرز ، ومساحات من الزهور المائية البنفسجية ، ومنازل كبيرة جدرانها بيضاء ، وأسقفها حمراء ، أو بنية اللون تنحدر من قمة مدببة إلى أطراف بارزة ، كالقوس المقلوب على طريقة ” الباكودا ” البوذية .
الوجوه هنا كلها متشابهة .. العيون الضيقة المسحوبة كثمرة اللوز .. والشعر الناعم المسترسل فى سواد كالليل . والأجسام الصغيرة اللدنة تشبه عرائس من المطاط .. الخطوط ناعمة ، هادئة .. والابتسام يحرك الشفتين بسهولة لكنه لا يصل إلى مداه .. يبقى على السطح دائماً .. والجلد فوق الوجه مشدود ، ناعم .. والنظرة فى العيون فيها نعومة فتنزلق نظراتك عليها دون أن تنفذ إلى الأعماق .. والموسيقى فى بهو الفندق أمريكية تصل إلى الآذان كالطبل الخافت فى الأدغال . حركة سريعة ، ولمعان .. وهذه النعومة الغريبة التى تكسو سطح الأشياء ، والناس ، وتمنعنى من النفاذ إلى ما تحتها . تقف كالجدار الأملس الأصم بينى ، وبينهم .
صعدت إلى غرفتى ، بسيطة ، عصرية .. دواليب فى الجدران ، وتسريحة سطحها ناعم ومرآة .. وحمام صغير تغطية مربعات القيشانى البيضاء .. وصنابير من المعدن لامعة تنساب منها المياه الباردة أو الساخنة بخرير هادىء .. وستارة على النافذة تنفتح ، وتنغلق بسهولة ناعمة .. وزجاج مصبوغ أرى من خلاله ، ويحجب الرؤية على منْ ينظر من خارج الحجرة .. كالسيارة الحديثة فى شوارع المدينة .. نفس الزجاج ، يحول دون أن ترى الذين يجلسون فيها ، فتبث حولها شعوراً غريباً بالتآمر ، والكتمان ، بجريمة متنقلة على أربع عجلات .
هبطت إلى الشارع مسرعاً .. ضجيج يصم الآذان .. عاصمة يتضاعف عدد سكانها بسرعة . وصل إلى خمسة ملايين ويزيد بمعدل ستة فى المائة سنوياً .. مدينة تزدحم بالسيارات ، والعمارات ، والشركات ، والمحلات الضخمة .. عشرات الأدوار ، والأقسام ، والمصاعد ، والكافيتريات .. وبائعات مبتسمات برموش صناعية طويلة .. ووجوه تختفى خلف الصبغات .
كل شىء هنا مستورد .. السيارات ، والتليفزيونات ، والراديوهات ، والساعات .. حتى الأطعمة والألبان ، واللحوم ، والفواكه ، والشيكولاتات .. حتى الخردوات .. مدينة مبنية على الاستهلاك لطبقات محدودة تملك المال .. مدينة أمريكية مغروسة فى آسيا .. سكانه من ” تايلاند ” ولكن مصالحها واقتصادياتها ، وصحفها ، وموسيقاها ، وأنماط الحياة فيها من الخارج .. مركز مالى للمصالح الأمريكية ، واليابانية تتصرع عبر القارات .. فتايلاند الحقيقية متوارية خارج العاصمة ، وعلى أطرافها .. فى حقول الأرز ، والغابات حيث يحمل الثوار بنادقهم يصوبونها ضد جيش مرتزق قائم على الدولارات والخبراء الأمريكان ، والدبابات . فى القرى حيث الوجبة الأساسية طبق من الأرز المسلوق .. فى مصانع الحرير اليدوية حيث تعمل الفتاه ، عشر ساعات فى اليوم لتتقاضى ما يقابل جنيها فى اليوم .
سرت فوق الرصيف .. الرجال يرتدون القميص ، ورباط العنق ، والنساء يتأرجحن فوق الكعوب العالية ، ويعرضن أجسادهن من تحت المينيجيب أو السروال . عبرت الشارع فى حرص ، فالسيارات هنا لا يؤمن جانبها تنطلق فى كل مكان .. علامات الثراء المستحدث الذى يفسد . تقليد سطحى لمجتمعات الغرب دون استيعاب للجهد ، وللعلم الذى قامت عليه .. ومال يجرى فى شرايين فئة قليلة ، ولكن عقليتها ما زالت تعيش فى عصر الملكية ، والإقطاع . فاكثر من تسعين فى المائة من السكان يعيشون فى مناطق ريفية تنتج الأرز ، وتحيا فى عصر الظلمات .. الصناعات كلها بدائية .. الجواهر ، الحرير اليدوى ، والأخشاب ، ومضارب الأرز ، التماثيل والتحف المصنوعة من الخشب ، أو من سن الفيل ، أو بعض الأحجار الكريمة . الأنشطة العصرية كلها مرتبطة بالبنوك ، والتجارة والسياحة ، والتأمين . سوق مفتوح على مصراعيه للغزو الأجبنى ، والاستثمارات والمضاربات ، تمتص كل ما يوجد فى البلاد من فرص للربح والمكسب وتترك الأغلبية الساحقة على حافة الجوع .. تمنع الاقتصاد من النمو وترتع فيه كما تشاء ..
قاربت الساعة على الثالثة بعد الظهر .. موعدى الأول يقترب . فأسرعت الخطا .. سمعت صوت ينادينى ” هيه .. هيه .. مستر .. مستر ” . لم التفت أول الأمر ظناً مِنى أننى لست المقصود .. ولكن النداء استمر . فالتفت إلى حيث يجىء الصوت .. سيارة أجرة تسير إلى جوارى خطوة ، خطوة وأمرأة تطل ناحيتى من النافذة .. عينان سوداوان فى البشرة البيضاء كالطباشير . وجه شاب تقاطيعه دقيقة ، ولكن جماله فيه شىء بشع .. كالقناع المصنوع من الشمع . ونظرة فيها نهم بارد .. كالطيور الجارحة التى تنتظر وقوع الفريسة.
أشار السائق بإصبعه إلى المرأة الجالسة خلفه : ” أنظر يا سيدى امرأة جميلة ستمنحك متعة لم تجربها من قبل ” .. تجاهلته . ولكن السيارة استمرت فى السير إلى جوارى ، والصوت يلح على فى إصرار إلى أن وصلت إلى تقاطع رئيسى ، فاختفت فى الزحام ..
دلفت من باب العمارة الحديثة حيث مقر المكتب الإقليمى لمنظمة العمل الدولية .. يذكرنى بالمبانى فى نيويورك .. الزجاج واللدائن الحديثة ، والمعادن اللامعة ، وعروق الفولاذ تخترق الجدران الزجاجية كالنسيج الضامر ، وتضفى عليها المتانة والثياب .. مصاعد تعلو وتهبط بصوت ، لا يزيد عن الهمس .. وممرات طويلة على جانبيها حجرات كالصناديق المصنوعة من الخشب الثمين .. ورجال ونساء رؤوسهم محنية على الورق فى انهماك .. وأبواب تفتح وتغلق كأنها من المطاط .. وأجراس تدق بصوت خافت .. وأزيز التليفونات البيضاء كالنحل النعسان فى نهاية يوم حار .. ووجوه تبدو ملامجها متشابهة من خلف الصبغات ..
مررت أمام الأبواب أقرأ الأرقام ، والأسماء المكتوبة على الورق اللصاق الملون ، حتى وصلت إلى باب كتب عليه ” قسم السكان ” ثم كلمة ” خبراء “.
*****
الخبير .. مهنة خلقتها أوضاع فى العالم الحديث الذى انقسم إلى بلاد تتدفق إليها المواد ، والموارد من كل الأسواق .. وإلى قارات يسكنها الفقراء .. إلى مراكز ضخمة للصناعات العصرية ، والتكنولوجيا ، والعلم .. ومناطق أخرى لزراعة المحاصيل ، واستخراج المواد الخام من باطن الأرض .. إلى شعوب عرفت الطاقة الذرية ، والتشغيل الآلى ، والكهرباء ، وشعوب لا تعرف أغلبيتها سوى المحراث ، والكانون ، والحطب .. إلى عواصم للعلم والمعرفة ، وقارات شاسعة ليس للكلمة المطبوعة فيها إلا عدد ضئيل من القراء ..
من هنا نشأت مهنة الخبير .. رسول للعلم تستأجره المنظمات الدولية يقبض راتبه بالدولارات ، ويجلس على مكتب مريح فى إحدى العواصم الكبرى .. وأحيانا يجوب المجاهل البعيدة إذا كان حقيقة من خبراء الميدان .. نمط واحد فى أغلب الأحوال .. يحمل حقيبة يد منتفخة بالأوراق ، والتقارير ، ويحمل فى عقله حلولا مستوردة جاهزة للمشاكل ، والمعضلات تخرج من شفتيه مع دخان الغليون .. يلتقطها من مجلدات ورقها لامع سميك ، على غلافها جملة قصيرة مطبوعة فى باريس ، أوروما ، أو جنيف ، أو نيويورك .
كانوا أربعة من الخبراء . استقبلونى بترحاب .. جلست بينهم ، وشربت معهم القهوة باللبن ، مغذية ، يتصاعد منها البخار .. يسألوننى عن رحلتى .. وماذا فعلت .. ومن أين جئت .. ويضحكون .. جو فيه انشراح ، وألفة احتاج إليها .. أحس بالإرهاق ، برغبة فى أن اترك نفسى وارتاح .. رغبة فى الاستمتاع .. ولما لا ؟ .. كفانى معاناة . لماذا آخذ المسائل بهذا الجد . انهم لا يعرفون القلق مثلى .. علامات الراحة بادية عليهم ، على الوجوه ، والثياب ، والكرافتات والمناديل البيضاء الرقيقة التى يمسحون بها على الشفاه .. على الولاعات ” الرونسون ” وأقلام الحبر الذهبية والفضية ، ورائحة الكولونيا والمحافظ المصنوعة من جلد التمساح ، ترقد فيها أوراق البنكنوت .
أربعة من الرجال مختلفون ، ومتشابهون . أحدهم هندى من البنغال ، بدين ، جفونه منتفخة ، نصف مغلقة على العينين .. لااعرف أن كان مستيقظاً أو نائماً ، أو فى حالة بين الاثنين .. يداه صغيرتان ، ناعمتان ، وقدماه كأقدام العرائس التى يبيعونها فى محلات لعب الأطفال .. أضيق بالأيدى ، والأقدام الصغيرة فى الرجال .. ينتابنى شعور غريب عندما أراها .. ترتبط فى ذهنى بالخنثى والقسوة ، والرياء .. أياد فيها عدم وضوح ، منسحبة ، مختفية ، تصنع شيئاً فى الخفاء .. أو عاجزة ، ضعيفة .. والضعف أحيانا اخطر من العداء .. وأقدام تسير بحرص شديد فوق الطريق .. تخشى على نفسها من أقل الأشياء .. مستعدة لحماية نفسها بكل الوسائل . الثانى قصير القامة كالقزم الضئيل ، وجه آسيوى مبتسم على الدوام .. تلمع سنته الذهبية بين الأسنان ، مع فص الخاتم الذى يرتديه حول إصبع الزواج .. والساعة الذهبية الرفيعة ، والاستيك .. يشبه الأغنياء المحدثين ، وأصحاب الكباريهات أو حكام الفلبين فهو من هناك .. الثالث طويل القامة يحمل بطناً يحشرها بصعوبة فى السروال .. له كتف أعلى من الأخرى .. عندما يسير يميل ناحية اليمين .. كان يعمل من قبل سكرتيرا لاتحاد مزارعى الشاى فى سيلان .. ثم اصبح خبيرا للسكان .. وجه فيه طيبة .. وفساد .. ينحدر من سلالة الهولنديين الذين غزوا سيلان . الرابع من ” البنجاب ” فى الهند ، بشرته بيضاء وعيناه سوداوان واسعان .. ابتسامته يطلقها اكثر من اللازم كنجوم السينما أمام الجمهور .. ولد فى الباكستان ورحل إلى الهند بعد التقسيم . انضم للمنظمة فى أدنى الدرجات ، وصعد بسرعة .. قدر من الذكاء ، وطاعة للرؤساء .
سألونى .. ماذا ستفعل الليلة ؟ . قلت لا شىء إذن سندعوك للتعرف على ” بانجوك “. الليل فى ” بانجوك ” يتلألأ بالأضواء والألوان .. زاخر بالحياة .. كالعواصم الغربية الكبرى تضىء فيه الإعلانات ، وواجهات المحلات والفنادق ، والمسارح ، ومصابيح ملونة تدور فى حلقات .. وفى السماء أزيز الطائرات ، تومض عيونها الحمراء فى الظلام .. وسواح يجلسون على الموائد ، أراهم من خلف الزجاج . تتحرك أيديهم ، والشفاه ، فأرى الضحك صامتا ، والكلمات .
دعونى على العشاء فى ” موكامبو” .. مبنى كبير يغط فى وسط الظلام .. وإعلان بالمصابيح الحمراء يدور فوق واجهة الباب ، ” موكامبو ، مطعم . وصالة للتدليك التركى”. دخلنا من الباب .. الأضواء كلها خافتة ، والوجوه كالأشباح فى الزرقة الغامضة التى تسلطها عليها الأضواء .. استقبال تجلس خلفه امرأة وحولها التليفونات .. وفى البهو رجال صامتون يقفون فى الأركان كالتماثيل فى متحف للشمع . الوجوه نفسها فى كل مكان .
الملامح الدقيقة الخالية من الحركة ، وهذا الضوء الأزرق ، يعطينى شعوراً بأن ثمة أشياء تتم دون أن أراها .
قادنا اثنان من الرجال عبر ممر طويل . على الجانبين ستائر كثيفة تتدلى فى سكون .. تخفى وراءها صفين من الحجرات ، وأضواء تتسلل تحت أسفل الستائر فى خفوت . أحدهما يسير أمامنا ، والآخر من الخلف كالحارسين . أرى قدمى الرجل وهو يسير ، وكأن الجسم غير موجود .. بين لحظة وأخرى يتوقف وينحنى ، يبسط يده كأنه يدعونا إلى المرور .
توقفنا أمام إحدى الحجرات .. شد الرجلان على الستارة من الناحيتين ، كالمسرح ينفتح أمام المتفرجين ، فدخلنا .. الحجرة مستديرة جدرانها حمراء ..حولها وسائد تستند إلى الجدار ، وترقد فوق البساط .. يكسوها قماش ازرق منسوج بخيوط فضية رفيعة .. فى وسط الحجرة مائدة مستديرة منخفضة من الخشب الداكن السميك كالطبلية ، سطحها محفور بزهور دقيقة من الصدف الملون .. وضوء وردى يسقط من مكان مجهول ..
جلسنا القرفصاء ، حول المائدة واسندنا ظهورنا للوسائد .. انحنى أحد الرجلين وهمس فى أذن صاحب الدعوة ، فضحك ضحكة خافتة طويلة .. على الوجوه كلها يظهر الابتسام .. وكأنهم يستعدون لالتقاط صورة ، أو يعبرون عن إدراكهم لما سيدور . بعد قليل فتحت الستارة ودخل أربعة من الفتيات فى هدوء .. نفس الرقة فى الملامح والنعومة والاستسلام .. جلست واحدة منهن إلى جوارى .. أحس بساقها باردة تحت الثوب الرقيق .. الباقون ينظرون إلىً ويضحكون .. أحاول أن اندمج ، لكن فى أعماقى شىء من اللامبالاة والخجل إزاء ما يدور .. أمسكت الفتاة بيدى ، وأخذت تفحص الكف ، كأنها تدرس الخطوط .. أحس بأصابعها رقيقة كالفراشة ، وبلمساتها مازالت تشع البرودة .. أرى رأسها المنحنية ، وشعرها الأسود الفاحم يسقط على الجانبين فوق بياض العنق .
أطباق صغيرة من الطعام توضع أمامنا ، وزجاجات الخمر ، وأكواب ..تتناول الفتاة منشفة مبللة بماء ساخن فيه عطر خفيف ، وتمسح لى جبهتى ، ووجهى ، واليدين . أرى عيناها تتطلعان إلى وكأنها تقول لماذا هذا الشرود ؟ ، دورى أن ارفه عنك .. تتناول قطعا صغيرة من الطعام بين أطراف أصابعها ، وتضعها فى فمى .. تسقينى الخمر بيدها . منهمكة فيما تفعل كأنها مقبلة على مهمتها بسرور ..
انتهينا من العشاء .. كل منا يقبل فتاته ، ويضع فى يدها بعض النقود . الرجلان ينتظران خارج الحجرة . يعودان بنا فى الممر الطويل . اسمع الهمسات ، والضحكات خلف الستائر كفحيح الأفاعى فى الليل .. وصلنا مرة أخرى أمام الاستقبال .. ركع أحد الرجلين فجأة يلمع لى حذائى بقطعة من القماش .. كدت اثنيه عما يفعل ، ثم استدركت . هذا هو جزء من الروتين .. اوثق لى رباط الحذاء ثم وقف وانحنى .. لمحت ابتسامته فى الضوء الأزرق ، كالفراغ الساخر فى وجه المومياء ..
المصعد جديد يرتفع بنا فى سكون حتى الدور الرابع .. لا أسأل إلى أين نحن ذاهبون .. استقبال جديد ، وامرأة تتفرس فى وجهى من تحت الرموش ..أظافرها الطويلة تبدو فى الضوء الأزرق كأظافر الأموات .. حولها التيلفونات ، ووجوه غامضة تقف فى الأركان .. بهو طويل آخر يغط فى نصف الظلام ، وفجأة عند آخره صالة واسعة وحجرة كبيرة كالقفص ، واجهتها من زجاج وفى داخلها الوجوه تحملق فى ثبات . وجوه اختلط فيها البياض والاحمرار كأنها مصبوغة بالطباشير .. عشرات الوجوه فى الحجرة المضاءة من الداخل بالكشافات .. مدرجات من الخشب ترتفع فوق بعضها كمقاعد المتفرجين فى الحلبات يجلس فوقها صفوف وراء صفوف من الفتيات .. الساق فوق الساق ، والثوب القصير يصل بالكاد إلى اسفل الأرداف . لا تبدو منهن اقل حركة .. العيون تنظر إلى الأمام فى اتجاه واحد كأنها عمياء ، وعلى الصدور البارزة أرقام ..
أمام الواجهة الزجاجية جمع من الرجال يحملقون فى الوجوه ، والنهود ، والسيقان ، واللحم الأبيض المعروض بمائة ” بات “، و يختارون تلك التى يريدونها بالرقم المعلق على صدرها .. الزجاج مصبوغ بحيث تخترقه الرؤية من الخارج ، ولكن الفتيات المحبوسات فى القفص الشفاف ، لا يرين ما يدور ..تجلسن هكذا مجرد أجساد معروضة للبيع ، كأى سلعة فى المحلات ..
وقفت بين الجمع .. عيناى ثمران على منظر الفتيات .. اشعر بالخجل من نفسى ، رغم أننى مستور من العيون فى الظلام . ولكن إحساسى كالعارى الواقف فى العراء ، فالبشاعة ليست وحدها فى الفتيات الجالسات خلف الزجاج ، ولكن أيضاً فى الرجال يحملقون فيهن بنهم الحيوانات ، وأنا اقف معهم .. شىء مشترك بيننا . غرائز مستترة . وفى الأعماق فساد ..
أتطلع إلى الفتيات يجلسن كالجوارى .. كالسلع المعروضة فى الحانوت ، تنتظر فى سكون يد الشارى . أتصرف آليا ، وأشارك .. ولكن عقلى يسجل التفاصيل ببرود .. اختار واحدة من الفتيات دون التمعن فى النظر إليها . انصرف بسرعة منْ يخشى أن يضبط متلبساً بجريمة .. تبدو مسحوبة القوام .. لا أحب القصيرات .. عدت إلى الاستقبال لأبلغ الرقم المطلوب .. أدارت المرأة قرص التليفون وبعد قليل ، خرجت الفتاة من باب جانبى ، تحمل منشفة وعلبة صابون .. شعرت بانقباض ، عندما اقتربت منى .. ذلك القناع كالطباشير ، يوحى بالموت .. ابتسامة خاطفة على الشفتين كالالتواء السريع يزيد الوجه الأملس الجامد قبحاً .. تتبعتها فى الممر .. على الجانبين حجرات أبوابها مغلقة ، وفوق الأبواب مصابيح صغيرة حمراء بعضها مضاء .. سرنا كأننا فى قبو طويل تحت الأرض ، يحيط بنا صمت .. لا يقطعه سوى حفيف أقدامنا فوق البساط .. أراها من الخلف تسير بخطوات بطيئة ، وتنثنى كالقط بزحف بليونة متوحشة .. توقفت وفتحت أحد الأبواب بمفتاح تحمله فى يدها ، ثم أشارت إلى بالدخول ..
الحجرة مقسمة إلى جزئين بينهما ستارة .. الجزء الأمامى فيه كنبة عالية من الجلد كتلك التى يسستخدمها الأطباء للكشف ، ومقعد ، وشماعة للملابس ..والجزء الخلفى حمام .. بلاط ابيض صغير ، ومغطس ازرق ناعم كالبلور ، وصنابير ، ودش يدوى ، وعلى الأرض بساط ملون كالمنشفة الكبيرة . الأضواء فى الحجرة خافتة مختفية فى الأركان بحيث لا يرى أى شىء بوضوح .. ولكنها فى الحمام باهرة قوية تبرز التفاصيل ، وتحددها بقسوة .
وقفت أمامى تنتظر .. درت بعينى حول الحجرة ثم استقرتا على وجهها . أتطلع إليها بفضول فيه انفصال ، فتتفادى لقاء العيون .. صوتها يأتينى هامساً متموجا بتلك النبرات التى تميز لغتهم .. لا أفهم ماذا تقول .. وقفت فى مكانى جامداً .. اقتربت منى وأخذت تفك بأصابعها أزرار القميص ، ثم السروال . تنظر إلى بعينين فيهما تساؤل ، وابتسامة واهنة مترددة .. أجلستنى على المقعد وركعت تخلع لى الحذاء والجورب ، ثم أوقفتنى من جديد ، وساعدتنى فى خلع القميص والسروال ، وباقى الملابس أصبحت عاريا ..ترفع إلى عينيها بين الحين والحين كأنها تريد أن تستشف منى الرضا أو الضيق .. علقت ملابسى على الشماعة ، ووضعت خذائى إلى جوار الباب ثم قادتنى إلى الحمام من يدى .. فتحت الصنابير حتى امتلأ المغطس بالماء الساخن ، وأضافت إليه ماءاً بارداً .. جسته بيدها لتطمئن على درجة الحرارة ، ثم أشارت إلى بالدخول .. الآن جسمى غطس فى المياه الدافئة .. أرى أجزاءه بوضوح .. عظام الصدر ، والركبتين ، والحوض تبرز من تحت الجلد المشدود كأنها ستشقها عن قريب .. وزنى انخفض كثيراً فى الشهور الأخيرة .. البشرة فيها بياض مريض .. ربما يهيأ لى هذا بسبب الضوء القوى الذى ينير الحمام .. أتطلع إلى أطرافى تطفو كالجثة عند ضفاف النهر .. انظر إلى الفتاة واتركها تفعل ما تريد .. ارقد مستسلماً .. أحس بالراحة بين يديها تمران فوق جسمى بالصابون .. استعذب أن تتصرف فيه كما تشاء .. اتركه لأصابعها الحاذقة تعتصر منه العناء .. تلمس ذراعى ، وصدرى ، وبطنى وكأنها تبحث عن العصب المدفون .. تدلك رأسى وتفرغه من شحنات الكهرباء ، من عش للنحل يطن فيه على الدوام . تدعك ظهرى ، وساقى ، وبين أصابع القدمين .. تزيل عنهما تعب الطريق .. يداها تتحركان فوق جسمى خفيفتان .. شعرها الأسود الطويل ينسدل على كتفيها ـ تزيحه جانبا بحركة رشيقة من الرأس ..عيناى تشاهدان ما تفعله بجسمى .. ابتسامة مبهمة تروح وتجىء على شفتيها وفوق عينيها شىء كالستار .
جذبتنى خارج الحمام من يدى وقادتنى إلى كنبة التدليك لأرقد عليها ، إحساس بالعزلة الكاملة عن العالم البعيد فلا تصل إلى أصواته ، ولا أحداثه ولا الضجيج .. مكان مهجور ليس فيه أحد سوانا .. كأن أمواج الحياة ألقت بنا على شاطىء معزول .. لقاء العيون لم يعد خاطفاً .. ويداها تمران فوق جسمى بألفة .. تلفه بمنشفة كبيرة وتدعكه جزءاً بعد جزء .. منهمكة فيما تفعل كأنها لا تشعر بوجودى .. ترش فوقه مسحوقاً ابيض وتدلكه بحركة خفيفة من الرأس حتى القدمين ..تدغدغ أعصابى ، وتجعل الدم يجرى فى الشرايين . سألتها ” أمتزوجة أنت ؟ ” ..
ابتعدت عنى وحملقت فىً بشىء من الاندهاش .. جاءنى صوتها هامساً .. “كنت” .
ألديك أطفال ؟.
ترددت لحظة ثم أجابت : “نعم” وقفت صامتة لحظات كأنها تفكر ، ثم استدارت ، وجرت نحو المقعد على قدميها الحافيتين كأننى أطلقتها من الأسر . عادت تحمل شيئاً فى يدها ، بسطته أمامى فقمت جالساً وتتطلعنا سوياً ، إلى وجه طفل مستدير تطل منه لوزتان سوداوتان وفم صغير .. رفعت رأسها .. رأيت عينيها .. الآن أٌقرأ كالكتاب المفتوح ..
*****
دلفت من باب الحانوت .. أريد شراء بعض الهدايا .. رباطاً للعنق من الحرير التايلاندى . ألوان زاهية ، ورسومات بلا قيود ، تلغى الإحساس بالشيخوخة حين تأتى .. إحدى الفتيات فى المحل تساعدنى فى الاختيار .. ويدور بيننا حديث . صينية الأصل .. وجه أبيض بيضاوى وشعر كالحرير ، وجسم شاب لدن كالمطاط .. تقول لى : ” عمرى خمسة عشر عاماً .. لم أنجح فى المدرسة فاضطررت للعمل .. صوتها حزين .. أتقاضى ستمائة ” بات ” فى الشهر .. أبى تزوج امرأتين .. الرجال فى “تايلاند” نادراً ما يكتفون بامرأة واحدة “. تسألنى : ” هل جئت إلى بانجوك وحدك ؟ ” .. قلت : ” نعم وحدى ” .. ” ألا تريد أن اقضى معك الليلة ؟ ” . ” وما الثمن ؟ ” أجابت ” مائة بات ” .. ” لكنى لا أهوى الحب المشترى بالبات ” .. ” أنت تحتقرنى إذن .. ؟ ” ” لا ، لا … على الإطلاق … ليس هذا هو الموضوع “.. قالت : ” إذن ما هو الموضوع ؟ .. كل البنات فى بانجوك يكسبن عيشهن ، أو يضفن إلى دخلهن بهذه الوسيلة .. رأينا هذا بعيوننا منذ الطفولة ” .
وضعت رباط العنف الذى اخترته فى كيس من النايلون ، ابتسمت ناحيتى وأنا انصرف وقالت : إلى اللقاء .. كل خطوة أخطوها فى هذه المدينة تكشف عن الفساد .. عندما أدخل من باب الفندق يسألنى الحارس أتريد امرأة جميلة . الموظف الذى يعمل عند الاستقبال ، وعامل المصعد والخادم الذى ينظف حجرتى يهمسون فى أذنى صباح ، مساء .. عندى فتاة ستعجبك .
الدعارة هنا جزء لا يتجزأ من الحياة .. تشع من كل مسام المدينة .. وصالات التدليك التركى تنتشر فى كل الأحياء .. عددها يزيد على ثلاثة آلاف . عدد المومسات ستون ألفا .. اغلبهن تأتين من المناطق الريفية فى الجنوب ، حيث يعيش أفقر الفقراء ، وحيث الوجبة حفنة من الأرز ، أو قليل من الحساء ..
فى هذه المدينة التى يعجب بها البعض أيما إعجاب ، يوجد نظام آخر يسمونه بالزوجات الثانويات أو القاصرات .. فالرجل التايلاندى له زوجة شرعية واحدة ، أم أولاده .. ولكن من حقه أن يتزوج ما يشاء من الزوجات القاصرات .. وكلما ارتفعت مكانته فى المجتمع ، وزاد ثراءاً فوق ثراء ، كلما تعددت هذه الزيجات . والزوجة القاصرة لا تتمتع بأية حقوق ، سوى أن يطعمها زوجها ، ويكسيها ، ويوجد لها سقفاً تعيش تحته ، ويصرف على أطفاله منها ، أولاداً أو بنات .. ولكن من حقه أن يتركها متى يشاء .. وعندئذ لا يوجد قانون يحميها ، أو يجبر الزوج على إعالتها هى وأطفالها ، طالما انه قرر أن يقطع علاقته بها .. فلا تفرض عليه أية واجبات إلا أثناء معاشرته لها .. وهى واجبات يحكمها العرف السائد .. كأنه يؤجر جسدها لمدة معينة .. أما بعد ذلك فلا شىء .
ومن حق الرجل أن يجبر الشرعية وباقى الزوجات على السكنى فى بيت واحد .. وهن يقبلن هذا الوضع خوفاً من الطلاق أو الطرد ، فيتكيفن ويعشن كأنهن أخوات ..
وهذه المظاهر كلها ، وليدة العلاقات التى تضع المرأة الأم فى منزلة خاصة باسم تقديس الأم والأمومة , وفى الواقع ينحط بها إلى أدنى الدرجات .. انها جزء من الحياة فى مجتمعات بنيت على الاستغلال والإقطاع ورأس المال .. مثلها تماماً كنظام العبيد والأرقاء .. تفرقة جنسية تضاف إلى
التفرقة بين الناس على أساس الدين ، أو القوميات أو الطبقات . أنها تنبع عن جنود احتلال يمرحون ، وفى جيوبهم دولارات .. وسواح يحملون دفاتر الشيكات .. عن تجارة العملات ، والجواهر ، والاستيراد المفتوح على مصراعيه ، تتفتح معه العيون على الترف والاستهلاك فى بلد ملايينه من الفقراء . أنها تنبع عن نظام يجعل من كل شىء سلعة ، بما فيها جسم المرأة يشترى ويباع .. ومن العلاقات بين البشر مجرد صفقات .. حتى الزواج والحب والشرف .
ما رأيته فى “موكامبو” وصالات التدليك ،رأيته أيضا فى بيوت الليل . نفس القفص الزجاجى توضع فيه الفتيات ، كالعرائس المعروضة للبيع ، أو الطيور أو الحيوانات . الفارق الوحيد هو أن الواجهة مصنوعة من زجاج داكن اللون ، وتوجد فيه فتحة صغيرة عند مستوى عيون الرواد يحملقون خلالها إلى الفتيات الجالسات .. وفارق آخر .. أنهن لا تجلسن فى سكون ، بل تتبادلن الحديث ، والضحكات .. أسمع أصواتهن كالصراخ المتوتر المكتوم .. عصبية فى العيون والملامح والحركات كالدجاج أو الطيور ، تلمح بريق السكين قبل أن تذبح فيها الحياة .. ارتعاش فى الشفاه ، والساق ، ولفتة الرأس ، وإشارات الأصابع ، وفى الشعور الطويلة تتأرجح من ناحية إلى ناحية كاشفة عن الأعناق التى تنتظر الخناق .. كمن يحيا آخر لحظاته ، فيفتعل المرح بينما فى قلبه ثقل الهلاك .
يختار الرجل إحدى الفتيات ، فتخرج من القفص إلى صالة الرقص إزاء أجر معلوم يدفع للجرسون . تقضى معه بعض الوقت أو تبقى الليلة بأكملها إذا شاء .. تجالسه على المائدة وتشاركه الرقص . وتستسلم للعناق البذىء وعنف الذراعين يضمان جسدها فى نصف الظلام . الأجر يدفع بالساعة .. هنا وفى صالات التدليك سيان .. فى بانجكوك يعرفون قيمة الزمن . الدعارة العصرية المنظمة تسير بالدقيقة ، والثانية كمواعيد القطارات ، والطائرات ، ورحلات السياح ، ومحلات السوبر ماركت والبنوك التى يتم فيها تغيير العملات .
وعندما يعم الفساد لابد من محاولة التغطية على ما يدور .. لابد من أناس مهنتهم التبرير ، وإنقاذ العباد ، وإطلاق الدخان ، والبخور أمام العيون . هكذا يوجد فى بانجوك ثلاثة آلاف معبد ومائة آلف من الرهبان البوذيين .. بمعدل معبد لكل صالة تدليك .. وراهبين لكل مومس . فالرجل التايلاندى الذى أعطته الحظوظ يعرف الأصول . يدخل حجرة التدليك ويمارس متعته مع المومس ، يدفع لها بالباط ، ثم يخرج من الباب بعد ذلك ، ويتجه إلى الباب المجاور . ساعة للجسد وساعة للروح . توازن دقيق يحافظ به على التقاليد ، والقيم ، ويجلب لنفسه الاحترام .
علاقة بين الفساد وكثرة العبادة ، ألاحظها فى كل مكان .. والكهنة فى مختلف الأزمنة والأوطان كان لهم حق اقتناء المحظيات حتى يتفرغوا للتأمل والعبادة بجسم مرتاح ، مفرغ من غريزة الحيوان .. وأول مراكز الدعارة فى الحضارات القديمة ، كانت فى المعابد التى يسكنها الكهنة ويقيمون فيها الصلوات . وفى كثير من الأوقات كانت الأسر الفقيرة ، تهب لهم اجمل بناتها حتى يحصل أفرادها على الرضا ، والبركات .. فتكرس البنت حياتها لهؤلاء الرجال الصالحين . تحافظ على نظافة المعبد ، وتطهو الطعام ، وتعاشرهم معاشرة الأزواج الشرعيين ، وترقص للآلهة والقديسين .
*****
جلست على السرير .. هناك أيام ، وعلاقات فى الحياة تجعلنى أحلق فوق السحاب .. تشعرنى بالثقة والتفاؤل .. تحفزنى إلى تحدى المصاعب ، وهد الجبال .. تعطى طعما للوجود وجمالاً للحياة .. ولكن هناك ساعات اقضيها صدفة ، أو بميعاد تهبط بى إلى أدنى المستويات ، إلى اليأس .. إلى الإحساس بان الآفاق رمادية اللون ، لا فرحة فيها ، ولا احتمالات .. جسمى يبدو ثقيلاً كأننى احمل فوق كتفى عبئاً طارئاً سقط قوقهما دون أن أدرى من أين جاء ..اشعر أننى مفرغ من الداخل ، خاو ، خال من الشحنات .
غداً سأذهب لاستلام عملى الجديد ، ولكن خيالى البارد عاجز عن القفز إلى الأمام ، وعن تصور ما ينتظرنى هناك . أحملق فى المرآة . حزن السنين متراكم فى الملامح ، كأننى اكتشفت أن كل المعانى والأشياء التى عشتها لم تكن سوى سراب .. وان المستقبل سيكون على نفس المنوال . خطوط الوجه تنوء بمرارة الاكتشاف . ترى ما الذى ينقض علىً فجأة فى بعض الأحيان ، كأن الحياة لا تستحق أن تعاش ؟ .
قمت من جلستى .. لابد أن أعد حقائبى فغدا سأستيقظ قبل بزوغ الفجر .. ستندفع بى السيارة اليابانية فوق الطريق ، يقودها شاب من بانجكوك .. شعره أسود ، ناعم ، طويل وعيناه على جانبى الأنف الصغير ، كالشقين المفتوحين بسكين . فتحت الدولاب والأدراج ، اخرج الملابس ، والجوارب ، والأحذية . لمحت رداءاً ابيض من القطن السميك مكون من سروال ، وقميص .. أصبح حفيفاً ، رفيعاً من كثرة الغسيل .. فتحة العنق مستديرة ليس لها ياقة ، والسروال واسع يضم حول الوسط بدكة رفيعة . بزة السجن كنت ارتديها ساعة النوم ، أو فى حرارة الصيف ، أو فى قيظ الوادى الجديد . بحثت عن الحذاء الأسود المفتوح بين ثياب السجن .. وجدته بين الأحذية الأخرى فى الدولاب .. ترى لماذا حملت معى هذا الثوب طوال سنين ؟ .حتى بعد أن تم الافراج عنى ، كنت ارتدى القميص والسروال فى ليالى الصيف .. مرت سنوات ، ومازلت احتفظ بهما . حملتهما فى حقائبى فى الطائرة النفاثة وأنا محلق فى السماوات .. هبطت ضيفا فى افخر الفنادق . وفى متاعى بزة السجن . أسقط جسدى فى الحمام الأبيض .. وافتح صنابير المياه ، واستحم بصابون معطر .. وأتطلع إلى الجدران المغطاة بمربعات من الموزايكو الأزرق .. اقف فوق منشفة طرية موضوعة على الأرض خصيصاً للقدمين ، وأجفف نفسى ببشكير فيه رائحة منعشة . سجاد ، ووسائد ، ومصابيح تسكب ضوءها فى الأركان ، وفوق السرير .. افحص ملابس النوم مرتبة فى الدرج الخشبى العريض .. أتردد لحظة ثم اختار ذلك السروال والقميص .
ولكن الآن فى هذه اللحظة ، يراودنى خاطر جديد .. لأول مرة منذ سنين أفكر فيما ينبغى أن افعله بملابس السجن .. هل احملها معى مرة أخرى، أم اتركها فى هذا المكان ؟ . رتبت جميع ملابسى فى الحقائب ، ما عدا تلك التى سأحتاج إليها فى الصباح .. لم يبق سوى القميص ، والسروال على المقعد .. وعلى الأرض تحتهما الحذاء .. خلعت ملابسى وأويت إلى الفراش .. أطفأت مصباح القراءة بجوار السرير .. ظلت عيناى مفتوحتين .. أحملق فى الضوء الخافت يتسرب من بين الستائر .. طنين المدينة ، وجهاز التكييف يختلطان .. مدينة الفساد والعبادة لا تنام .. ولكن بعد قليل سقطت فجأة فى بئر النوم العميق.
*****
فى الصباح رن جرس التليفون .. بحثت عن السماعة فى الظلام بيد تتعثر بين اليقظة وبقايا النوم .. صوت العامل يأتينى من بعيد .. الساعة الرابعة صباحاً .
حلقت ذقنى .. وتناولت دشاً ساخناً .. ارتديت ملابسى ، وطلبت من الاستقبال إرسال الفراش لحمل الحقائب .. ألقيت نظرة سريعة على الحجرة حتى اطمئن على أننى لم انس شيئاً من متاعى .. لمحت بزة السجن على المقعد ، وتحتها الحذاء .. وقفت أمامهما فى لحظة تردد ، ثم تركتهما مكانهما ، وخرجت . وفى الطريق إلى المطار أحسست بقلبى خفيفاً ..
من كتاب ” فى الأصل كانت الذاكرة ” 2002