أخبار العالمفي الواجهة

العلاقة الجدلية بين طبيعة النظام السياسي وصحة الأفراد

العلاقة الجدلية بين طبيعة النظام السياسي وصحة الأفراد الطاهر المعز

بقيتُ بالمُستشفى في إحدى المُدُن الفرنسية الصّغيرة حوالي 48 ساعة، وبالصّدفة، كان الطّبيب المُخَدِّر (قبل إجراء عملية “روتينية” ) من مناهضي الإحتلال الأمريكي للعراق ومن الدّاعمين لنضال الشعب الفلسطيني، عندما كان طالبًا بمدينة باريس، وسُرِرْتُ لما عَرفَنِي من أول وَهْلَةٍ في قاعة التّخدير، وتبادلنا أطراف الحديث ووجدته على عهده، لا يزال شغوفًا بالتاريخ، وخصوصًا تاريخ نضالات الشّعُوب… بعد العملية زارني في غرفة الإنعاش، ثم رافقني إلى غُرفة الإقامة، وأعارني كتابًا صغيرًا وهامًّا، التهمْتُ مُحتواه في وقت قياسي، بحُكْم مُقاطعتي للتلفزيون، وقضاء معظم الوقت في القراءة، وتُلخّص الفقرات الموالية محتوى الكتاب مع تعليقاتي، وامتناني للدّكتور الذي مكّنني من الإطلاع على هذا الكُتاب.
عرض كتاب
اشتهر الدكتور (والكاتب) “غابور ماتي” ببحوثه وعمله في مجال الصدمات النّفسية ( ترُوما) والإدمان ونمو الطفل، وتَجْمَعُ بُحُوثُهُ ومُؤلّفاته بين العلوم والأساطير، واستخلاصاته من الدراسات الميدانية وتجربته الطويلة في معالجة مُدْمني المُخدّرات، والمصابين بالأمراض العقلية، من منظور ديالكتيكي وشامل، يؤكّد على عدم عزل حالة الفرد ( المريض) عن المُحيط الإقتصادي والإجتماعي.
نشر الدّكتور “غابور ماتي” وابنه “دنيال ماتي” (كاتب ومُخرِج مسرحي) سنة 2022، كتابًا بعنوان: “أسطورة الطبيعي: الصدمة والمرض والشفاء في ثقافة سامة” ( The Myth of Normal: Trauma, Illness & Healing in a Toxic Culture )
يُؤَكّد الذكتور غابور ماتي، وهو كاتب وطبيب نفساني وخبير اختصاصي في تحليل ومعالجة الإدمان، أن معظم المواطنين في الدّول الرأسمالية المتطورة يعانون من الصدمات، ويُعَلِّلُ، من خلال هذا الكتاب أسباب انتشار ظاهرة الشعور بالضيق في المجتمعات الرأسمالية المتطورة، بالأشكال المختلفة من المعاناة التي تعيشها فئات واسعة من الناس، كإحدى مظاهر أو نتائج ضغوط الحياة اليَوْميّة التي أصبَحَتْ تُصنّفُ ضمن مُؤشّرات “الحياة الطّبيعية”، ويُشير إلى ارتفاع عدد المُصابين بالأمراض العقلية، ومُعاناة حوالي 45% من الأوروبيين من ارتفاع ضغط الدم، فيما يتناول نحو 70% من الأمريكيين مُسكّنات ومُهدِّئات تحت إشراف طبيب، ناهيك عن عدد من يستهلكونها دون استشارة طبيب، ويعتبر “إن كل الأمراض تقريبًا تُمَثِّلُ انعكاسًا طبيعيًّا لنمط الحياة”، ولذلك فإن الشفاء من معظم الأمراض رهينٌ بظروف العيش وشكل العلاقات الإقتصادية والإجتماعية…
يدرس المؤلفان “ماتي” الأب والابن، من خلال هذا الكتاب، الأمراض الجسدية والنفسية العميقة للمجتمع الرأسمالي “الطبيعي”، وما “الطّبيعي” سوى تبرير للفوارق، حيث تعيش أقلية صغيرة في بحبوحة، على حساب الأغلبية التي تتعايش مع المرض واليأس وعدم اليقينن كما يَصِفُ المُؤَلِّفان قدرة الرأسمالية على استيعاب التحديات ومقاومة التغيير، ويعتبرانها مصدر “الثقافة السامة” التي تنشر المرض داخل مجتمع يعتقد أنه “حر”، حيث لا يتحكم المواطنون في معظم الشؤون التي تَخُصُّ حياتهم، بل يعانون من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تقررها وتُشرف على تنفيذها أقلية صغيرة (النخبة) التي تتحكم أيضًا في الإقتصاد والإيديولوجيا وتدفّق المعلومات، وكافة دواليب الدّولة والمُجتمع.
يتباهى النّظام الرّأسمالي بتحقيق الحرية والديمقراطية والمُساواة، لكن أقليةً تتخذ جميع القرارات التي تؤثر على حياة الناس، وفقًا للمصالح الخاصة لهذه الأقلية، ما يُفَنِّدُ أسطورة المساواة بين المواطنين، بل تبْتَكِرُ الرأسمالية وتستخدم كل الوسائل لتقسيم الناس، ومن هذه الوسائل: القهر والاستغلال والعنصرية وكل ما يجعل الناس يعتقدون أن “الآخرين” هم أعداؤهم، ويستشهد “غابور ماتي” بمثال الطبقة العاملة الأمريكية البيضاء، المقتنعة بأن المهاجرين والسود (وهم مواطنون أمريكيون) هم أعداءهم، ما يجعل الرأسمالية الأمريكية تنجح في تحويل انتباه الناس عن المصدر الحقيقي لمشاكلهم.
يلفت الكتاب انتباه القارئ إلى سياق ولادة نظرية “العرق” التي تتزامن مع مرحلة الإستعمار وتبرير نهب أراضي الشُّعُوب الأُخرى، وبذلك بَرَّرَ الاستعمار البريطاني أو الهولندي أو الإسباني أو الفرنسي (ولا يزال يبرر) نظامًا قائمًا على الابتزاز والنهب والاغتصاب والاغتيال واستعباد الشُّعُوب، بمباركة السُّلُطات الدّينية التي تُشَرّعُ وتُبرر هذه الأعمال غير الإنسانية التي لا يمكن تبريرها.
على الصعيد الاقتصادي، تَغْمُرُ الدعاية الرأسمالية، بواسطة وسائل الإعلام، أدمغة المواطنين بمفاهيم (دون شَرْح مَعْناها ومغْزاها) مثل “النمو” أو “الاستهلاك” التي تصبح أهدافًا بحدّ ذاتها، ويتمثل دور الدّعاية في دَفْعِ المواطنين إلى شراء الأشياء ثم استهلاكها، وَوَقَعت النقابات العمالية في الفَخّ لتتّسِمَ مطالبها بمسحة من الإيديولوجية الرأسمالية، فهي تُؤَكّد على “تحسين القوة الشرائية”، أي: “نريد راتبًا أعلى حتى نتمكن من شراء المزيد من المنتجات”، لتجعل الإستهلاك هدفًا بذاته، حتى لو كانت هذه المنتجات ضرورية، بدل “نُريد نصيبنا من الثّروة التي خلقناها”.
يشير مؤلفا هذا الكتاب إلى أن هدفهما هو تشجيع الناس على التخلي عن الأوهام وإلى التّسلّح بالعقلانية وبالمنطق السّليم، والإنطلاق من التفكير في أشياء بسيطة مثل الصحة والمرض، فالمرض بأنواعه ليس ظاهرة أو مسألة فردية بحتة، بل يتوافق مع نظام اجتماعي، فالحياة العاطفية للناس لا تنفصل عن علم وظائف الأعضاء، وتتأثر صحة الإنسان بمحيطها وبظروف الحياة الفردية والجَماعية، ولذلك، من الضروري تدريب الأطباء على ضرورة الإهتمام بالصدمات والتوتر ودمجها في تشخيص وعلاج المرضى، وهذا المفهوم للطب ودمج الصحة البدنية والذّهنية والرعاية في الطب والبحث العلمي يتعارض مع منظومة الطّب الخاص الذي لا يخدم سوى مصلحة “المُستثمرين” ويرعى أرباح شركات الأدوية، ولذلك فإن تغيير المناهج والممارسة الطبية قد يُؤَدِّي إلى تصادم مع رأس المال الذي يستثمر في قطاع الطب والرعاية الصحية، لأن التّغْيِير يتطلّبُ (ويعتمد على ) مشاركة المريض نفسه الذي يروي تجربته الخاصة إلى الطّبيب الذي لا ينبغي أن يفصل بين الجسم والعقل، وبين البيولوجيا والسيرة الذاتية أو مسيرة حياة الإنسان، إذ تُشكّل هذه العناصر وحدةً لا تَتَجَزّأ.
يدعو هذا الكتاب المرضى إلى الإعتماد على مواردهم الفكرية والثقافية (بمفهوم التّراث الفردي والجماعي) لفهم العلاقة بين الأمراض التي تُصِيبُهُم والنظام الذي يفرض عليهم معايير تحددها أقلية ثرية بناءً على مصالح النخبة القادرة على تعبئة منظومة التعليم والدعاية والإعلام لصالح نظامها الاقتصادي القائم على تحقيق أقصى قدر من الأرباح في أقل وقت ممكن، وما يتطلّبُهُ من سحق الأغلبية خدمةً لمصالح الأقلية …
بالنسبة للطبيب، يُمثل الشفاء شكلاً من التعافي “الإجتماعي” الذي يُمكّن الإنسان من تصويب تفكيره نحو أهدفه وأهداف طبقته ومجموعته وشعبهن من أجل حياة أَفْضَلَ، وعلى مستوى المجموعة، يعني هذا التّعافي الجماعي أن يتم تغيير جميع المؤسسات والهياكل السياسية والأيديولوجيات القائمة على تدمير صحة الناس وعلى خلق الانقسامات بين المضطهدين والمستغلين – ليتخاصموا فيما بينهم ويُهملوا عدوهم الحقيقي – ويتطلب ذلك تدمير أو تحويل أو إلغاء هذه المؤسسات وإيديولوجيتها، واستبدالها بأنظمة التماسك الاقتصادي والاجتماعي.
يتمثل دور الحركات اليسارية في تنظيم وتوحيد المستغَلين والمضطَهَدين والفقراء والفئات التي تشكل غالبية السكان، حول برنامج ومقترحات تنبثق من هذه الفئات، لكن إنجاز هذه البرامج والخطط يتطلّب استبْعاد وَهْم الإنتصار عبر “انتخابات حرة” تحترم دستور وقوانين المنظومة الرأسمالية، لأن الرأسمالية (التي أوجدت هذا النظام) لن تسمح لأي شخص أن يبني نظامًا نقيضًا لمصالحها، عن طريق الانتخابات الحرة، وبرهنت الرأسمالية العالمية سواء في تشيلي أو فنزويلا أو بوليفيا أو هندوراس ( وهي الأمثلة الأحدث من سلسلة طويلة من الانقلابات التي نظمتها الولايات المتحدة، قاطرة الرأسمالية العالمية) أنها لا تتواني لحظة في الإطاحة بأي نظام يُزعجها ولو قليلاً، حتى وإن كانت هذه الأنظمة مُنتخبة ديمقراطياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى