تعاليقثقافة

وجهة نظري في العالمية

امنة بلّعلي

لا تسلم المفاهيم من تحوّلات في الدّلالة والتوظيف، فهي تتعرّض في مسارها التاريخي لعديد من التغيرات حتى يصبح من الصّعب تقديم تحديد واحد يظل في حالة ثبات دائم؛ لأن هناك موجّهات مختلفة تتدخّل لتكييف المفاهيم أو لاستثمارها أو حتى اختطافها واستعمالها لأغراض مخصوصة. ومفهوم العالميّة كغيره خضع لتوظيفات متعدّدة مختلفة فقد ظهر كمصطلح ليعيّن نوعا من الكتابة التي بلغت من الرضا العالمي عليها ما يجعلها تتّصف بالعالميّة، وتحدّدت بشروط معيّنة يصبح بها النص الأدبي مقروءا بحكم انسجامه مع ثقافات أخرى لعلاقات مشتركة في القيم الإنسانية الكبرى، فتقاس عالميته بمدى انتشاره، وعدد قرائه وترجمته إلى لغات أخرى وتأثيره في تلك الثقافات لاحقا.
غير أن العالميّة اليوم لم تعد من الأفكار الملحّة لكي تطرح بالهواجس نفسها التي أثارتها في بداية ظهورها في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك نظرا لما يشهده العالم اليوم من تقارب ساهمت فيه وسائل التواصل والاتصال المختلفة. فتم تحويل العالميّة لتصبح بمثابة الوسيط الذي يكون به الكاتب، لا النص، متصفا بالعالميّة وحددت شروط لهذه الوساطة حتى أنه تم وضعها في مقابل المحلية ليقع التوهم بأنهما نقيضان أو أن المحلية درجة دنيا تقتضي من الكاتب أن يرتقي منها إلى العالميّة .وكانت في كل مرّة توضع شروط معينة تحدد بها صفة العالميّة حتى تكرس الاعتقاد بأن العالميّة ترتبط بما يحيط بالنص من التحكم في الوسائل التي تجعل مقروئيته تتجاوز الحدود، او اللغة التي كتب بها او الدوائر التي تتكفل بترجمته الى لغات أخرى وأهدافها المعلنة والمضمرة او الحصول على جائزة، وكلها في اعتقادي تنزاح عن المفهوم الحقيقي للعالمية كما انزاحت الديمقراطية وغيرها من المفاهيم الكبرى عن توصيفاتها ووظائفها التي صيغت من أجلها.
واستنادا إلى افتراض وجود أنساق مضمرة تقف وراء عالمية الأدب والكتاب، يمكن الإقرار بأن العالميّة اليوم أصبحت مفهوما وهميا مزيّفا يرتبط بنفوذ سياسي أو اقتصادي، أو إيديولوجي لنجدها خارج مجال الأدب، وهو الأمر الذي يجعلنا نعيد التساؤل حول من صنع عالمية كتاب مثل لوركا أو نيرودا وناظم حكمت وغيرهم إن لم تكن سوى الإيديولوجيا، وبعض الإيولوجيات التي ارتبطت بفلسفات القرن العشرين كثيرا ما أحسنت اختيار نماذجها العالميّة كهؤلاء. وهو الأمر الذي يفرض علينا التساؤل أيضا وبإلحاح عن الذي حال دون وصول كتاب مثل الجواهري أو أحمد شوقي أو حنا مينا أو عبد الرحمن منيف وغيرهم إلى العالميّة سوى تلك الشروط التي مارستها مركزيات معيّنة في أوربا وأمريكا والمرتبطة أساسا بالموقف من اللغة. في حين سمحت لبعض الكتاب ممن أصبحوا من المؤلفة قلوبهم بأن ينتشروا في العالم ويدخلوا السوق العالمي، فيصبح انتشارهم وقراءتهم باللغة الأجنبية التي كتبوا به شرطا من شروط ادعاء العالميّة، في حين ترجمت أعمال بعضهم إلى لغات أخرى، ولم تمكّنهم من الدخول في شرط العالميّة، لأنها بقيت ترجمات أكاديمية مثلما هو الحال لدى آسيا جبار أو محمد ديب وغيرهما.
معنى هذا أن هناك أنساقا مضمرة لجهات إعلامية ومالية وسياسية تتحكّم في صناعة شروط أخرى تختفي وراء الشروط التقليدية، هي التي لتمنح صكوك الدخول إلى العالميّة لهذا الكاتب أو ذاك، مثل الجوائز التي تحوّل بعضها عن مقاصده الأساسية، وتمنح للكاتب وليس للنصّ. وقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن كتابا قد زجَّ بهم في مصاف العالميين بنصوص هزيلة.
ولذلك ستصبح الشروط الضرورية الأساسية للعالمية كالمقروئية والترجمة والانتشار مجرد عوارض لإكراهات أخرى تفرض بها مؤسسات مالية وسياسية عالمية منطقها وأصبحت العالميّة بإيعاز منها تلبس في كل مرة لبوسا جديدا هو أقرب إلى مفهوم العولمة، ما يعني أنه مفهوم يتم التلاعب به كمفهوم الديمقراطية والعدالة والحرية وغيرها في ظل هيمنة مؤسسات ثقافية تؤكّد على أن الثقافة ليست مسألة ثقافية، وإنما سياسية واقتصادية وخاضعة لمصالح وأجندات خفيّة ومعلنة، تفرض شروطها في الارتفاع بكاتب إلى مصاف العالميّة والنزول بآخر إلى درك المحلية.
لا أرى أن صفة العالميّة هو ما ينبغي أن يسعى إليها كاتب حقيقي ينأى بنفسه من أن يكون موكلا بالحديث عن الآخرين لكي يتصّف بها، ولا أن ينخرط في خدمة لوبي معين والترويج لأفكاره بلغته؛ لأنه لن يُمَكَّن من العالميّة حتى وإن ترجم إلى معظم لغات العالم.
فالعالميّة لا يمكن أن تتحقّق إلا بعلاقة صلبة مع الثقافة المحليّة التي أنتجت صاحبها، ومع القيم التي تجسّدها، وهنا سيسقط التعارض القائم بين المحلّيّة والعالميّة، ليصبح مفهوم العالميّة امتدادا طبيعيا للمحلية بل هي أقصى درجاتها، وتكون المحلية قيمة ودرجة وشرَفا ينبغي أن يبلغه الكاتب في التعبير عن جوهر المحلّ الذي ينتمي إليه.
من هنا نفهم بأن النص لا يمكن وصفه بالعالميّة، استنادا إلى عدد القراء في العالم، أو عدد اللغات المترجم إليها؛ قبل أن نخْتبِرَ مَحَلّيَهُ؛ لأننا سنكون بصدد توصيف تجاري ساهم فيه صناع القراء والسياقات المختلفة التي بإمكانها أن تصنع كاتبا عالميا ولكنها لا يمكن أن تصنع نصّا عالميا.
آمنة بلّعلى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى