مجتمع

هوس المكانة

سيدة عشتار بن علي

أن يكون شخص ما ذا مكانة معناه ان يكون موضع اهتمام وتقدير آراؤه منصت لها وحاجاته ملبّاة ..أن يسعى الجميع لشرف الالتقاء به فترى الجميع يقفون أمامه بكل اجلال وتراهم يسعون الى الإحتكاك به وتسمع الكثيرين من أصحاب المصالح والوصوليّين أو المسكونين بشغف الاحساس بالأهمية ممن كان لهم معه لقاء عابر أو صدفة يدّعون أنّ صداقه حميمة تربطهم بذلك الشخص لذلك تراهم يتهافتون لالتقاط الصور معه ويمطرونه بعسل الكلام والاطراء حتى لو كانوا في دواخلهم يكرهونه او يحتقرونه وترى الدّعوات تتهاطل عليه لكل المناسبات بأنواعها لتشريفها بحضور ه بمكانته العالية حتى لو كان اكتسبها عبر التحيل والنفاق والسّرقة أو حتى تجارة المخدرات ..لا يهم ..المهم انه شخص ذو مكانة والوقوف معه جنبا إلى جنب يضفي إشعاعا وخيلاء …سوف ترى كلماته يصغى اليها باهتمام مفتعل والرؤوس تومىء تأييدا وانبهارا مفتعلا أيضا مهما كانت درجة تفاهة ملفوظاته وأفكاره وترى نكاته مستظرفة تنطلق لها القهقهات عاليا مهما كانت درجة سماجتها وثقل الروح الصادرة عنها والغريب أن أغلب هؤلاء المتملّقين لا يبغون من وراء مجهوداتهم فائدة مادّية ملموسة لأنفسهم ، بل غالبًا ما يريدون ويبحثون عنه هو الشعور بالأهمية ..أهمّيتهم في أعين الآخرين طبعا ..يكذب من يدّعي أنّ نظرة الأخر له لا تعنيه أو أنّه يكتفي بتقديره لنفسه وذاته بمعزل عن هذا الآخر مع استثناءات قليلة بل نادرة ولم يخطئ الكاتب والفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون أنّ حياتنا يحدّدها قصّتا حبّ الأولى قصة حب طلباً للارتباط الحميمي والثانية قصّة حبّ الآخر لنا وهذه أكثر سرية ومدعاة للحرج…. كثيرون يفعلون أي شيء من اجل اكتساب هذا الحب ..حب الأخر وان كان مزيّفا ..بمعنى أصح مكانتهم وأهمّيتهم في أعين الآخرين ..كثيرون مستعدون للتضحية بأيّ شيء وأي معنى وأي مبدأ في سبيل الظفر بها وان عجزوا يتظاهرون باكتسابها…كثيرون من أصحاب الثروات يغدقون ويسرفون لا لشيء الّا من أجل الاحساس بالأهمية .. في كتابه “نظرية المشاعر الأخلاقية” يقول آدم سميث أنّ سبب كلّ سعي إنساني وجشعه وتطلعه للثروة والسلطة والمكانة هي “الرغبة في أن يكون محط أنظار الآخرين وموضع عنايتهم فالرجل الثري يعتز بثرواته لأنه يشعر أنها تجلب إليه استحسان العالم وحب الناس وتجر إليه الإعجاب، وعلى النقيض يخجل الفقير من فقره لأنه يضعه بعيدا عن أنظار الناس”…….كثيرون مستعدون لتدمير أصدقاءهم وأحباءهم الحقيقيين وتعويضهم بجوقة من المنافقين والانتهازيّين الّذين يغرقونهم بالتّهليل والمجاملات الكاذبة ليحسّو بمكانتهم وأهميتهم ..قد يضحّون بإخوتهم ولم لا حتّى آباءهم وأمّهاتهم بسبب هوس المكانة والاحساس بالأهمّية في أعين الآخرين …ألم نسمع عن شخص متطرف وصل به الأمر الى قتل أمه بعد تكفيرها ..ظاهريا فعل ذلك في سبيل الله لكن الدافع الحقيقي هو وإحساسه بالخزي وضآلة الحجم ..أراد ان تكون له مكانة ويذكر اسمه بإعجاب وتقدير لقوّة إيمانه وصلابته بين أفراد المجموعة الإرهابية المجرمة التي استحوذت على عقله واستعبدته …ألم نسمع عن جريمة بشعة بوادي الليل ارتكبها شاب فاشل وعاطل عن العمل حين قام بذبح أمّه وأخواته والدافع إحساسه بالمهانة مقارنة مع أخواته الناجحات المرموقات ..لا غرابة أن ترتكب جريمة كهذه من طرف شاب عاطل عن العمل محدود التعليم إضافة إلى إدمانه للمخدرات لكن ماذا حين تصدر الجريمة أو الشّروع فيها عن شخص متعلم وحائز على أعلى الشهادات كأن يحاول أحد المثقفين التخلص من منافس له بمحاولة قتله لأنّ هوسه صوّر له أنّه يحول بينه وبين المكانة الّتي هي عبارة عن منصب يمكن أن يجعل منه شخصا ذا مكانة في وسطنا الثقافي المريض البائس…مثقفون كثيرون كانوا قبل الثّورة يعملون كمخبرين للبوليس السّياسي وتسبّبوا لزملائهم في السّجن وتدمير حياتهم عبر تقاريرهم الانتهازية التي تحرّكها الرغبة في بلوغ المكانة والأهمية المتخيّلة.. هل تصدقون هناك من يلجأ حتى الى المشعوذين للحصول على التمائم والتعويذات التي تجلب لهم القبول ومحبة الرسول …لا أبالغ ..كلنا نعرف حقيقة هذه الممارسات وهي ملاذ الكثير من الفنّانين وأصحاب المناصب والمشاهير المسكونين برعب فقدان مكانتهم .. وصدقوا ..في أوساط المثقفين أيضا وبمعنى اصح المحسوبين على المثقفين الذين يعتبرون الإبداع والثقافة أداة للتفاخر والاستعراض والوجاهة الاجتماعية…فيما مضى كان ذلك الهوس خفيّا دفينا في النّفوس والأغلبية راضون أو يتظاهرون بالرّضا لكن مع انتشار مواقع التّواصل الاجتماعي لتكون متاحة للأغلبية من النّاس استيقظ الوحش النّائم داخل أغلب النّفوس واستيقظت الرّغبات الدّفينة في حيازة الأهمية والمكانة أو مايمكن نطلق عليه كلمة التفوقراط …نعم لقد ساهمت شبكات التّواصل الاجتماعي في تأجيج هذا الهوس ..هوس الرغبة في الإحساس بالمكانة حيث الفضاء متاح للأغلبية للتّسابق و التزاحم لاستعراض التفاخري للذّات والتّرويج لها واشباع رغبتها في البروز والإحساس بالأهمّية والمكانة عبر الصّور والكلمات المنمّقة للتّعبير عن النفس والنتيجة تدنّي كبير في مستوى التفاعلات الانسانية الحقيقية وحميميّتها فصفحات الفيسبوك ليست لربط الصداقات وتعزيز العلاقات كما روّج لذلك بل هي فضاء للاستعراض والتفاخر بالانجازات والنّتيجة هي تعزيز ثقافة المقارنة …ذكر ليون فستنغر صاحب نظرية المقارنة الاجتماعيّة التي تعتبر من أهم النظريات في علم النفس الاجتماعي أن البشر بحاجة الى النظر الى أشخاص آخرين ومقارنة نفسه معهم حين يتعلّق الأمر بالهويّة والذّات لكن المقارنة كثيرا ما تسبب الاحباط لمن يقع في فخّها ويسيء استخدامها ومعلوم في علم النّفس أنّ المقارنة هي سبب تعاسة أغلب البشر وكثيرا ما تتحوّل الى لعبة خاسرة ومرهقة وكثيرا ما تتسبب في التّخريب الذّاتي للنّفس … للأسف باب فخ المقارنة بين حياتنا وحياة الآخرين أصبح مفتوحا على مصراعيه بسبب العالم الأزرق..كاذب ومراوغ من ينكر ذلك …في حمّى الاستعراض الفيسبوكي تنشأ المقارنة لتكون النتيجة محزنة ..نفوس مذعورة وأرواح قلقة ..ساخطة ..رافضة ..كارهة لغيرها ولذاتها بسبب الوقوع في فخّ الإحساس بالنّقص والشّعور بعدم الأهمّية ..ألا تلاحظون كم كثرت صفة الرّؤساء والمديرين العامين الافتراضيين بما أتاحته الانترنات من إمكانية لإنشاء المواقع والمجلّات الالكترونية حتى لو لم يكن لأصحابها ما يقدّمونه ..لا يهمّ المهم أن يؤكّد على صفته كرئيس ومدير عام للموقع الفلاني …ألا تلاحظون تلك الشّلّالات من شهائد الدكتوراه الفخرية والتكريمات الافتراضية التي تجتاح الفضاء الأزرق والتي يضحكون بها على ذقون البسطاء ..كل هذا دافعه الرّغبة في الإحساس بالمكانة …على الفيسبوك أيضا أيضا ترى الحشود يرهقون أنفسهم وجيوبهم للتفاخر والاستعراض وما أكثرهم أولئك الّذين يتجنّون على أنفسهم وعلى امكانيّاتهم المادّية من أجل تغيير أثاث منازلهم ومظهرهم الخارجي ومآكلهم فقط لالتقاط الصّور واستعراضها على الفيسبوك والايهام بأنّهم ينعمون في بحبوحة من العيش والحقيقة أن أفضل أيّامهم يعيشونها على الفيسبوك وربّما أسوءها في الواقع .. حتّى ونحن نتخبّط في زمن الجوع والفاقة بسبب الأزمة الاقتصاديّة التي نعاني من ويلاتها اليوم حين تدخل الى الفيسبوك ترى الجميع يتنافسون من أجل التظاهر بامتلاكهم الحياة الأجمل والأكثر اثارة لكن كم من مشاعر الحزن والاحساس بالوحدة والعوز تختبئ خلف تلك الابتسامات المزيّفة …كم من شخص يستيقظ من نومه المتقطّع مرعوبا من كمّ الدّيون المتراكمة على كاهله لكنه مع ذلك يهرع الى العالم الأزرق ليغالط نفسه ويغالط الأخرين.. لا يهمّ …المهم أن يلبّي نداء هوسه ويخبر معارفه أنه ذو مكانة وجدير بلفت الانتباه…كلّ واحد يريد أن يستعرض تميّزه وتفوّقه وأهمّبته حتّى وان كان مدركا في قرارة نفسه أنّها أهمّيته مزيّفة ..يا لهوس المكانة ..معبودة النّفوس الّتي يأتي بفضلها الرّخاء والدّلال والتّقدير والمحبّة بين ظفرين.. شيزوفرانيا جماعية تجتاح الحياة اضافة الى تعاظم مركّبان نفسيّان سلبيّان هما الحسد والنّرجسيّة ..كم من علاقات عائلية أو صداقة اغتيلت بخنجر هذان المركّبان اللّذان عزّزهما الفيسبوك والسّبب هو الاحساس بالنقص والحسد وما يتبعه من نقمة ..يا لجنون المكانة … تلك المعبودة الّتي يلهث خلفها أغلب الخلق جاحظي الأعين بارزي الأنياب ..مستعدين لفعل أيّ شيء في سبيل الحصول عليها..تلك الّتي كثيرا ما يستعملها الزّعماء السّياسيّون وقادة الدّول وأصحاب المناصب وأرباب الأموال كنقطة ضعف يستعملونها لاستغلال الكثير من المهووسين سرّا أو علنا بمرض المكانة خاصة من بين النّخب عبر النّفخ والتكبير في الايغو المحموم بدواخلهم ..الذّات المزيّفة الّتي تسيطر على نفوسهم حيث تقع السّيطرة عليهم فقط عبر اشعارهم بأهمّيتهم ومكانتهم وبث الطمع في نفوسهم بالحصول على المزيد ثمّ بعد استعمالهم واستنزافهم من أهمّيتهم الحقيقية يقع التّخلّي عنهم و الالقاء بهم …كم من رقبة كسرت وكم من عنق دقّ بسبب الايغو اللّعين ..بسبب السعي المحموم الى بلوغ المكانة ..يا لهوس المكانة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى