رياضةفي الواجهة

مونديال قطر بين الرياضة والسياسة

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق

/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

ليس موضوع الربط بين الرياضة والسياسة بجديد.. إنه قديمٌ، وربما عمرهُ من عُمرِ الرياضة.. ولاسيما أنواع الرياضة الشعبوية ذات الاهتمام الكبير كما كرة القدم..
فكافة الدول تستخدم الرياضة لخدمة أغراض سياسية، وتستفيد من المنتخبات الرياضية لخدمة أهدافها.. وكافة الحكومات تسعى للاستفادة من كافة أنواع الرياضة لحشدِ التأييد والدعم لها، والاستثمار بالرياضيين، لاسيما المشهورين شعبيا، وتحرص على أن يكونوا موالين لها، كي يكسبوا من خلالهم رأي عام.. تماما كما يحصل لدى استقطاب الفنانين، من مُمثلين ومُطربين، ورسّامين.. الخ..
وقد جرَت حروبٌ بين بعض الدول بسبب رياضة كرة القدم (السلفادور وهندوراس)..
وتمتنع بعض الدول من المُشاركة في المباريات الرياضية على أراضي دول أخرى بسبب خلافات سياسية كما حصل بالماضي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، حيث قاطعت الولايات المتحدة وحلفاؤها دورة موسكو للألعاب الأولمبية عام 1980، بسبب الغزو السوفييتي لأفغانستان، وردّ الاتحاد السوفييتي بمقاطعة دورة لوس أنجلوس عام 1984 ..
**
منذ بداية مساعي دولة قطر للفوز بتنظيم مونديال العالم 2022، طبيعي أنها كانت تضعُ نصْب عينيها تحقيق أهداف سياسية، وكان لها الفوز في كانون أول/ديسمبر 2010 .. وهذا من حقها، كما من حق أي دولة اخرى..
أهم هدف سياسي هو تعريف العالم بدولة قطر التي لا تظهر على الخريطة الجغرافية إلا كما حبّة قمح أحد رأسيها على البر، والثاني في مياه الخليج.. وإثبات ذاتها أمام العالم.. وأبرز ما يميِّزها، الغاز، وقناة الجزيرة، وقاعدة العِديد الأمريكية.. ولكن لا يُمكن إنكار دورها الإقليمي والدولي..
وبعد أن تَترجَمَ الحُلم إلى حقيقة، وأزِفت ساعة المونديال، لم تألو قطر جُهدا في الاستثمار بذلك سياسيا، وبِما ينسجمُ مع آيديولوجيتها الإسلامية السياسية..
فقامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية بنشرِ رابطٍ إلكتروني لِكُتيِّب مُترجَم إلى ستِّ لُغات (الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية والروسية والألمانية) وتخصيص رابط مُحدّد لكلِّ لغة، تحت عنوان “فهمُ الإسلام” ..
يتكوّن الكتاب من عشرة فصول، تتحدث عن التعريف بالدين الإسلامي، وقضية خلق الكون، وكيفية خلق الجنس البشري، وهل هناك حياة بعد الموت، ووحدانية الله وأسمائهِ وصفاتهِ، وأركان الإسلام، والغرض من إرسال الرسُل، وسيرتهم، والقرآن الكريم كمعجزة الإسلام، والأماكن المقدّسة في الإسلام، ونُبذة عنها، والفن الإسلامي في الخط والعمارة والزُجاج المعشّق، والحفاظ على البيئة من أشجار وماء ورعاية حيوانات ونظافة..
وفضلا عن ذلك، تمّ نشر العديد من الجِداريات في مواقعٍ بارزة، كُتِب عليها أحاديثٌ نبوية شريفة ومُترجمة للإنكليزية..
كما وزّعت جامعة قطر على الضيوف بطاقات دينية عليها أحاديثٌ نبوية شريفة باللغة الإنكليزية.. وتمّ إطلاق معرضا إسلاميا تفاعُليا للأجانب وشملَ جولات على بعض المساجد التاريخية..
وقامت بعض الجهات الدَعوية القطرية، بِحضِّ بعض المُشجِّعات الأجنبيات على ارتداء الحِجاب للتعريف بالحجاب في الإسلام، واحترام تقاليد وعادات القطريين..
وتجدُر الإشارة أن غالبية أهالي قطر يتبعون المذهب الحنبلي..
**
تعدّدت الآراء حول هذا النشاط الديني القطري خلال المونديال.. فهناك من أثنُوا جدّا على قطَر، وأنها عرِفت كيف تستغلُّ المونديال لِنقلِ صورة جيدة عن الإسلام..
وهناك من انتقدوها، ورأوا أنهُ يجب إضافة شروط جديدة في أي مونديال مُستقبلي بحيث تكون الدولة المُضيفة مُحايدة، وتُركِّزُ على ما يجمعُ البشر، لا على ما يُفرِّقهم.. وأنه كان على قطر أن تسمح أيضا بترويج الثقافة الغربية، والثقافة المسيحية والهندوسية والبوذية، وغيرها، كما روّجت للثقافة الإسلامية.. وأنّ احترام العقائد يجب أن يكون مُتبادَلا بين الجميع، وليس فقط احترام عقائد المسلمين.. وأنهُ لا تجوز الازدواجية بهذه القضية، وأن يُهاجِر المسلمون من بُلدانهم البائسة الغارقة في أزماتها وفسادها وفقرها وبطالتها وحروبها والمعدوم فيها كل قيم الحرية والقانون الموجودة في الغرب، ثُم يُطالبون دول الغرب باحترام ثقافتهم ومُعتقداتهم وهُم بين ظهرانيها، وحينما يأتي غربيون إلى البُلدان الإسلامية أيضا، يُطالب الإسلاميون هؤلاء باحترام مُعتقدات وثقافة المسلمين، بينما لا يحترم هؤلاء معتقدات وثقافات بقية الشعوب ويعتبرونها شِركا وكُفرا وضلالا..
إذا الآراء مُتضارِبة بهذا المجال.. وقرأتُ مقالات مُتباينة بهذين الاتجاهين..
**
لم تُمارِس قطر لوحدها دبلوماسية الرياضة لأجل أهدافها الخاصّة، بل هذه الدبلوماسية جمعت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيرهِ التركي، رجب طيّب أردوغان مدة 45 دقيقة، خلال افتتاح المونديال، وبعد قطيعةِ تسع سنوات، وتناقشا في المسائل ذات الخلاف بين البلدين، واتفقا على إعادة تطبيع العلاقات، بعد أن كان أردوغان يوجِّه للسيسي أعنف الاتهامات ويعتبرهُ رئيسا انقلابيا، ويصطفُّ بقوة إلى جانب الأخوان المسلمين في مصر..
**
المُنتخَب الأمريكي بدورهِ، استغلّ المونديال سياسيا للتعبير عن تأييده للاحتجاجات في إيران، ونشَرَ على مواقع التواصُل الاجتماعي علَمْ إيران، بعد إزالة شعار الجمهورية الإسلامية، الأمر الذي دفعَ بالإتحاد الإيراني لكرة القدم بِرفعِ شكوى للفيفا..
وبذات الوقت، قام مدير المُنتخَب الإيراني بتقديم هدية تذكارية لمدير المُنتخَب الأمريكي، قبل مباراة الفريقين، وهي عبارة عن سجّادة عليها علَمي البلدين، والتقطا صورة مُشتركة سوية وهما يحملان السجادة كلٍّ من طرف.. وهذه رسالة سياسية عبر كرة القدم..
**
بينما قام مُنتخب صربيا، بتعليق علَمْ في صالة تغيير الملابس، عليه خريطة صربيا ومن ضمنها كوسوفو، ومكتوب عليه “لا تنازُل” .. الأمر الذي أثار حفيظة كوسوفو، الدولة المستقلة، وتقدّم اتحاد كرة القدم في كوسوفو بشكوى للفيفا، مُعتبرا سلوك المنتخب الصُربي عدواني، وتحريضٌ على الكراهية بين الشعوب..
**
واستغلَّ العديد من المشجعين المونديال سياسيا للتعبير عن مواقف سياسية إزاء بُلدانهم، سلبا أو إيجابا..
**
وسأعود إلى النشاط القطري خلال المونديال واستغلالهِ سياسيا ..
بالتأكيد أتمنى، ويتمنى كل مسلم، أن تتغير نظرة العالم إلى الإسلام، وأن تنتهي حالة الفوبيا من الإسلام المعروفة بـ “الإسلاموفوبيا” ، ولكن هذا لا يمكن أن يحصل حتى لو صُرفت كل عام مليارات الدولارات، بينما العالم الإسلامي مُشرذمٌ، منقسمٌ، مُتحاربٌ، لم يُقدِّم حتى اليوم نموذجا من الحُكم يُحتذى به للعالم.. وأصبح الإسلام عشرات الإسلامات، وعشرات الفِرق والنِحل..
عملية إرهابية واحدة، تنسف كل الجهود المبذولة في هذا الاتجاه..
وهنا سوف أتوجّهُ تحديدا للداعيات والدُعاة الذين يعملون على الدعوة للإسلام، ونشرِ الإسلام:
لِنفترض أن العالم كله اعتنق الإسلام، ونساء العالم كلهنَّ وضعنَ الحجاب على رؤوسهنّ، وأَتباع الديانات المسيحية واليهودية والهندوسية والبوذية وغيرهم، كلهم أصبحوا من أتباع الإسلام..
فماذا سيكسب العالم من ذلك؟.
هل سيتقدم العلم أكثر؟. هل ستتطور علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطُب والهندسة وتكنولوجيا المعلومات وعلوم الفضاء والبحار.. الخ، أكثر؟
هل ستنتهي الحروب؟. هل سينتهي الفقر والجهل والمرض؟. هل ستعمُّ العدالة بين شعوب الأرض؟. هل سيعمُّ السلام؟.. هل تحققَ هذا أولا في العالم الإسلامي؟.
هل قدّم المسلمون نموذجا للحُكم منذ زمن الخلافة الأموية وحتى نهاية الخلافة العثمانية، جديرٌ بأن تَتّبعهُ شعوب العالم؟.
هل سيأتي حُكم الإسلام بِقيمٍ للإنسان أكثر مما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1966، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عام 1966 أيضا، وإعلان طهران لحقوق الإنسان عام 1968، وإعلان فيينا لحقوق الإنسان عام 1993 ؟.
هل لديكُم أفضل؟. والكلام للدُعاة والداعيات..
هل الحقوق التي تحدّث عنها الإسلام (مع كل الاحترام والتقدير، وأنا إنسان مُسلِم) هي أرقى من كافة تلك الحقوق؟.
هل الإسلام، وضع حدّا لصراعات وحروب وقتال المسلمين، بعضهم لبعض عبر التاريخ؟.
هل الإسلام وحّد المسلمين على رأي واحد؟.
كم إسلامٌ أصبح داخل الإسلام؟. كم فُرقة دينية أصبحت داخل الإسلام؟.
هل قتلَ العالَم من المسلمين أكثر مما قتلَ المسلمون من بعضهم بعضا؟.
الم تكونوا أنتُم أيادي الأعداء التي استخدموها لتقتلوا بعضكم بعضا؟. لتتآمروا على بعضكم بعضا؟.
هل في بُلدانكم قيمة وكرامة للإنسان كما هو لدى غير المُسلِمين؟.
هل اتفقتم داخل بلدانكم حتى اليوم، على تداول السُلطة بشكل ديمقراطي وحُر عبر صناديق الاقتراع، بدل أن تسفكوا دماء بعض لأجل السُلطة، أم أنكم جميعا تحكمون مدى الحياة، ومِن القصور إلى القبور فقط؟.
هل في دولة قطر ذاتها، التي صرفت مئات ملايين الدولارات على هذا النشاط الدعوي لوحدهِ، ديمقراطية وحريةُ رأي وتعبير، وتداوُل على السُلطة عبر صناديق الاقتراع؟.
ألستُم في كل الدول الإسلامية تقريبا، وخاصة العربية، في صراعات لا تنتهي مع شعوبكم بسبب ذلك، وبسبب الظُلم والإقصاء والتهميش، والفساد وغياب دُول القانون والمؤسسات والعدالة وتكافؤ الفُرص ومُحاباة الأهل والأقارب والأصحاب على حساب الآخرين؟.
هل معاملة إمارة أفغانستان الإسلامية للمرأة، هو مثلٌ يُحتذى به؟. الَم تَعتبِر الأمم المتحدة معاملة الطالبان السيئ للمرأة يرقى لِجرائم ضد الإنسانية؟.
هل مُعاملتها في جمهورية إيران الإسلامية هو مثلٌ يُحتذى به؟.
هل مُعاملة كافة تنظيمات الإسلام السياسي للمرأة مثلٌ يُحتذى به؟.
ثمّ أي إسلام تدعون إليه؟. إسلام أهل السُنّة والجماعة، أم إسلام أهل الشيعة؟.
هل أنتُم أنفسكم متّفقون على إسلام واحد؟.
هل اتفقتم حتى اليوم على طريقة الحُكم حتى الإسلامي؟. الشيعة يؤمنون بٍما يُعرفُ بـِ “الوصية” .. بينما أهل السنة والجماعة يؤمنون بِما يُعرفُ بـ “البيعة” وكلٍّ ينكُر مفهوم الآخر..
هل اتّفقتم على مفهوم واحد لحيثيات ظهور المهدي المُنتظَر؟. أين سيظهر؟. في العراق أم في المدينة المنورة؟. وهل هو على قيد الحياة يعيش بين البشر ويتنقّل، أم أنه سيُولَد مُجدّدا من رحمِ أمه؟.
إذا ما الغاية في أن يصبح العالمُ كلهُ مسلما؟.
**
لن يُفيد صرْف المليارات لتقديم صورة جيدة عن الإسلام، بينما هناك القاعدة وداعش والنُصرة وبوكو حرام، والعشرات أمثالها..
لن تتحسّن الصورة ما لم تُعالجوا كافة تلك القضايا بشكلٍ صحيحٍ، وتتفقوا أولا بين أنفسكم، وتتحسن بداية صورتكم أمام شعوبكم، وبعدها ستتحسّن أمام العالم، ودون أن تحتاجون لِإنفاق المليارات على الدعاية التي يُمكن أنة تُصرَف على قضايا التنمية والتعليم والصحة..
عودوا إلى إسلام بلا مذاهب..
يقول المفكر الإيراني الراحل الدكتور علي شريعتي:
“لا فرقا بين الاستعمار والاستحمار سوى أن الأول يأتي من الخارج والثاني يأتي من الداخل.. “
ومع كل الاحترام للدكتور شريعتي، فإنهُ في بُلداننا العربية خصوصا، والإسلامية عموما، الاستعمار والاستحمار يأتيان من الداخل..
توقفوا عن استعمار واستحمار الشعوب، وحينها فقط ستتغير نظرة العالم لكم، ولِبلدانكم، دون أن تخسروا المليارات على الدعاية، والمتاجرة بالإسلام..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى