تعاليقرأي

مواطن مدينة الرغبات السياسية

احمد حسن

ثمة فئة من المناضلين – أو غيرهم – يسكنهم بشدة الهوس بالوصول للنتائج النهائية بأسرع ما يمكن ، غير عابئ بالعقبات التي تعترض تنفيذها ، يتخذ من ” التصميم الثوري ” سلاحا لمواجهة ” كل الشروط المعاكسة ” ، اذا يكفي أن يريد ، لكنه يحتاج أيضا لإقناع نفسه وإقناع الأجرين أن الحلم الثوري ممكن ” الآن ” وان جميع الآخرين الذين يقولون انه ” صعب الآن ” هم اقل ثورية ، مترددون او جبناء أو قاصرو النظر أو حتى أعداء مشككون ، وسوف يبرهن على إمكانية أن يحدث الآن باللجوء الى التقليل جدا من اثر المخاطر ، وحتى من وجودها ، سيحول الرغبة الى تحليل ، يستحضر في خطابه ، المسكون حتى قمة الرأس بالرغبة ” الجماهير الغائبة ، ويوقظ الشوارع الخاملة ، ويبعث روح التمرد في الأجساد المنهكة ، ويحدد للغير عابئين أهدافا مباشرة ، ها هى الأزمة تأخذ بتلابيب الجميع ، السلطة تحتضر ، الجماهير تقف الآن على عتبة التاريخ ، الثورة المضادة تنهار ، الغضب يهدر في الطرقات … أنها عين الرغبة التى تستدعى أميرات الأساطير الى الفراش ، وتذيب أسوار روما أثناء زحف الفرق الصغيرة ، تحول أقزامنا الى عماليق مخيفة ، وتقزم عماليق الدولة لتسهل انهيارها ، ومادام الأمر كذلك – أي التوهمات والرغبات ، لنطلق فورا نفير القتال ، سنهاجم الأسوار ونرفض اى طرق عمل اخرى ، ويمكن أيضا ” ببعض الكلمات الثورية ” سحب الشرعية من النظام ، وتنظيم مجالس سلطة بديلة ، والبصق في وجوه جميع الإصلاحيين والوسطيين والقاءهم فى سلة المهملات .

لكن جمهورية الواقع لا تساوى ابدآ مملكة الرغبات الثورية ، إنها جمهورية متعبة ، ارهقها سنوات القتال ، وتبدى لها معاركها صراع عبثي ، حيث اندفعت واندحرت عشرات المرات ، مخلفة فى كل مرة عدد اكبر من القتلى والجرحى والأسري دون ان تعرف حتى ماذا تفعل خلف أسوار روما إذا اقتحمتها ، إنها – فى افضل الأحوال – ترغب أولا أن تعالج جروحها ، أن تريح جسدها المنهك بدلا من ألقاءه فى الجحيم ، أن تفكر فى هزائمها .. كيف ولماذا حدثت .. بدلا من أن تتجاهلها أو تنكر وجودها ، هكذا لن يسمع نفير أمراء حرب الرغبات الثورية غيرهم ، وعلى فرض وصوله لآخرين فلن يستجيب له احد ، ربما أفراد كفروا بكل شيئ ، الشعب والسياسة والعمل التراكمي والتنظيم والتفكير .

مواطن مدينة الرغبات يدعو الى الانتحار ، إلى معركة لن يكسبها مجددا سوى العدو ، انه يجر البقية الباقية من معركة خاسرة الى مواجهة يائسة مع عدو منتصر رافعا راية الثبات على المبدأ ، الثبات على الخبرات السلبية ، الثبات على كل ما ارتكب من أخطاء ، فهو يعلو فوق خوض الطرق الموحلة ، وعلى المعارك السياسية الأدنى من معركته العظيمة ، يراهن على قوات سنوات المجد اﻷولى ، يراها فى أحلام يقظته فيضعها فى اعتباره حين يفكر ، كانت ثورة وستظل ثورة ولن نتنازل عن الأهداف العظيمة التى ﻻ يحققها سوي ثورة … لكنها الآن اقل حتى من موجة احتجاجات متواصلة ، لكنه ﻻ يعبأ بذلك ، ﻻ ينظر أصلا الى جمهورية الواقع ، ﻻ مكان لديه للنسب وتفاوت الظروف ، سيري بعين الرغبة اى احتجاج عادى مقدمة مؤكدة لثورته الجارفة ، وحتى لن يتوقف ليفكر .. لماذا انهزمت ثورته الجارفة ؟ وكيف يمكن أن تنتصر ثورة اخري في حال اندلاعها .. هذا الرغائبي المجاوز لكل ما يخالف رغبته الرفيعة والساخنة ، اقل من ان يقارن بال 300 جندى من اسبارطة الذين كان لديهم سلاح وخبرة وفرسان وخيل ، كانت الهزيمة محققة ولكن في معركة مشرفة وليس فى انتحار ظاهر المعالم .
مواطن مدينة الرغبات إن الخيل ﻻ تستخدم في الصحراء – ولكن الجمال – وﻻ تواجه البنادق بالكلمات ، وﻻ يحرك وجدان أمة سوى انتفاضة الألوف أو مئات الألوف ، ﻻ تكسب المعارك بتجاهل العقبات ولكن بدراستها وامتلاك أدوات لتخطيها أو هدمها ، وﻻ تنجح الثورات بالانتفاضات العفوية مهما تكررت ، المواطن الرغائبي ليست الرغبة سوى حلم قد يتحقق – إن توفرت أدوات تحقيقه – وقد ﻻ يتحقق ابدآ اذا تحول لشعار حلقي مغترب ، ثمة زمن متغير ومتقطع على ارض الواقع وليس زمنا صاعدا الى قمته فى سهولة التصوير الفنى ، هذا الزمن في مجراه الهابط ومنحدراته هو زمن العقبات واجتيازها وليس زمن بلوغ قمة الأحلام .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى