رأي

مصارحة أخوية

مصارحة أخوية
ما بال إخواننا في التيار الإسلامي لا يبصرون إلا ما يريدون إبصاره ولا يسمعون إلا ما يرغبون في سماعه؟ لا تعنيهم الحقائق الماثلة بقدر ما يلائمهم الخطاب الثابت عندهم الذي اجترّوه حتى غدا –بلا منازع– علامة على لغة الخشب؟ كيف لا والحال عندهم بألف خير، أما ما يتناوله الرأي العام من إخفاقات الإسلاميين وتراجع شعبيتهم وذهاب نسبة كبيرة من مصداقيتهم فليس –في نظرهم– سوى تكالب الخصوم وإثارة الإعلام المعادي ومشاغبات سيموت أصحابُها بغيظهم!! أين الكلام النظري عن المحاسبة والمراجعة والنقد الذاتي؟ أين سماع النصيحة من كلّ ناصح؟ قالوا: إذا أردتم نصحنا فكونوا معنا وتكلموا من الداخل، لكن كنا في هياكلهم ورأيناهم يرفضون الرأي المخالف ويفضلون التهليل والتصفيق لاختيارات القمة لأن الزعيم ملهَم بالضرورة… لا أبرئ نفسي، فقد جرفني التيار ردحا من الزمن لكن كما قال الله تعالى ” فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (سورة الأنبياء الآية 64)، رجعت إلى نفسي فلم أتنكر لانتمائي ولا تركت ساحة الدعوة والتدافع لكني، نزعت حجاب المعاصرة فأبصرت حقائق ملموسة ما زال كثير من إخواني يترفّعون عن إبصارها.

كتبت مرة أنبّه على أخطاء سجلتها على أصحابنا وذكرت أني من أبناء الحركة الإسلامية فردّ عليّ أحدهم بحدّة واضحة يقول: “أشكّ أنك من أبناء الحركة”، يعني هذا أن الخروج عن عادة التسليم والتأييد والتصفيق، دليل على الخروج عن الجماعة!!! فقلتُ في نفسي: هكذا تبدأ صناعة العبيد.

كلّ شيء على ما يُرام؟ الحركة رقم كبير في الساحة الجزائرية؟ الأطراف السياسية متخوّفة منها ومن قوتها؟ سبحان الله.

“الذين يتكلمون ويعلقون هم خارج هذا الإطار لسبب من الأسباب (…) إن مللتم من الفراغ وشعرتم بالسلبية في حياتكم وكرهتم من وضعيتكم، فكما خرجتم عودوا إلى بيتكم وادخلوا مؤسساتها وفعّلوها” (هذا ما ردّ به أحد الأصدقاء على مقالي الناصح).

إذا لم تكن هذه لغة الخشب فما هي؟ تذكرت أيام جريدة المجاهد والشعب والقناة اليتيمة لا أعادها الله علينا، وتبادر إليّ قول ابن عطاء “أصل كل معصية وغفلة وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفّة عدم الرضا عنها”، بل استحضرت المثل الشعبي “الواد مدّيه وهو يقول مَحْلاها بْرودة”.

للعوامل الخارجية دخل كبير في تراجع الحركة الإسلامية في الجزائر، لكن هروبها إلى الأمام هو في تقديري السبب الرئيس، فهي تصرّ على إنكار مشكلة الزعامة فيها، وتراجع نتائجها الانتخابية تراجعا رهيبا، وانفضاض الناس من حولها لأن أدبياتها وأداءها لم يعُد يجذبهم، أما أن يجتمع من تبقى من مناضليها مرة هنا ومرة هناك فيما يشبه الزاوية المغلقة ثم يظنون أنهم على شيء، وأن المستقبل لهم فهذا من الأوهام التي يدحضها أول احتكاك بالواقع، وخيرٌ لهم أن يستمعوا للنقد مهما كان مرّا بل حتى ولو كان فيه تحامل، فهو أنفع لهم من استمراء التآكل وذهاب الريح، وكيف لمن عجز عن توحيد الكائنات الصغيرة عن إنجاز المشروع الإسلامي الكبير؟

ولمشكلة الزعامة حضور قوي، فقد كان المشروع الإسلامي أمل الشعب الجزائري، آمن به تيار كبير من المواطنين، وانخرطوا في العمل السياسي لإنجاحه وانتظره الناس كبديل عن المشروع “الوطني” الذي فقد جميع عوامل البقاء حتى صفة الوطنية، وكسب قلوبا وعقولا وامتدّ طولا وعرضا وعمقا ردحا من الزمان، واستقطب نخبة شبابية واعدة اجتمعت فيها مؤهلات القيادة –كما رأيت ذلك من الداخل واستبشرتُ خيرا– لكن تضافرت عوامل عديدة داخلية وخارجية لإجهاضه، ليس هذا مجال تناولها وإنما أريد التوقف عند عامل حاسم نخر جسد الحركة الإسلامية في الجزائر منذ زمن طويل وما زال يتجذر ويُفسد حتى طفا وطغى، هو الصراع على الزعامة.

يرفض كثير من الإخوة إخراج الموضوع إلى العلن ويفضلون التبرير و”التبربير”، يهوّنون من الأمر ويسارعون إلى لغة الخشب والتفسير التآمري واتهام “الأيادي الخارجية”.

المشكلة موجودة بقوة عند الإسلاميين، ومعالجتها أفضل من إنكارها.
أعرف زعيما إسلاميا من الأوائل –ويعرفه غيري جيدا– يستحيل أن يتنازل عن القيادة، ويفضّل تمزّق حزبه واندثاره على التنازل للزعامة لغيره من إخوانه… ويبدو أن مرض الطواف حول النفس قد امتدّ إلى غيره.

فلنقلْها صراحة لإخواننا: الكرسي أصبح غاية عند كثير من قادة الأحزاب والجمعيات والهيئات الإسلامية في بلادنا، ومن المؤسف أن يلاحظ الرأي العام تخاصمهم من أجله، وهم الذين كانوا يعلّموننا أن من اتخذ المنصب ربا اتخذه المنصب عبدا، هم بَشرٌ نعم لكن تنافسهم على الزعامة نزل بهم إلى الحضيض، وهذا ما جعل الحركة الإسلامية تفقد كثيرا من مصداقيتها… هم السبب وقد حوّلوا أحزابهم وجمعياتهم وهيئاتهم إلى زوايا لا يُقبل فيها إلا نثر البخور حول الشيخ، فإذا ذهب نثروا البخور حول خليفته، وقد ضاعت أخلاق وقيم من أجل البقاء في المنصب، فتساءل الناس: أين الإخلاص؟ أين ابتغاء وجه الله؟ أين التقوى؟ وأصبحت الساحة تتوجّس من هؤلاء “المخلّصين” وتصدق كل ما يُشاع عن أموال هؤلاء الزعماء وممتلكاتهم ونفوذ أبنائهم وفسادهم، يصدق الناس هذا سواء صحّ أو كان اختلاقا لأن القرائن تؤكّد ذلك.

بسبب هذا التنافس المرَضي على الزعامة، غادرت طاقات كبيرة تلك الكيانات السياسية والدعوية والاجتماعية وآثرت السلامة، وبدل المغادرة كان ينبغي أن يتخلصوا من هؤلاء “المخلّصين” ليحلّ محلهم من يتمسكون بالسمت الرباني وهم يخوضون العمل السياسي والاجتماعي، لا يغريهم منصب ولا كرسي ولا غرض دنيوي.

ورحم الله فضيلة المرشد محمد مهدي عاكف، فقد رفض رفضا قاطعا الترشح لعهدة ثانية رغم إصرار الجماعة وترك المنصب لغيره من إخوانه، ومنصبه آنذاك أرفع بكثير من الكراسي التي يتنازع عليها أصحابُنا.

أنا أؤمن بالمشروع الإسلامي وبأصحابه، وإنما كتبتُ ما كتبت حبّا لهذا المشروع ولأبنائه وتألّما ممّا آلت إليه أوضاع كثير من الإسلاميين، فهل من استفاقة وهل من تصحيح للمسار؟ هذا… أو الطوفان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى